زوايا التاريخ المنسية

هناك فارق كبير بين التأريخ والتاريخ. التاريخ الحقيقي هو حكايات الشعوب المضحية - المتألمة - الرازحة تحت نير القهر والمواجع.

  • (سعيد الأتب)
    (سعيد الأتب)

ما أقبح ذاك النهار، يوم اضطررنا إلى دخول قسم التاريخ في تلك المكتبة. جذبتني أصوات تأوهات موجعة. لاحقتها. أوصلتني إلى باب، فتحته خائفة ودخلت! بكاء وعويل، وأسراب غراب البين تنوح فوق آلاف الجثث المتحللة!

فظيع ما رأيت! صادم!

فقدت صوتي لهول المشهد! جذبني أستاذي وقادني إلى الخارج لعلّي أستعيد أنفاسي. كان قلقاً/ وهو يناولني زجاجة الماء، قائلاً: ما الذي أدخلك هناك؟

قلت وأنا بالكاد ألتقط أنفاسي: لفتتني الأصوات... سمعت... سمعت.

أجاب: حسناً... اهدئي. لا داعي للذعر. أنا معك فلا تخافي.  

طلب إلى النادل فنجاني قهوة، وأنا ما زلت أحاول أن ألملم شتات نفسي وأستعيد توازني، بينما نجلس في مقهى مقابل المكتبة العامة، حيث كنا قد قصدناها، بهدف البحث عن وثائق وكتب في قسم التاريخ. فأنا طالبة في مرحلة تحضير رسالة دكتوراه في التاريخ الاجتماعي لدول الشرق الأوسط، التي عانت من ويلات الحروب.

استعدت توازني، نفسياً وعقلياً، بفضل قهوتي - كما أحبها - سادة، سوداء ومن دون هيل.

سألت أستاذي: ماذا يوجد في ذلك المكان؟

ابتسم بود وقال: لم أكن أود أن تعرفي وجود ذاك القسم، بهذه الطريقة الصادمة.

أجبت بتصميم: أرجوك دكتور، أخبرني ولا تخف عليّ، لقد استوعبت الصدمة وأنا جاهزة لأسمع.

أجاب وهو يحرك يديه، بأن حسناً، كما تشائين: وراء الباب الذي فتحته، يوجد كهف الأسرار التاريخية.

نظرت إليه بتساؤل، فتابع: هناك يوجد ضحايا الحروب كافة ووقودها، من أناس لم يذكرهم التاريخ إلا كأرقام.

أثار فضولي بكلامه، فسألت: هل يمكنك أن توضح أكثر لو سمحت؟

طلب لنا فنجاني قهوة من جديد وأشعل لفافة تبغ وقال: دعيني أولاً أطرح عليك سؤالاً. ماذا تعرفين عن ضحايا مجزرة دير ياسين التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين عام 1948؟

حرت جواباً، ففتحت هاتفي أتحرّى في الشبكة العنكبوتية، ثم قلت: بحسب موقع ويكيبيديا، فإن عدد الضحايا قُدّر بـ 250 و360 شخصاً، بحسب المصادر العربية! كان معظمهم من الأطفال والنساء والعجزة!

هزّ رأسه وقال: وماذا تعرفين عن مجزرة صبرا وشاتيلا؟

أيضاً استعنت بهاتفي وأجبت: بحسب ويكيبيديا أيضاً، فإن عدد الضحايا لم يُعرف بالتحديد، لكن التقديرات تشير إلى أنهم بين 750 و3500 من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين!

ابتسم وقال: ألم تلاحظي شيئاً في ورود الأرقام؟

ازدادت حيرتي وقلت: لعله ذكر الضحايا تحت مسمى ضحايا أو قتلى، لكنهم بالتأكيد شهداء.

نظر إلى وجهي بتمعن وهز رأسه وقال: وهو كذلك. حروب متنقلة - مجازر -  احتلالات -  اعتقال - ظلم - قتل - مجاعات - عبودية - استرقاق... كل ذلك في نظر التاريخ مجرد أرقام! لكن ماذا عن إنسانيتهم؟ عن معاناتهم؟ مخاوفهم؟ أوجاعهم؟ معاناتهم في الأسر وبعد الأسر؟ معاناة عائلاتهم؟ ماذا عن المعوّقين؟ ماذا عن المعاناة النفسية "للناجين" من الحرب والأسر والاعتقال؟ ماذا عن الناجين من المجازر؟ هل هم حقاً ناجون؟ ماذا عن فقد الأبناء والأحبة؟ وماذا عن... وعن؟

التاريخ لا يذكر معاناة الناس كأناس لهم أرواح، لا يذكر آلامهم - ثكل الأمهات - يتم الأبناء - الإعاقات - الجوع - العطش - البرد - التهجير. إليك آخر الشواهد وأفظعها، ما يجري اليوم في فلسطين! لعل أصدق ما يقال عن حالهم وحالنا معهم قول محمود درويش: "كل الذين ماتوا نجوا من الحياة بأعجوبة". 

حضرت في ذهني صور المجازر التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة، وخصوصاً محرقة مستشفى الشفاء. شرقت بدموعي. 

تابع كلامه مستاءً: للأسف، فإن معاناة المدنيين تزايدت مع تطور الأسلحة، فالطائرات  الحربية أصبحت تنشر الموت والرعب في أنحاء البلاد... في دقائق معدودة!

مسحت دموعي وأنا أقول: دائماً أسأل إلى متى ستعاني النساء والأطفال بسبب الحروب؟ لماذا تخاض الحروب على أجساد المدنيين وأرواحهم، وخصوصاً النساء والأطفال؟ ودائماً أصل إلى حائط مسدود!

أجاب أستاذي: لأنه قدر الشعوب... فلا حرية من دون نضال، ولا أمان من دون تضحيات.

بعد صمت برهة قلت: إذاً، التاريخ الحقيقي هو في القصص التي لا تذكر!

أجاب موافقاً: بالتأكيد هو هذا، فارق كبير بين التأريخ والتاريخ. التاريخ الحقيقي هو حكايات الشعوب المضحية - المتألمة - الرازحة تحت نير القهر والمواجع. 

عمّ الصمت حولنا، كما لو أن العالم قرر الوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء، وعلى معاناة البشرية منذ أن وجدت. 

قطعت الصمت وقلت: أتسمح لي دكتور بأن أضيف إلى رسالتي بحثاً في هذا الموضوع؟

أجاب مبتسماً: بالتأكيد أوافق، فهذا سيغني رسالة الدكتوراه.

أجبت: سيكون، بإذن الله، تحت عنوان "زوايا التاريخ المنسية"، والعنوان الفرعي "حكايات عن الحرب لا يرويها التاريخ".