زبيدة

تُعتبر زبيدة من أبرز سيدات الدولة العباسية وأكثرهن شهرة، وكانت على درجة رفيعة من الثقافة والتذوّق الأدبي.

رُفِعَ الحِجابُ لنا فلاحَ لِناظِرٍ
قَمَرٌ تَقطّعُ دونهُ الأوهامُ
أصبَحتَ يا ابنَ زُبَيدَةَ ابنةِ جَعفَرٍ
أمَلاً لِعَقدِ حِبالِهِ استِحكامُ
فَسَلِمتَ لِلأمرِ الذي تُرجى لهُ
وتقاعَستْ عن يَومِكَ الأيامُ

هذا القمر الذي عندما رُفع الحجاب الذي كان يُخفيه عن أعين الناظرين فاق بحسنه الخيال، هو طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره يُدعى  محمد الأمين بن هارون الرشيد من زوجته زُبَيدَة بنت جَعفر بن أبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العبّاس بعد أخيه أبي العبّاس السفّاح.

وهذه الأبيات من قصيدة لأبي نُواس الحسن بن هانئ (762 - 814)، ألقاها في حفل الاستقبال الذي أقامه الرشيد بمناسبة تعيين ابنه محمد الأمين ولياً للعهد، على أن يكون ولده الآخر عبد الله المأمون الذي ولِد قبل الأمين ب 6 أشهر ولياً لعهد أخيه مع احتفاظه بولاية خُراسان، وتمتّعه بالاستقلال في تدبير أمورها من دون تدخّل من الأمين.

وكانت السيدة زُبَيدة ذات سلطان ونفوذ على زوجها وابن عمّها هارون الرشيد، وهي التي حملته على تعيين ابنها ولياً للعهد بحجة أنه هاشمي من قِبل الأب والأم معاً، بينما كان المأمون ابن جارية فارسية يقال لها مراجل توفّيت بالنفاس بعد ولادة المأمون وتولّت زُبيدة تربيته مع ابنها محمد الأمين. 

وكما فعل أبو نُواس، ركّز الشعراء المهنّئون على ذكر زُبيدة باعتبارها أمّ خليفة وزوجة خليفة وحفيدة خليفة، فقال مروان بن أبي حفصة (723 - 798):

لمّا سَمِعتُ بِبَيعَةٍ لِمُحمّدٍ
شَفَتِ النفوسَ وأذهبَتْ أحزانَها
بايَعتُ مُغتَبِطاً ولو لم تنبَسِطْ
كَفّي لِبَيعَتِهِ قَطَعتُ بَنانَها
رَجَحتْ زُبَيدَةُ والنِساءُ شَوائلٌ
واللهُ أرجَحَ بِالتُقى مِيزانَها

غير أن القدر لم يبتسم في النهاية لزبيدة، لأن خلافة ابنها لم تستمر أكثر من 5 سنوات (809 - 813) تخلّلتها الحروب بينه وبين أخيه المأمون، بعد أن عمد إلى عزله عن ولاية عهده لمصلحة ابنه وانتهى الأمر بمقتله وتولي المأمون منصب الخلافة، إلا أنه كان بَرّاً بالسيدة زُبيدة لأنها كانت بمنزلة الأم عنده وقد أحسنت تربيته، لكنّ الملك عقيم. 

عاشت زُبَيدة (766 - 831) نحو 20 سنة في خلافة المأمون مكرّمة. وكانت في عهد زوجها هارون الرشيد محبة لأعمال الخير وبناء المرافق ذات المنفعة العامة. من أهم أعمالها بناء أحواض لسقاية الحجيج في طريقهم من بغداد إلى مكّة المكرّمة، فيما عُرف بدرب زُبَيدة، وإليها
تُنسب عيون زُبيدة في مكة. وكانت قد مرّت ببيروت فوجدت الماء فيها قليلاً فأمرت بجرّ الماء من نبع العرعار في جبل لبنان إلى بيروت، حتى وصل إلى وادي المكلّس، فبنوا له طبقات قناطر حتى جرى الماء فوقها إلى جانب الوادي الآخر وانساب إلى بيروت وهي ما يُعرف بقناطر زُبيدة. 

تُعتبر زُبَيدة من أبرز سيّدات الدولة العباسية وأكثرهنّ شُهرة وكانت على درجة رفيعة من الثقافة والتذوّق الأدبي، تعرف الشعر وتنظمه، راعية للفنون وصاحبة اتجاه جديد في الملابس، وهي أول مَن اصطنع القباب من الفضة والأبنوس والصندل، وكانت تفضّل الألوان الزاهية وتتخذ الخِفاف المرصّعة بالجواهر. وكانت نساء الطبقة الميسورة في بغداد حريصات على نسخ تصاميم ملابسها البرّاقة. قال فيها نُصَيب الأصغر (ت 791):

لقد سادت زُبَيدةُ كلَّ حَيٍّ
ومَيتٍ ما خلا الملِكَ الهُماما
تُقًى و سماحةً و خُلوصَ مَجدٍ
إذا الأنسابُ أخلصتِ الكِراما
بلغتِ مِنَ المفاخِرِ كلَّ فخرٍ
وجاوَزتِ الكلامَ فلا كلاما 

إلى هذه السيدة يعود انتشار اسم زُبيدة وبقاؤه قيد التداول حتى اليوم. لكن يكاد يكون من المؤكّد أن اسمها الأصلي هو أمَة العزيز، وهو يعادل اسم العلم المذكّر عبد العزيز. قيل إن جدّها أبو جعفر المنصور كان يدلّلها ويرقّصها في طفولتها ويقول لها: زُبَيدة، أنت زُبَيدة، لِبَضاضَتها ونَضارتها وبياض بشرتها، فغلب عليها اسم المداعبة وصارت تدعى زُبَيدة.

وزُبَيدة لغة تصغير زُبْدَة. والزُبدة هي ما يُستخرج من الحليب بالخضّ. والزُبْدةُ خيارُ الشيء وخُلاصته وأفضله. وزُبدة الكلام قليله ومفيده. مشتقة من أصل لغوي هو الزاي والباء والدال، يدلّ على تَولُّد شيء عن شيء. من ذلك زَبَدُ الماء و غيره. يقال: أزبدَ البحر إزباداً، إذا دفع بِزبده. وأرغى فلان وأزبد، إذا غضِب وتهدد، وذلك خروج الزبد من فمه.

والزَبَدُ هو ما يعلو الماءَ وغيره من الرغوة. ومنه قرآناً: "فأمّا الزَبَدُ فيذهبُ جُفاءً وأمّا ما ينفعُ الناسَ فَيَمكُثُ في الأرضِ"، قيل في تفسيره: إشارة إلى أنّ الزبد يتبدّد ويتلاشى مثلما يتلاشى الباطل والضلال.

ومن الباب الزَّبْدُ وهو العطيّة. يقال: زَبدتُ الرجلَ زَبْداً، إذا أعطيته. ومنه اسم العلم المذكّر زُبَيد وهو تصغير زَبْد. وبنو زُبَيد قوم من العرب يُنسبون إلى جدّ لهم يدعى زُبَيد والنسبة إليهم زُبَيدي. قال ابن دُرَيد في كتاب" الاشتقاق" سمّي بذلك لقوله: مَن يزبدني رِفدَه، أي من يعطيني رِفدَه، فسُمّي زُبَيداً.