سيرة المهزوم والمُفلس.. كيف انتصر القصبجي على وهم النجومية والرأسمالية؟

احتفالاً بعيد ميلاده الــ 131.. هل صنع القصبجي أم كلثوم؟ وكيف انتصر على وهم النجومية والرأسمالية؟

يقول الموسيقار المصري عبد العظيم عبد الحق إن المطرب عبد الحليم حافظ "نجح بالدعاية"، على رغم أن أخاه، إسماعيل شبانة، كان أجمل منه صوتاً.

من هنا تحديداً نبحث وراء أزمة الموسيقار المجدّد محمد القصبجي (1892 - 1966)، الذي نحتفل بعيد ميلاده الــ 131 هذا الأسبوع، والذي حُرم من النجومية التي يستحقها. هذا ليس طرحاً رومانتيكياً، فمثلما هجرته النجومية، التي تصنعها أدوات رأسمالية كالدعاية والتجهيل، "انتقم" محمد القصبجي، الموسيقي المجدّد وأحد صُنّاع كوكب الشرق أم كلثوم، بآلة الخلود عبر الانفلات من حكم الأزمان، وسنرى كيف تم ذلك.

القصبجي و"الانتصار" الأول

في 8 كانون الأول/ديسمبر 1999 عرض التلفزيون المصري دراما عن سيرة حياة أشهر مطربات الشرق، أم كلثوم، ومثّلت دور "الست" فيه الممثلة صابرين، وإلى جوارها بدأ الجمهور يستمع لأول مرة إلى أسماء، من أمثال أبي العلا محمد وأحمد صبري النجريدي وزكريا أحمد ومحمد القصبجي، الذي كان مر على رحليه في أثناء عرض المسلسل 33 عاماً، لم تمسسه فيها حتى المعرفة العادية، بل يكاد يكون أطل من مجهول الأيام إلى زمن المحمول وجمهوره. 

صحيح أن هذه الأسماء كان يعرفها الجمهور الكلثومي العارف والخبير بالطرب، وربما خارج هذه الدائرة سمع بهم كثيرون، لكنهم لا يعلمون، على وجه الدقة، مَن يكون هؤلاء المكتوبون في تتر المسلسل، وكيف كانوا، وماذا تبقّى من أثرهم. 

ولعل أبرز شخصية فنية، كانت مجهولة عن كثيرين وانتشرت كالنار عقب الدراما الكلثومية، كانت شخصية محمد القصبجي، أحد "مظاليم" الموسيقى، والذي يرفعه أكاديميون إلى مستوى أعلى من سيد درويش من جهة تطوير الموسيقى المصرية. وعلينا هنا فقط أن نذكّر بأن القصبجي ودرويش وُلدا في العام نفسه، 1892، لكن درويش أكبر بشهر.

لقد رأيت بنفسي أبناء جيلي يذهبون ويبحثون عن أغنيات صنعها هذا الرجل، حتى تلك التي ألّفها موسيقياً في عشرينيات القرن العشرين، مثل "إن كنت أسامح وأنسى الأسية". هكذا ينتصر الزمن لأبنائه ولا يتركهم نهب الماضي المدفون.

آن للرومانتيكي أن يموت

تنتصر المدرسة الرومانسية، التي آمن القصبجي بها في موسيقاه، للاستغراق في قوة المشاعر والخيال الذي لا يُحدُّ، باعتبار الخيال والعواطف من أصول الجمال الفني، الأمر الذي جعل هذه المدرسة تصدّر قيمة الخيال الفردي. هكذا تحرَّر مبدعوها من أَسْر الكلاسيكية، التي كانت تتعالى وتنتصر للماضي على حساب حاضر يزحف تجاهه الصخب والفوضى، كما تحرر مبدعوها من سطوة المال، فما صاروا أصحاب مشاريع كمحمد عبد الوهاب، الذي أسس لنفسه شركة إنتاج فني، إلى جوار عمله الموسيقي والغنائي.

ومما يُحسَب لوعي القصبجي الفني أنه التزم، في إنتاج أغنياته وألحانه، الاعتمادَ على كلمات الشاعر الرومانتيكي، أحمد رامي، الذي سقط من الفصحى إلى العامية المصرية، لاقتناعه بصوت أم كلثوم السحري. وهذا يؤكد اختيار المسار الأبدي لرجل غارق في الخيال، عابر للزمن.

ينتمي القصبجي إلى المستقبل عبر الحاضر، لا ينظر إلى ماضٍ ولا يبكي عليه، بل يتطلع إلى موسيقى ما لم يبلغها إنسان. لم يُعرف عنه أنه اقتبس من أحد، بل كان هو المقتبَس حتى لمن عاصروه بدليل لحن "ما دام تحب بتنكر ليه"، الذي استلهم منه كثير من ملحّني المرحلة ألحانهم.

سرّ القصبجي وتفرده، كانا إيمانه المطلق بالرومانتيكية، حتى لتكاد رومانسيته تسيل في ألحانه من أولها إلى آخرها. لذا، كان هيّناً عليه البقاء مجرد عازف عود وراء "الست" - كما تُعرف أم  كلثوم لدى جمهورها - عازف بين عازفين في فرقة كان هو يوماً ما وراء تكوينها في مطلع عشرينيات القرن الماضي. لكن الزمن الرأسمالي، الذي تحكم في فعل هوس الربح، كان في طريقه إلى نسف كل خيال وخياليّ، المهم هو الكسب، وليذهب الحالمون إلى الماضي، ليبقى هو في ذاكرة الزمن.

بين مريدي الست ومريدي الموسيقى

كثيرة هي التوصيفات للموسيقي محمد القصبجي، إذ يطلق عليه أنه واحد من أهم ملحني أغنيات أم كلثوم، بينما كان أكبر وأهم من ذلك. لقد كان خادماً للموسيقى ولم يكن مُلبياً لاحتياجات أم كلثوم الغنائية، مثلما فعل زكريا أحمد ورياض السنباطي. 

حتى الاستعراضات الموسيقية في مرحلة تالية من أغنيات أم كلثوم لدى محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، لم تكن إلا أنانية مفرطة من الملحنَين لخدمة نفسيهما أمام سطوة أم كلثوم، التي كان نجمها بدأ يخبو بفعل تقدمها في السنّ. أما المتتبع لألحان القصبجي مع أم كلثوم فسيرى فيها وجبة شهية من التحليق الموسيقي، الذي يطير متوازياً مع الصوت البشري، كأنه يؤكد أحد مبادئ الرومانسية بتضفير العواطف الإنسانية مع عواطف الآلات التي تخلق سحر الموسيقى البحتة. هذا الهدف بخدمة الموسيقى، قبل أي أحد حتى لو كان أم كلثوم، وهب القصبجي نفسه له، والدليل على ذلك لحنه الهائم "يا طيور"، والهارب من سطوة الدائرة الكلثومية، ليؤكد القصبجي، بهذا اللحن، وبغيره، خطَّ سيره عبر الزمن، فهو لا يلتفت إلى مجد ذاتي ولا إلى ربح ولا إلى تلميع نجومية، هو فقط يخدم الموسيقى ويكرّس لها.

حتى حين لمع في عينيه أن يكون في منصب أول نقيب للموسيقيين المصريين، خذلته أم كلثوم، وترشحت، فسحبت من تحت قدميه البساط حين سمعت أن عبد الوهاب سيترشح.

لأمثال القصبجي يبقى الحزن والخسارة، لكنهما حزن وخسارة لم يحركا فيه أي أحقاد. لقد رأى ما حدث غيرة فنية بين قمتي الشهرة في عالم الغناء، أم كلثوم وعبد الوهاب، وكان مشغولاً بصنع ألحان تبقى، لا تخاطب زمناً ولا ذوقاً بعينه، بل ترفع الأذواق إلى سمو الخيال وغاباته الكثيفة، كأنه يصنع لجمهوره جنة صغرى كلما أمكنه ذلك.

مَن ترك الآخر؟

كثيراً ما يتردد أن أم كلثوم أرغمت القصبجي على البقاء عوّاداً خلفها وهي تغني. وبالبحث منطقياً عن هذا الرأي، نجد أنه لا يمكن لواحدة مثل أم كلثوم، تنتهز أي فرصة لتقديم لحن ناجح، أن تفرّط بهذه السهولة في قيمة كبرى كالقصبجي، وخصوصاً أن الرجل لم تنضب حلاوة ألحانه. لقد قدّم بعد توقفه عن التلحين لأم كلثوم ألحاناً تسابق الزمن، مثل "قلبي دليلي" للمطربة ليلى مراد. 

وأم كلثوم ليست بالشخصية التي تجهل قيمة ذلك ولا تعاند الزمن، بدليل أنها استعانت بالجيل الشاب من الموسيقيين المصريين، ككمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد الموجي، لتواكب العصر وتجدد بهم حيويتها. هذا كله يؤكد أن ما حدث هو العكس؛ أي أن القصبجي هو الذي قرر ألّا يلحن لأم كلثوم منذ رائعته لها "رق الحبيب".

ففي أربعينيات القرن العشرين، أراد القصبجي أن يذهب بموسيقانا إلى عالم الأوبرا الغربية، حالماً بتحقيق أوبرا شرقية، وخاض التجربة بالفعل في فيلم "عايدة" لأم كلثوم. لكن الجمهور لم يستقبل تجربته حينها بالطريقة التي حلم بها، ففشل الفيلم، وصبّت أم كلثوم غضبها على صانعها بسبب تجريبيّته وعدم لعبه على المضمون، لكن الرجل رأى أن الجمهور ليس معياراً، وأم كلثوم أيضاً ليست معياراً، فما كاد يلتفت حتى وجد في صوت أسمهان استكمالاً لتجربته تلك، المتحررة من تقييدات الصوت الشرقي الصرف، صوت أم كلثوم بجلاله وقيوده، لكن مرة أخرى يعانده القدر وتموت أسمهان، ويموت معها آخر أحلامه في التجريب المتواصل لتقليل الفجوات بيننا وبين العالم موسيقياً.

ليس أوان الهيام يا "قَصَبْ"!

بلع القصبجي خساراتٍ كثيرة من باب أنه جاء إلى الدنيا خاسراً ومفلساً ومهزوماً وراضياً، وسيبقى هكذا. لقد أحب أم كلثوم ولم تبادله حباً بحب، وأحب صوت أسمهان وراهن عليه، وقدّم إليها ألحاناً صافية الجمال. 

وحتى تكتمل الخسارة، يخطف الموت أسمهان مبكراً، فلا هو بقي راضياً بنمطية أم كلثوم، ولا نَعِمَ بأحلامه الكبرى بصوت أسمهان. أحب الموسيقى فبقي عازف عود وراء كوكب الشرق نحو 20 عاماً، يخدم ألحان غيره، محبةً في الموسيقى وتواضعاً أمام هيبتها. وربما هذه الخسارات والإفلاسات والهزائم النفسية كانت وقوده ليدخل في عالم الخلود، علاجاً من الهزيمة في الدنيا، فهناك في هذا العالم المفتوح لا أحد يجري وراء ربح، فلقد نال بالفعل كل الأرباح.