سليمان منصور للميادين نت: بير زيت جنّتي والتشكيل الفلسطيني سياسي

يرفض نعته بـــ"عرّاب الفنّ التشكيلي الفلسطيني". "الميادين الثقافية" تُجري حواراً مطوّلاً مع سليمان منصور بشأن التشكيل الفلسطيني وطفولته وجنته الأولى.

من الصعب أن نتحدّث عن الفنّ التشكيلي الفلسطيني من دون أن نذكر الفنّان سليمان منصور، أو أنّ الأمر يكاد يكون شبه مستحيل. فبعض الأوساط الفنيّة والثقافيّة، وحتّى كثيرون من المحبّين لفنّه، يطلقون عليه لقب "عرّاب الفنّ التشكيلي الفلسطيني"، على الرغم من أنّه لا يحبّ هذه الألقاب والتصنيفات، كمّا صرّح في حوار مع "الميادين الثقافيّة".

فسليمان منصور الفنّان لا يجيد مهارة الانفصال أو الانقطاع عن واقع فلسطين، إذ وثّق، على مدار 50 عاماً، المزاج الفلسطيني العام، والحالة السياسية لفلسطين، وحكاية الصمود، من خلال أعماله الفنّية.

ومن يتابع أعماله ويتأمّلها يستطِعْ أن يلاحظ تكرار بعض العناصر والرموز التي تزخر بها لوحاته، وتكون محوراً أساسياً يرتكز عليها وفي صلبها. من القدس، المرأة الفلسطينية بثوبها المطرّز عبر تصاميمه، التي غالباً ما ترتبط بالأرض، وطبيعة فلسطين، ومواسم الخير الفلسطينية، كموسم قطف الزيتون والبرتقال اليافاوي، بالإضافة إلى بعض الأعمال التي أنتجها في الأعوام الأخيرة، والتي يمكن عدّها نظرة إلى حاضرنا وواقعنا الحالي بعيون الماضي، بحيث تبقى فلسطين قلب الحاضر.

تحدّث سليمان منصور، في حوار مطوّل مع "الميادين الثقافية"، أُجري معه على هامش معرض "طبعة محدودة"، المقام حالياً في "غاليري زاوية" في مدينة رام الله، والذي سيستمر حتى 12 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. 

يحتفي المعرض بأعمال منصور، والتي تمّ اختيارها بعناية من خلال إطلاق مجموعة حصريّة من الطبعات الفريدة والموقّعة من الفنان، كان أنتجها خلال مسيرته منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي.

***

سليمان منصور الطّفل وجنّته الأولى. أعدنا إلى يوم في حياة منصور الطّفل، ما الذي يفعله؟ وأين سنكون غالباً في فلسطين؟

توفي أبي عندما كنت طفلاً. كنت تقريباً في السادسة من عمري، وأمي أخذتني إلى مدرسة داخليّة. فنحن 6 أخوة، 3 أولاد و3 بنات. آنذاك، كان يُطلق على المدارس الداخلية، مدارس أيتام، واحدة في بيت لحم وواحدة في بيت جالا. جلّ ذاكرة طفولتي في المدرسة الداخلية. لكن بالطبع، في أشهر الصيف، يعود الجميع إلى بلده. كانت بير زيت بالنسبة إلي هي الجنّة، وذكريات طفولتي في بير زيت كثيرة. لدينا هناك قطعة أرض كبيرة، فيها البيت الذي ولدت فيه، وإلى جانبه عين ماء، وأسفل البيت برك سباحة بريّة. واسم المنطقة هذه "السّقي" بسبب كثرة عيون المياه.  أمضيت وقتاً طويلاً هناك. بير زيت هي جنّتي كطفل، وأعدّها وطني. كنت أعدّها أن هذه هي فقط حدود فلسطين. 

عشت معظم وقتك كطفل في المدرسة الداخليّة، وهي حيّز مغلق، إلّا أنّ ما نشاهده في أغلبية أعمالك هو حيّز مفتوح وواسع، كيف تفسّر ذلك؟

كانت شهور الصيف الثلاثة التي أمضيتها في البلد، في بير زيت، هي قمّة السعادة بالنسبة إليّ. لذلك، فإن ذكرياتي الأولى دائماً هناك. كان لتلك الفترة تأثير كبير فيّ وطويل الأمد، فتلك المنطقة امتازت بكثرة أشجار الزيتون.

ويفسّر منصور ذلك التناقض للوهلة الأولى من خلال بحث أجراه على رسوم الأسرى: "أجرينا دراسة عن الفنون التي أُنتجت داخل السجون، ولاحظنا أنّ أغلبيّة اللّوحات التي تخرج من هناك كلّها ورود وأزهار وشموس. أشياء فيها من الأمل والحريّة والتطلّع، وربّما هذا يفسّر التناقض بين أعمالي والحيّز المغلق الذي ترعرعت فيه، تماماً كالسجن".

هل يمكننا القول إنّ الحريّة التي اتسّمت بها أعمالك هي توق إلى حريّة سليمان الطفل أيضاً؟

ممكن. هذه هي المرّة الأولى التي أفكر في هذا الأمر. لكن دعيني أقُل لك شيئاً، كي أكون صادقاً مع نفسي: أنا واحد من أبناء هذا الشعب، كأنني أنطق بلسانهم. من غير الممكن أن أُنتج شيئاً غريباً عن الناس، سواء كان في حزني أو في غضبي أو في أملي. أنا واحد من الناس، وآمالهم هي آمالي.

أنت ترسم وتنتج منذ أكثر من 5 عقود، متى اكتشفت أنك رسّام؟

كلّي إيمان بأن الفنان ليس هو من يقرّر أن يكون فناناً بنفسه. المجتمع والمحيطون يغسلون دماغه. هو ضحيّة! نعم للفنان موهبة، ويرسم، إلّا أن المحيطين به هم من ينعتونه بالفنّان ويطلبون منه أشياء تُطلب من الفنّانين والأساتذة. على سبيل المثال، عندما طلبوا مني أن أرسم وسائل إيضاح. أذكر في بير زيت، كان شخص يملك صورة لجدّه الذي توفي، وكانت ممزّقة بالأبيض والأسود، فجاء إليّ طالباً رسمها بالألوان. كان عمري بين 10 و12 عاماً.

وهكذا، رويداً رويداً، بدأت أشعر بأنّي فنّان. وكنت أتقاضى مبالغ في مقابل هذه الرسوم. أذكر أيضاً الجائزة الأولى التي حصلت عليها كفنّان، كان عمري 13 عاماً، واشتركت في مسابقة نظّمتها الأمم المتّحدة وكسبت جائزة مقدارها 200 دولار، آنذاك كان هذا المبلغ خيالياً. لذلك، عندما أنهيت المدرسة، لم أفكّر كثيراً في اختيار موضوع للدراسة. كان واضحاً بالنسبة إلي أنني سأرسم، ونفسياً كنت مستعداً لذلك.

في عدد من الأوساط الفنّية والثقافيّة، وخصوصاً من الجيل الجديد، يلقبونك بــ "عرّاب الفن الفلسطيني التشكيلي"، كيف تعقّب؟

أنا لستّ عرّاباً لأي شيء. حتى إنني لا أستطيع تحديد ما إذا كانت الكلمة جيّدة أم سيّئة. لا أحبّ النظر إلى نفسي كأني متميّز عن سائر الفنّانين. القضية ليست بالأسماء ولا بالألقاب. لكن إن كانوا هم من ينظرون إليّ بهذا الشكل فهذا شرفٌ كبير لي. 

من ملهمك الأوّل؟

بالعودة إلى مدرستي الداخليّة، المدير آنذاك، واسمه فيلِكس تايس، وهو من أصول ألمانية، كان أنشأ نوادي متعددة داخل المدرسة: نادياً فنّياً، ونادياً موسيقياً، ونادياً للقراءة والمطالعة. وأنا بالطبع اخترت النادي الفنّي ونادي القراءة. كان يمكن الاشتراك في ناديين اثنين. في نادي الفنّ، زوّدنا المدير بالأدوات لنرسم، لكن كان يجب أن يكون العمل جماعياً، وهذا ساعدني بصورة كبيرة لاحقاً على كيفيّة العمل مع الفنّانين الآخرين. لذلك، كنت قادراً على تأسيس "رابطة الفنّانين في الأرض المحتلّة" في عام 1975 وإطلاقه، واستمرّت لغاية عام 1990، وكان للرابطة دور مؤثر في الفن التشكيلي الفلسطيني.

4 حِقَب زمنيّة لصياغة الفنّ التشكيلي الفلسطيني

في محاولة لفهم كيف يلائم الفنّان إنتاجه مع الهمّ الوطني والواقع السياسي، طرحنا على الفنان منصور هذا السؤال: هل يمكن تقسيم الفنّ الفلسطيني إلى حِقَب زمنيّة؟

وكانت إجابة منصور بأنه بالفعل هناك فترات زمنية متعددة للفنّ التشكيلي الفلسطيني، وفقاً لتجرته الطويلة وخبرته الواسعة. 

وأشار إلى أنه، في بداية السبعينيات حتى الثمانينيات، كان هناك شبه إنكار عالمي لهويّة الشعب الفلسطيني ووجوده، فكان هَمّ المبدعين الفلسطينيين الأوّل، سواء كان في الأدب أو الفنّ التشكيلي، هو إبراز هويّة الشعب الفلسطيني، من خلال استخدام الرموز.

وبشأن الهويّة، يضيف منصور أن "الهويّة هي شيء مجرّد، لا شكل له. وكان علينا أن نجد شكلاً يعكس هويّتنا بصرياً، فبحثنا في المصادر التاريخيّة، وحتّى الفنون الكنعانية القديمة، أو فنون الفلسطينيين القدامى. وحتّى إنّنا استفدنا من فنون حضارات ما بين النهرين والفنّ الإسلامي، وخصوصاً الزخرفة. وفي الثقافة الفلسطينية، كان للتراث والأزياء الشعبية والمشهد الطبيعي لفلسطين والعَمارة تأثير كبير، وكذلك هناك رموز من التراث العالمي، كحمامة السلام وقضبان السجون". 

أما الحِقبة الثانية للفنّ التشكيلي الفلسطيني، في نظر منصور، فكانت الانتفاضة الأولى. ويقول إنّ فلسفة الانتفاضة الأولى أثّرت في بعض الفنّانين: "تلخّصت فلسفة الانتفاضة الأولى في الاتّكال الكلّي على الذات، ومقاطعة المنتوجات الإسرائيلية. ليس الفنّانون فقط، بل أصبحنا نرى أن الناس بدأوا يزرعون الخضار، حتى في أصغر قطعة أرض إلى جانب بيوتهم ليأكلوا منها".

كيف انعكست فلسفة الانتفاضة على العمل التشكيلي؟ 

شخصياً، اتّجهت إلى استخدام الطّين في أعمالي. تذكّرت جدّتي التي استخدمته في السابق في بناء بيوت للنحل، ووجدت أنه مادّة طبيعيّة خام بديلة من ألوان الزيت والإكريليك. الفنّان الفلسطيني، نبيل عناني، على سبيل المثال، اتّجه إلى استخدام الجلد والحنّاء في أعماله. آنذاك، قبيل فترة الطّين، كنّا عَدَدْنا أنفسنا، نحن الفنّانين، شيئاً مهماً في الثورة الفلسطينيّة، وأن لنا مكانتنا. لكن، مع اشتعال الانتفاضة، وعندما خرجنا إلى المظاهرات، لم يعرفنا الناس، وهذا الشيء أعادنا إلى "الاستوديو"، ولم يعد يتملّكنا الخوف من أن نجرّب استخدام مواد جديدة في إنتاجاتنا.

وهكذا، تبنّينا فلسفة الانتفاضة في الاتّكال على أنفسنا. أعتقد أنني وبعض الفنانين، الذين استخدموا المواد الطبيعية آنذاك، كالفنّان نبيل عناني وتيسير بركات والفنّانة فيرا تماري، نجحنا في أن نعكس روح الانتفاضة، وأسسنا مجموعة "نحو التجريب والإبداع". وبالفعل، بدأ الفنانون خوض تجارب جديدة، فمن كان يرسم بطريقة لطيفة، على سبيل المثال، أصبح رسمه أكثر عنفواناً، كأنك أصبحت تشعر بقوة ضرب الريشة على اللوحة، بالإضافة إلى استخدام الحجر ونحته، ففي تلك الفترة كان للحجر قدسيّة.

أمّا الحقبة الثالثة، فهي ما بعد توقيع اتّفاقيّات أوسلو. يقول منصور: "في تلك الفترة، اعترف العالم بالشعب الفلسطيني، لكن بالنسبة إلي كان هذا نصف اعتراف، بمعنى أنه اعتراف منقوص. نعم، يوجد شعب فلسطيني، لكّنه أقلّ قيمة من سائر الشعوب، كأن ثقافته ناقصة ولم يقدّم أي شيء إلى العالم. وهذا أحد الأمور التي حاولنا إصلاحها من خلال الفنّ والشعر والسينما وكل المجالات الإبداعية".

ثم الحقبة الأخيرة، التي يسميها منصور مرحلة التيه والشتات الفلسطينيين، والتي ما زالت مستمرّة حتى اللحظة: "أنا لا أتحدّث عن الهجرة إلى خارج فلسطين، أنا أقصد الشتات داخل البلد. والسبب الأساسي هو عدم الانتماء. إذا أخذنا الداخل الفلسطيني، مثالاً حيّاً، فإن ما يحدث في إطار العنف والجريمة، سببه الأوّل فقدان الانتماء. توجد سياسة ممنهجة لسلب الناس شعورهم بالانتماء، ولضرب النسيج الاجتماعي. وهنا أيضاً في الضفّة الغربيّة استطيع أن ألمس هذا الشيء. لذلك، أرى أن وظيفة الفنّان إعادة هذا الالتحام. يكفيني أن تصلني رسالة من شبان فلسطينيين وُلدوا في الغربة، ويقولون إنهم لم يروا فلسطين أبداً، لكنهم يعرفونها من خلال أعمالي". 

ما الذي يميّز الفنّ التشكيلي الفلسطيني عن الفنّ التشكيلي العالمي؟

يلخّص منصور الحديث عبر القول إن الفنّ التشكيلي الفلسطيني لا يمكن إلّا أن يكون سياسياً: "بداية، دائماً يواجه الفنّان الفلسطيني، سواء بإرادته أو خارج إرادته، اتّهاماً سياسياً. فوجودنا، مجرّد وجودنا، يمكن عدُّه معادياً للسامية، كوننا ضدّ الصهيونيّة. ولاحظت هذا الأمر في معارضنا في أوروبا وألمانيا، مطلع الثمانينيات. كان مجرد نشر إعلان عن وجود معرض للفنّ الفلسطيني في الجريدة كافياً لأن يصبح لديّ أعداء جدد، ومن ناحية أخرى أصدقاء جدد! ويحدث كل هذا قبل افتتاح المعرض ومشاهدة اللوحات. مجرّد القول إنّك فلسطيني يصبح فنّك سياسياً. أعرف كثيرين من الفنّانين الشبان، الذين حاولوا الابتعاد قليلاً عن العمل السياسي، لكنّ الأمر مستحيل، فأنت في النهاية صاحب قضيّة".

ماذا لو أراد الفنّان الفلسطيني أن يتجرّد من قضيّته؟

في نهاية الحوار، أصرّ سليمان منصور على توضيح أنّ ثمّة شعوراً لديه لمحاولات سلخ الفنّان عن محيطه وعن الناس والهمّ الشعبي، بحيث قال: "لقدّ تغيّر مفهوم الفنّ اليوم، وثمّة خطّة أو نوع من المؤامرة على الثقافة لإبعاد الفنّان عن جمهوره، بحجّة أن الفنّ يجب أن يأخذ طابعاً فردانياً، وأن يعكس أحلام الفنّان ومشاكله الخاصّة. لا أعارض فكرة أن يرسم الفنّان رسما يعبّر فيه عن حالته الخاصة، أو حتى 10 رسوم، لكن عندما يصبح الفنّان هو مركز حياته وأعماله، تصبح هذه الحالة أِشبه بالمرض، لا بالفنّ. على الفنّان أن يبقى دائماً على علاقة بالمجتمع كي لا يكون فنه فارغاً من المعنى، وكي لا يكون بلا طعم".

ويؤّكّد منصور حدسه من خلال وقائع وأحداث عالمية، بدأت مطلع الخمسينيات. فـ"الـ CIA دخلت على خطّ الفنّ التشكيلي، لترسّخ فلسفاتها بشأن الفنّ، وطبعاً لأنهّا كانت خائفة من الفنّ المكسيكي، الذي كان له طابع اشتراكي يعادي الرأسمالية، ويناصر قضايا الناس والشعوب. وهذا الفنّ اكتسب شعبيّة واسعة في أميركا الشمالية. على سبيل المثال، الفنّان دييغو ريفيرا. لذلك، دخلت الاستخبارات الأميركية لدعم الفنّ التجريدي، وبدأت تشتري الأعمال التجريدية بملايين الدولارات، من أجل ترويج هذه المدرسة الفنيّة. كان الفنّ التجريدي في البداية سلاحاً خطيراً".