شهيّة داروينية: دهاء الشمبانزي أم قوّة السلاحف؟

أشكال درقاتها مثلت أصلاً أوليّاً لأفكار داروين. أيُّ حكايات مثيرة تُخفيها السلاحف؟ وكيف تمكَّن الشمبانزي من الاحتيال عليها؟

  • سلاحف الجالاباجوس، في مركز تشارلز داروين في جزيرة سانتا كروز.  المصدر: NH53, Wikimedia
    سلاحف الجالاباجوس، في مركز تشارلز داروين في جزيرة سانتا كروز. المصدر: NH53, Wikimedia

"الليلة سأتعشَّى حساء سلاحف!"، شريدر، سلاحف النينچا.

رغم تهديداته المُتكرِّرة في حلقات "سلاحف النينچا"، لم يحظَ "شريدر" الشرّير بأية فرصة لتذوُّق طَعم السلاحف. لكنه كان سيذوق مرارة الحَسَد إذا كان قد اطَّلع على ما رواه بحَّارة السفينة "بيجل"[1] في أيام مجدها الخوالي، وعرف ما كان يتعشَّاه على متنها تشارلز داروين ورفاقه.

كثيراً ما تُذكر الرحلات البحرية إلى جُزر الجالاباجوس في القرن التاسع عشر كعلامة بارزة في تاريخ التاريخ الطبيعي، بسبب رحلة السفينة "بيجل" التي أقلَّت داروين إلى مكان نشوء أفكاره. لكن قليلاً جداً ما يُذكَر بأن تلك الرحلات نفسها كانت وبالاً على سلاحف الجالاباجوس، حين جرَّب البحَّارة أكلَها واستساغوا لحومها فحملوها معهم إلى السفن لا كعيّناتٍ فريدة، بل كوجبات فاخرة، إلى درجة أن السلاحف قد اختفَت تماماً من على جزيرة فلوريانا بعد زيارة داروين بفترة وجيزة.

كانت السفينة "بيجل" قد وصلت إلى جزُر الجالاباجوس في أيلول/سبتمبر من العام 1835. للوهلة الأولى، لم يكن داروين شديد الانبهار بما رآه هناك، لكنه قابل حاكم الجُزر الكابتن نيكولاس لوسون واستمع إليه وهو يزهو بقدرته على "تمييز الجزيرة التي جاءت منها سلحفاة ما بمجرّد النظر إلى شكل درقتها"؛ وهي الملاحظة التي قد تمثِّل أصلاً أوليّاً لأفكار داروين التي أخذت في التطوُّر بعد ذلك [2].

وصف لحم سلاحف الجالاباجوس بأنه: "له دسامة وحلاوة لا يُدانيها لحم أية دجاجة".

ثم رحلت السفينة وأخذت معها 30 سلحفاة، لعبَت دوراً كبيراً في الارتقاء بمستوى لائحة طعام داروين ورفاق رحلته، واختفَت في بطونهم واحدةً وراء الأخرى، قبل أن يدرك داروين - بندم بالغ - أن موائد العشاء تلك كان يمكن أن تكون العيِّنات المُثلى لنظريّته، إذ افترض أن كل جزيرة كانت تنفرد بنوع مستقل من السلاحف العملاقة.

كيف لا تختفي تلك السلاحف وقد وُصِف لحمها حينها بأنه "له دسامة وحلاوة لا يُدانيها لحم أية دجاجة"، وأنه "طيّب للغاية، نكهته تشبه الضأن"، وأنه مثل "حلم لكل قبطان سفينة يتحوّل إلى حقيقة"؛ إذ يمكن اصطحاب السلاحف الحيّة على ظهور السفن لشهور طويلة كمصدرٍ ممتازٍ للحوم الطازجة. ولعلّ هذا المذاق الذي تصعب مقاومته كان سبباً في تميُّز السلاحف في العموم بتلك الدرقات العظميَّة المتينة التي تحميها من أقوى المُفترسات، أو هكذا يُفترَض.

حيلة واسعة

ربما لا تكفي القوّة الغاشمة وحدها لافتراس السلاحف، لكن الخطر الحقيقي عليها يأتي من مُفترِس صاحب حيلة كالإنسان، أو الشمبانزي. وقد تكون الصورة الذهنية العامة عن الشمبانزي هي أنه قرد لطيف ذكيّ يحب تناوُل الفاكهة وإثارة الفكاهة، لكنه في الحقيقة آكِل للحوم أيضاً ويمارس بانتظام صيد الحشرات والثدييات الصغيرة بل القرود الأخرى الأصغر حجماً [3]. باختصار هو أقلّ لطفاً مما نظنّ، لكنه - بلا جدال - أكثر ذكاء مما نتخيَّل!

وذكاء الشمبانزي يُدهش العلماء كل يوم، ولا حدود لمفاجآته. ومنها ما وثَّقه مؤخّراً - للمرة الأولى- علماءٌ في محمية لوانجو الوطنية في الغابون، لتوصُّلِ عشيرة من الشمبانزي هناك إلى طريقة لتهشيم درقات السلاحف [4] والاستمتاع بالتهام لحومها، وهي كذلك سابقة في مشاهدة شمبانزي يتغذّى على لحوم الزواحف بصفة عامة.

فما بين الأعوام 2016 و2018 سجَّل الدكتور توبياس دِشنر - الباحث في معهد ماكس بلانك - وزملاؤه 38 محاولة من قرود الشمبانزي لالتهام السلاحف، كُلِّلت 34 منها بالنجاح؛ إذ كانت القرود تُمسك بالسلاحف وتضرب الجزء البطني من درقاتها (وهو أقلّ صلابةً كثيراً من الجزء الظهري) بقوَّةٍ في الأسطح الصلبة كالصخور الكبيرة أو جذوع الأشجار الضخمة [5] حتى تنكسر الدرقة وينكشف لحم السلحفاة فيحمل الشمبانزي غنيمته إلى شجرة عالية ويتلذَّذ بالتهامها.

ذكاء الشمبانزي يُدهش العلماء كل يوم. ومنها ما وثَّقه مؤخّراً - للمرة الأولى- علماءٌ في محمية لوانجو الوطنية في الغابون، لتوصُّلِ عشيرة من الشمبانزي هناك إلى طريقة لتهشيم درقات السلاحف.

لكن حتى هذا الذكاء الاستثنائي سيحتاج إلى مستوى معيَّن من القوَّة البدنية، وقد لاحظ العلماء أن القرود السبعة التي نجحت في كَسْر الدرقات كانت جميعها من الذكور البالغة، منها قرد يُدعى "باندي" تُنْسَب إليه وحده 20 من أصل 34 محاولة ناجحة. والطريف أن محاولات الإناث والصغار الفاشلة كانت تعقبها طلبات مساعدة من الذكور، وحينئذ كان اللحم يُقسَّم بين الشركاء.

أفكار مستقبلية

أما المشاهدة الأكثر إدهاشاً وبعثاً للتأمّل فكانت قيام الذَكَر الرئيس للعشيرة ذات مرّة بكسر درقة سلحفاة والاكتفاء بالتهام نصفها فقط، وتخزين النصف الآخر بين فرعي شجرة عالية، ثم العودة إليه كعشاء لليوم التالي، وهو ما قد يدفعنا إلى التساؤل حول مفهوم التفكير في المستقبل عند الشمبانزي.

حول هذه النقطة تعلِّق الدكتورة سيموني بيكا، وهي باحثة في جامعة أوسنابروك الألمانية، بالقول: "القدرة على التخطيط لاحتياجات المستقبل، كالجوع مثلاً، لم تُرصَد من قبل سوى في حيوانات التجارب أو تلك التي تعيش في الأَسر، ولم نرصد أبداً حيواناً بريّاً يخطّط للمستقبل بهذه الطريقة التي كنا نظنّها ملَكة حصرية للبشر. وهو ما يجعلنا نظنّ أن عقوداً كاملة من البحث والمراقبة لم تخبرنا سوى بلمحات فقط من ذكاء الشمبانزي، بتعقيده المذهل ومرونته المدهشة".

يدرس العلماء الشمبانزي في بيئته الطبيعية منذ أكثر من نصف قرن، لكنهم ما زالوا يكتشفون وجوهاً جديدة تماماً لسلوك تلك المخلوقات.

وقد لوحظ أن محاولات التهام السلاحف لم تحدث سوى في موسم الجفاف (من أيار/مايو إلى تشرين الأول/أكتوبر) حين تكتسي أرض الغابة بالأوراق الجافّة التي تكشف أصوات خشخشتها  - تحت أقدام السلاحف - للشمبانزي بسهولة تامة عن مواقع غنائمه.

ويأتي هذا التوثيق كحلقة جديدة في سلسلة مشاهدات استخدام الشمبانزي للأدوات، وهي من الممارسات التي تنفرد بها عشائر معيّنة من الشمبانزي وتُميِّزها عن غيرها من العشائر. يقول الدكتور دشنر: "هذه سلوكيات ترتبط بنوع من الثقافة المحليَّة للشمبانزي في ما يبدو، يبتدع فردٌ من الجماعة تقنيةً ناجحةً ما فتنتشر تقنيته بعد ذلك في صفوف العشيرة كلها"، ويضيف: "يدرس العلماء الشمبانزي في بيئته الطبيعية منذ أكثر من نصف قرن، لكنهم ما زالوا يكتشفون وجوهاً جديدة تماماً لسلوك تلك المخلوقات".

المصادر

[1] https://en.wikipedia.org/wiki/HMS_Beagle
[2] https://www.theguardian.com/books/2004/jul/31/featuresreviews.guardianreview7
[3] https://youtu.be/QkGvblv_ts4Youtube: Chimps Set Up an Ambush for Monkeys | Trials Of Life | BBC Earth
[4] https://www.nature.com/articles/s41598-019-43301-8
[5] https://youtu.be/C1tpllWtBVkYoutube: Chimpanzee Gia is cracking a tortoise