سيرة مدينة... وقصة مدينتين

انتصرت غزّة لأنها بإقبالها على الحياة هزمت الموت وأدواته، وعلّمت العالم كلّه فنّ إتقان الحياة.   

  • (سعيد خطيب)
    (سعيد خطيب)

تروي المدن قصصها الحقيقية بعيداً عن نشرات الأخبار والأفلام الوثائقية وصفحات كتب التاريخ، التي تروي الأحداث العظام وتغفل أن الحياة تدور في الأزقة والشوارع، وخلف أبواب المنازل المغلقة.

ذلك الفلاح في السهول الفسيحة يكدح منذ فجر التاريخ خلف محراثه، يدافع عن أرضه في وجه الغزاة والطامعين، يصنع من خير الأرض غذاءه، ومن مزيج الواقع بالخيال يروي تاريخه الخاص ويؤلف أغانيه، ويصنع أمجاده. مثله ذلك العامل في ورشة في المدينة يستيقظ باكراً ليؤمّن لقمة عيشه. يرهق ظهره سوط "السيد"، ويثقل كاهله عسف العسس. يغلق باب بيته على لقيمات حملها في آخر النهار وهو يشكو الظلم وقسوة الحياة، يحتضن أطفاله ويسمع من زوجته حكايا الجيران والحارة، ويخلد للنوم ليحلم بما يشاء بعيداً من ظلم الحكّام وجشع الأغنياء. 

رغم تعقيدات الحياة اليومية، إلا أن كل حكايا المدن بسيطة، لأنها حكاية صراع البقاء، بمعناه الفيزيائي، والطبقي والسياسي. الفقراء يبحثون عن لقمة عيش تبعد عنهم شبح الجوع، وإذا طمعوا فدريهمات تعينهم على الحصول على الحد الأدنى من حقوقهم كالصحة والتعليم، والأغنياء يسعون للحفاظ على ثرواتهم واكتساب المزيد من المال والجاه وترسيخ مكاسبهم الاجتماعية والاقتصادية. أما السياسيون فيسعون إلى ترسيخ سلطتهم وهيمنتهم على المدينة بكل الوسائل، بما في ذلك القوة. من خلال الصراع بين هؤلاء تروي كل مدينة حكايتها، وتصنع تاريخها.

روى عبد الرحمن منيف حكايا المدن في رواياته، من "مدن الملح" التي تروي حكاية نشوء مدن النفط، والصراع بين القديم والحديث على جميع مستويات المجتمع من أسفل السلّم وحتى أعلى طبقات الحكم، إلى "سيرة مدينة" التي تتابع إيقاع تطوّر العاصمة الأردنية عمّان.

مجموعات بشرية تحمل آمالاً وأحلاماً جاءت من داخل البلاد وخارجها. فهذا ابن العشائر البلقاوية، وذاك الشامي واليمني والفلسطيني تجمّعوا في العاصمة الجديدة. في الحالتين (سيرة مدينة ومدن الملح) خاض السكان صراعاً مع الجغرافيا والتاريخ ليصنعوا مدناً حديثة تحوّلهم من جماعات متباعدة إلى أبناء مدينة حديثة واحدة. لكن تلك المدن افترست أحلامهم وتخلت عن معظمهم لصالح الأغنياء والحكّام، وتركت الفقراء يخوضون صراعهم الأزلي في سبيل لقمة العيش. كانت تلك المدن نقيض أحلام من بنوها وسكنوا فيها.

في "قصة مدينتين"، يرصد شكسبير التناقض بين مدينتين وليس داخل مدينة واحدة. باريس حيث الثورة الفرنسية التي خاضها الفقراء لصناعة مستقبلهم، ولندن حيث العرش الذي يسعى للحفاظ على مكانته وحماية وجوده من رياح الثورة المقبلة عبر البحر.

على الهامش تدور قصة حب بين محامٍ إنكليزي سكّير ينتمي إلى طبقة الكادحين يقع في حب زوجة النبيل الفرنسي تشارلز دارنيه، تنتهي الحكاية بتضحية المحامي الفقير بحياته على مقصلة الإعدام بديلاً عن زوج الفتاة التي يحبها، في رمزية إلى أن أحلام الفقراء تنتهي دائماً بشكل مأسَوي، وأن الأغنياء والنبلاء يفوزون في النهاية.

غزّة مثل كل المدن لها حكاية، تبدأ في اندفاع أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين إليها بعد نكبة 1948. تحوّلت المدينة الوادعة على شاطئ المتوسط بعدد سكانها القليل إلى منطقة تضم أكبر كثافة سكانية في العالم، يعيشون في مخيمات متراصة تكاد تنعدم فيها أبسط شروط الحياة. كان الصراع في غزة مختلفاً عن بقية المدن، على أحد طرفيها يعمل السكان لتحسين أوضاعهم وتجميل مدينتهم، ويسعون في سبيل الفرح والطمأنينة، وعلى الطرف الآخر نشأت مقاومة باسلة ضد العدو، وتجذّرت بعد احتلال القطاع عام 1967. شعب يبحث عن الحياة ومقاومة تقدّم حياة أبنائها في سبيل التحرير. 

عاشت غزّة ثنائية الحياة والموت بكل العنفوان الممكن، من ناحية تعالت أبراجها، وخلقت صناعتها وزراعتها، ومن ناحية أخرى ارتفع عدد شهدائها واحتفلت بكل واحد منهم بما يليق بالشهادة من تكريم. لم يثنها الحصار عن النمو والتقدّم ولا عن الاستمرار في المقاومة. في كل زقاق حكاية عن صانع للحياة، وصورة لشهيد معلّقة على أحد الجدران. كبرت المخيمات وأصبحت مدناً، وكبر أبناء الشهداء وأصبحوا مقاومين.

في 7 أكتوبر التقى النقيضان في ساحة المعركة. عدو يملك كل أدوات الموت وإنهاء الحياة، ليس بقتل السكان فقط، ولكن بتدمير كل وسائل استمرار الحياة من بيوت وبنى تحتية. وغزّيون أتقنوا فن الحياة، فصمدوا في وجه آلة الحرب، وتصدّوا للعدو ببسالة وأوقعوا في صفوفه خسائر لم يعهدها من قبل، وجعلوا حكاية حياتهم قصة يتداولها سكان العالم من أقصاه إلى أقصاه، استغلوا الهدنة ليذهبوا إلى شاطئ البحر، احتفلوا بقدوم رمضان بالفوانيس، غنّوا ولعبوا تحت القصف، كتبوا قاموساً جديداً من الكلمات، من منّا لا يذكر كلمة "ولّعت"؟

في الصراع بين الموت والحياة، تنتصر الحياة دائماً لأنها تستمر رغم تهديد شبح الموت، وغزّة انتصرت لأنها بإقبالها على الحياة هزمت الموت وأدواته، وعلّمت العالم كله فنّ إتقان الحياة.