سطوة الفضيلة الأدبيّة ونرجسية القارئ

يحبّ القارئ الكاتب المتواضع تواضعاً يشبه البُخل. ذلك التّواضع الذّي لا يُشعرهُ بالحرج والذّي يطالبهُ من خلاله بأن يكون في متناوله. يرفض القارئ النرجسيّ أن يتفوّق عليه الكاتب، بأن يتحدّث عن نفسه بنفسه.

  • ياسمينة خضرا
    ياسمينة خضرا

قال فرناندو بيسوا يوماً: "لم أعد أقرأ إلاّ الجرائد، ولم يعُد شكسبير قادراً على تعليمي كيف أكون ثاقب الفكر".

قد يتبادرُ لنا من هذه الجملة شكلٌ من أشكال التبّاهي والإعجاب بالذّات، وقد لا يعجبنا الذّين يملكون القُدرة على مدح أنفسهم بسهولة ومن دون عناء انطلاقاً من تجاوز أعراف الآخرين، وهذا خلل يتعلّق بنا لا بهم، لأنّنا لا نسأل أنفسنا مطلقاً "ماذا لو كنّا نحن من نتجاوز بدلاً عنهم؟". ألا يحقّ للكاتب أن يُمارس تقديره لذاته من دون أن يلاحقهُ العالم بالفضيلة ويلطّخه بالنرجسيّة؟ وهل حقاً حينما يتحدّث عن إنجازاته يعتدي على حق الآخرين في الحديث عنه؟ ألا يحقّ له الحديث عن نفسه؟ 

يعيشُ الأديب حياة ملأى بالحذر خارج ورقته البيضاء، مثلما يعيشُ أدباء آخرون حذرهم داخلها. تفرضُ عليه الحياة الأدبيّة سلسلة من المتطلّبات فور تمكنّه من الانتشار، وتطالبه بأن يردّ في كلّ مرّة على الأسئلة الموجّهة إليه بالشّكل الفاضل الذّي وجب سماعه، وهذا ما يجعلنا نراه يتلعثمُ حينما يتحدّث، وقد يبدو خجلاً كثيراً على عكس جرأته في الكتابة، وتبدو كلماته وكأنّها تبحثُ عن قياس يتلاءم وجسداً حُدّد مسبّقاً، فيفقد مقدرته على الكلام، لا لأنّه يعجز على تركيب جملهُ الشفهيّة، بل لأنّ قياس هذه الجمل تحديداً يبدو شريراً للآخر، وما إن يتجرأ على اختيار قياس حقيقيّ لجسد الكلمة حتّى تهجم عليه القياسات القديمة وتُدينه بالتّعالي عليها، وبهذه الطريقة سحب كثير من الآراء الحرّة وتعليقها من رقبتها، وأصبح الكاتب إذا ما تحدّث انسحبت منه لغته وسيطرت عليه لغة المجتمع الأدبيّ الفاضلة، فهل يخترع النّاس الفضيلة بغية إخراج أجمل ما فينا أم أنّها تتحول إلى كتمان أجمل ما فينا؟

الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا صرَّح في ندوة أدبيّة في الجزائر قائلاً: "أنا من أوصلت الرّواية الجزائرية إلى العالمية"، مستمداً القوة في إجابته هذه مما يقدّمه أدبياً ويستجاب له عن طريق الأرقام الكبيرة لمبيعاته. إنّه مقروء وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 50 لغة وحوّل بعضها إلى أعمال سينمائية ومسرحية، هذا ما يتمناه أيّ كاتب. جملته حقيقيّة بمنظوره الخاصّ إذا ما اعتمدنا المعايير نفسها التّي جعلته يتوصل إلى نتيجة كهذه، واعتراض البعض حقيقيّ أيضاً إذا ما أخذنا بالاعتبار معاييرهم التي تتمثّل في استحضار محمد ديب وعمله "الدار الكبيرة"، وكاتب ياسين في عمله "نجمة"، وآسيا جبار في روايتها "العطش"، وغيرهم. لكن هل كان ياسمينة نرجسياً حقاً وهو يصفُ نفسه أدبياً؟ ماذا عن نرجسيّة القرّاء؟

تلقّف الوسط الأدبيّ الجزائري تصريح ياسمينة خضرا بكثير من الرّفض، وعده نوعاً من التّطاول على من سبقوه في الخروج من ذلك الباب، باب عالمية الرواية الجزائريّة، وأصبح تصريحه شبيهاً بالرّذيلة، مع أن الكاتب كان صادقاً في حديثه، وصدقه الذّاتي الذّي صرّح به انطلاقاً من نفسه لم يعتدِ به على الأدب، ولا على الذّين سبقوُه إلى العالمية أمثال محمد ديب ومولود معمري ورشيد بوجدرة وآسيا جبار وكاتب ياسين، بل على القارئ الأدبيّ كما يبدو.

هذه الأذن التّي تريد بدورها سماع ما اعتادت سماعه من مديح عن كاتبٍ ما لكن ليس من فم الكاتب نفسه، لن تغفر هذا الشّر الذّي يجعلها تشعرُ بالعجز، عجز تقدير الذّات، فتُسارع إلى صبغ هذه التّصريحات بمصطلحات غير فاضلة، كأن تتحدّث عن نفسك وأنت فرح بنفسك فيُطلق عليك بالنرجسيّ.

المجتمع الأدبيّ لا يختلف كثيراً عن المجتمع العام. لقد نقل طِباعه العامّة إلى الأدب أيضاً، وحتى يضمن السّلامة الأدبيّة واستمراريّة النوع، وضع لها طابع الإجبار والإلزام، وبمرور الوقت اكتسبت القوى الإجبارية أدبياً شكل التّقاليد والأعراف، وتحوّلت إلى ما نسميّه "الضير الشخصيّ" الذّي يراه نيتشه أكثر من سلطة مستبطنة، وهكذا نشأت مفاهيم الفضيلة الأدبيّة والأديب الفاضل، فحب السّيطرة يمكنه أن يمنعك عن الحديث عن نفسك بطريقة أدبيّة قاهرة.

صرّح رشيد بوجدرة يوماً: "أنا أوّل من أدخل الجنس إلى الرّواية العربيّة"، كان من المُعترضين على تصريح ياسمينة خضرا، وهنا لا نعلم، هل ندافعُ عن حقّ الكاتب في الحديث عن نفسه وتقدير ذاته أم أنّ الكلّ تحوّل من فن أدبيّ إلى سلطة أدبيّة؟ ففي الأرجاء الثقافيّة أشيع عمداً أو من دون قصد أنّ الفضيلة تكمُن في التّواضع وإنكار الذّات، وعليه احتجزت الآراء وأطلقت الأحكام المسبّقة، وبقي الأديب متهماً بالتّعالي كلّما تحدّث عن نفسه بصدق.

هذا الخطف الأخلاقي جعل كثيراً من الأدباء يبتلعُون بكثير من الأسف حقهم في تقدير ذاتهم، هم جيدون كلّما أنكروها، الجماهير وحتى الوسط الثقافي يطالبهم بأن يصمتوا، أن ينتظروا من مجهول ما الحديث عن منجزاتهم بما تستحقه، وفي ذلك الانتظار الطويل والصمت المصلت يمضي كثير من الأسماء الأدبيّة الرائعة بعيداً من قرائها، وينسى أو يتناسى السلطويون أن الأديب يحتاجُ إلى من يشيرُ إليه مثلما تحتاجُ الحدائق الجميلة البعيدة عن المدينة إلى الحديث عنها. أن توضح الطريق التي ستأخذنا إليها لنعيش تلك الجولة سيراً على أقدامنا، بدلاً من أن تعزلها بصمتك عنها، وإذا لم يتوافر كل هذا فيكفي أن تطلق وردها وأزهارها وعبيرها في الأرجاء لتقوم الحديقة بنفسها بالحديث عن نفسها. إنني أشتركُ مع هنري ميللر في نقطة ضعفه الجميلة التّي أشار إليها في حديثه يوماً عن القراءة، وهي "الصّياحُ من فوق السطوح عندما أعتقد أنّني اكتشفتُ شيئاً ذا أهميّة حيويّة".متى يتخلّى القارئ النرجسيّ عن فكرة التّواضع الذي يقصدُ به إنكار الذّات؟

يحبّ القارئ الكاتب المتواضع تواضعاً يشبه البُخل. ذلك التّواضع الذّي لا يشعرهُ بالحرج والذّي يطالبهُ من خلاله بأن يكون في متناوله. يرفض القارئ النرجسيّ أن يتفوّق عليه الكاتب، بأن يتحدّث عن نفسه بنفسه، في علاقة يكون فيها هو الوحيد الذي يحق له الحديث عن الأديب. يحبّ رؤيته صامتاً يصعبُ عليه تقدير ذاته. يريدُه ضعيفاً أمامه يسهل عليه –إذا لزِم الأمر - إسقاطه أو التّقليل من شأنه، لهذا يعاني هذا النّوع من القرّاء -سواء أكانوا قراء فقط أم قرّاء وكتاّباً في الوقت نفسه - نرجسية مغلفة جيداً بماهيّة "التّواضع". سلطة تحت غطاء الفضيلة.

هكذا نراهم على حقّ دائم، هذا التّخفي يمنحهم مساحة مُريحة لتغطية "الأنا" بالآخرين، إنّهم إذ يدافعون عن فضيلة "التّواضع" المشتبه فيها هذه يقومون بالدّفاع عن "أناهم" في الوقت الذي تظنّ فيه أنّهم يدافعون عن الآخرين.

الكاتب القارئ مثلاً سيدافع عن أسماء أدبيّة أخرى، ربّما ليس تقديراً لهم فقط بل تقديراً لذاته من خلالهم، فالكثيرون لم يملكوا شجاعة الرّد على ياسمينة خضرا انطلاقاً من ذاتهم ومنجزهم الأدبيّ كما فعل هو حينما دافع عن نفسه انطلاقاً من نفسه، وقد لجأ البعض إلى تبنّي فكرة تقليدية باهتة تعتمد على ربط أكثر الأعمال مبيعاً دائماً بالعاديّة، ووصفها بالشعبيّة. هذا الوصف غير الأدبيّ الذّي يخلق طبقيّة مقيتة داخل الأدب بين القرّاء والكتاب على حدّ السّواء يرادُ به التقليل من الكاتب ومن قرائه دُفعة واحدة، وكأنّ الكاتب الذّي يقرأ أعماله النّخب ليس كالكاتب الذّي يقرأ أعماله القارئ العاديّ أمثال ميسوا وياسمينة خضرا، وهي مقولة مبطّنة تحمل نرجسيّة مريضة تعني أن ما يُعجب العامّة بالضّرورة سينقصه ذلك الرقيّ الأدبيّ المَصون داخل الأكاديميات الأدبّية الأرستقراطيّة.

حدث هذا الأمر مع أعمال جين أوستن قديماً، وامتنع هنري ميللر عن قراءة "مرتفعات ويذرينغ" لإميلي برونتي لكثرة الحديث عنها وطلبها، مستنتجاً بطريقة ساذجة أنّ من المستحيل أن تكُون رواية إنجليزية ومن تأليف امرأة بتلك الجودة. لكنّه ما إن استقرّ بين يدي "جين فرادا" وسار في دمه سمّها حتى اكتشف أنّه كاد يفوّت على نفسه واحدة من أعظم الروايات بسبب كبريائه وتحامله.