صناعة الكتاب في سوريا.. أي مستقبل؟

بين الحرب والحصار، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة، أي واقع تعيشه صناعة الكتاب في سوريا؟ وهل من أمل بتبدل الحال؟

تعيش صناعة الكتاب والنشر في سوريا خلال سنوات الحرب واقعاً صعباً، بسبب التخريب والتدمير الذي طال الكثير من المنشآت والبنى التحتية، من مطابع ومراكز ثقافية ومكتبات خاصة وعامة، وكذلك إلغاء العديد من معارض الكتاب المحلية والجهوية والدولية، لأسباب تتعلق بانعدام الاستقرار والأمن، وصعوبات التنقل بين جهات البلد الأربع.

يضاف إلى الأسباب آنفة الذكر انتشار فيروس"كورونا"، والأزمة الاقتصادية الخانقة، وارتفاع تكاليف الطباعة المرتبطة بسعر صرف الدولار، التي زادت الطين بلة، وجعلت من اقتناء الكتاب رفاهية في زمن يبحث فيه السوري عن الرغيف.

الحرب الدائرة في سوريا يمكن اعتبارها أيضاً "حرباً ثقافية" ممنهجة، الغاية منها نشر الجهل والتعصب ولغة العنف بدل الحوار البنّاء، والوعي بأهمية الثقافة كرافد مهم للغاية في إنقاذ ما تبقى من إرث سوريا الحضاري والفكري والتاريخي.

في هذا التحقيق سنستعرض مع مجموعة من أساتذة صناعة الكتاب، من ناشرين وكتّاب ومعنيين في المؤسسة الثقافية الرسمية، واقع  صناعة النشر خلال الحرب وتأثيراتها على الكتاب السوري، وأبرز الصعوبات من ناحية الطباعة والتوزيع داخل البلد وخارجه، بالإضافة إلى الحلول المفترضة للنهوض بها مجدداً. كما سنتطرّق إلى دور كل من اتحاد الكتاب وزارة الثقافة في ذلك.

"شماعة" الأزمة لا تجدي نفعاً

بهذا التوجه الحاسم يطرح الشاعر والكاتب في "جريدة تشرين" السورية، فاتح كلثوم، وجهة نظره قائلاً: "ليس هناك مِنْ شك بأن الحرب وتبعاتها الاقتصادية كان لهما أثر لا يستهان به في تراجع الخط البياني لصناعة الكتاب في سوريا بشكل غير مسبوق، وخاصة في السنوات الخمس الأخيرة. أما وأن نجعل من هذا الجانب محوراً رئيسياً للتحدث عن المصير البائس الذي حلّ بالكتاب، فسنكون مثل الذي يختبئ خلف إصبعه لتجنب العاصفة، وتبرئة ذاته من المسؤولية بإحالة كلّ النتائج - غير الحميدة - إلى نظرية المؤامرة".

ويضيف في حديث مع "الميادين الثقافية": "علينا الاعتراف بوجود أسباب أخرى بعيدة عن الأزمة، ومنها الفساد المستشري الذي بات يشكل هيئة مستقلة، قوامها خليط غير متجانس من حيث التصنيف الوظيفي والطبقي، لكنه بذات الوقت متضامن لدرجة التفاني في الإخلاص لخط سير مصلحته الخاصة، حتى لو كانت خسارة الهوية الوطنية هي النتيجة الحتمية. هذا السيل الجارف جعل من الطبقة الوسطى، وهي الأهم في سوق الكتاب، مغلوباً على أمرها لدرجة الاستسلام".

ويتابع كلثوم حديثه عن دور الطبقة الوسطى، والطبيعة الاستهلاكية التي طغت على صناعة الكتاب قائلاً: "هذا الفريق يمثل تواجده نقطة الأمان لاستمرار صناعة الكتاب حتى في أحلك الظروف التي آلت إليها الطبقة الوسطى، وأيضاً نستطيع تقسيمه إلى قسمين متساويين في الكم. القسم الأول مازال الكتاب يؤمن لهم بعضاً من التوازن النفسي في زمن القحط، والقسم الثاني - الأقل صلابة وثقافة - والذي بات يبحث عن ألقاب وهمية مثل كاتب أو شاعر في ظل هذه الفوضى الرقمية التي نعيشها، فتلقفته المواقع ودور النشر التجارية، وصار إنتاجه بديلاً للكتاب المؤتمن على نشر الوعي، ما جعل الكتب بعامة مصدر شك للباحثين الذين لا غنى لهم عن الكتاب، وأيضاً للقسم الأول، آنف الذكر، من بقايا الطبقة الوسطى.. بهذا التوصيف المختصر نستطيع وضع إصبعنا على الجرح بكل شفافية، لننتقل إلى ضفة البحث عن حلول".

ويرى الصحافي في "جريدة تشرين" أن الحلول المرضية في الراهن والمستقبل "باتت خارج السيطرة"، في ظلّ سطوة وسائل التواصل الاجتماعي و"تسخيف كل مشروع ثقافي يحمل بذوراً للتخلص من سيطرة المال، ومشروعه العالمي في نشر التفاهة على أوسع محيط".

أما في حال السعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فيجب الإقرار بأن سعر الكتاب، لا يتصدر قائمة الأسباب التي جعلته يرزح تحت الحد الأدنى في عملية التسويق. والبرهان على ذلك يأتي في مقارنة سوق الكتاب بأسواق المنتجات الأخرى التي يسعى المستهلك إلى امتلاكها حتى في حال كان ثمنها أعلى من دخله الشهري، وهو ما نجده في عالم التقنيات والأزياء- الموضة. ولذلك حاولت المؤسسات الثقافية الرسمية في سوريا تجاوز هذا الادعاء، بعرض كتبها بثمن لا يتجاوز سعر علبة سجائر.

يؤكد كلثوم أن المطلوب اليوم خطوات جدية وجديدة أخرى، أهمها امتناع دور النشر والمؤسسات الحكومية المنتجة للكتاب عن نشر الكتب المتواضعة في فنيتها الأدبية ومضمونها الفكري، مشيراً إلى أنه بالإمكان تشكيل فريق نقدي مختص يضع حداً للكتب الرديئة ويعلي من شأن الكتب الجديرة بالقراءة بعيداً من المحسوبيات. ويضاف إلى ذلك، والكلام لكلثوم،  تقديم الدعم المادي لأصحاب المشاريع الثقافية النهضوية، وإغلاق المنتديات  التي قدمت نفسها في الساحة السورية على أنها راعية للثقافة.

تجربة تحتاج إلى تكريس

  • عفراء هدبا
    عفراء هدبا

من جانبها، تتحدث عفراء هدبا صاحبة "دار دلمون للنشر" في دمشق عن تجربتها خلال الحرب قائلة: "تأسست دار دلمون الجديدة عام 2014 في مرحلة مليئة بالتحديات ومع ما تركته الحرب من تداعيات على الواقع الثقافي والاقتصادي على صناعة الكتاب التي أصبحت محفوفة بالمخاطر،  إن كان لجهة الإنتاج أو لجهة التسويق في ظل حصار اقتصادي وسياسي فرض حظراً غير معلن على الكتاب السوري، خاصة إذا كان يتوخى الحقيقة التي غالباً لا تتوافق مع مزاج الأنظمة السياسية الحاكمة في الكثير من دول العالم، والتي تفرض سلطتها ومواقفها السياسية على دور النشر والطباعة في بلدانها".

بناء عليه، عمد أصحاب "دار دلمون" إلى الانطلاق بمشروع ودراسة العقبات والعمل على تذليلها معتمدين خطة عمل تؤكد على المصداقية وعلى القيمة المعنوية للكتاب ودوره في مواجهة الإرهاب وبناء المجتمع المحصن من عامله وآثاره، "متجاوزين الاعتبارات المادية في صناعة كنا نتطلع إلى جدواها الإنسانية قبل الاقتصادية. سوريا كبلد عانى من ويلات الحرب والإرهاب الذي أصاب البنى التحتية وشل المرافق العامة وأتى على مظاهر الحياة، في بلد كان مؤهلاً للعب دور محوري في النهوض الفكري والاقتصادي".

 أما عن الدعم الحكومي لإنعاش هذه الصناعة فتقول هدبا لــ "الميادين الثقافية": "بذلت المؤسسات الرسمية والمنظمات المعنية جهوداً كبيرة لتعزيز حركة التأليف والنشر المتعثرة بفعل نقص الموارد والحصار، وكذلك دور النشر المؤمنة بأهمية الكتاب والمتشبثة بدورها في مواجهة الأزمة الاقتصادية والسياسية كجهة فاعلة في المعركة الثقافية، إلا أن واقع الكتاب مازال دون الطموح خاصة مع عزوف الكثيرين عن القراءة بسبب ظروف المعيشة القاسية التي جعلت الكتاب ترفاً بعيد المنال مع ارتفاع سعره، رغم الدعم الذي تقدمه مؤسسات الدولة الثقافية كــ "الهيئة العامة السورية للكتاب" ومنظمة "اتحاد الكتاب العرب".

  الاستمرارية مهما كانت الظروف

  • قحطان بيرقدار
    قحطان بيرقدار

أما الشاعر السوري قحطان بيرقدار مدير منشورات الطفل في "الهيئة العامة السورية للكتاب" ورئيس تحرير "مجلة أسامة"، فيقول: "بالتأكيد كان للحرب تأثير كبير في صناعة الكتاب في سوريا وبرز أكثر مع اشتداد الأزمة الاقتصادية. إذ ارتفعت أسعار المواد اللازمة للطباعة من حبر وورق وبلاكات وما إلى ذلك، وأصبح الحصول عليها صعباً بشكل ما، ومن ثم انعكس ذلك على طباعة الكتب، وأصبحت التجارة في هذا المضمار محفوفة بالمخاطر".

و يتابع بيرقدار: "هذه معاناة تعرفها وتعيشها دور النشر الخاصة والعامّة، إذ أصبح شراء الكتاب بالنسبة إلى الشخص العادي من كماليات الكماليات، ومع ذلك نلاحظ أنّ وزارة الثقافة في سوريا، وعبر الهيئة العامة السورية للكتاب، استطاعت أن تُذلّل بعض الصعوبات، وأن تضع بعض الحلول، وأن تجعل الكتاب في متناول الأيدي على نحو مُيسّر نوعاً ما".

 وعن دور الهيئة في تنشيط حركة النشر والطباعة يقول بيرقدار: "يشهد بذلك الإقبال الكبير من الناس على جناح وزارة الثقافة/ الهيئة العامة/ في معارض الكتاب التي أُقيمَت في السنوات الأخيرة في مكتبة الأسد الوطنية في دمشق وفي عدد من الجامعات السورية وفي غير جهة،إذ كانت الكتب على اختلاف أنواعها، ولاسيما كتب الأطفال، تُطرَح بأسعار معقولة وبحسومات كبيرة تناسب دخْلَ المواطن في هذه الظروف،على الرغم من الصعوبات الجمة التي تُعانيها وزارة الثقافة وهيئة الكتاب في تأمين المواد اللازمة للطباعة وما إلى ذلك".

ويختم قائلاً: "وما أريد أن أُؤكّده أنّ منشورات وزارة الثقافة عبرَ الهيئة العامة السورية للكتاب لم تتوقّف قطّ طوال سنوات الحرب الماضية، ففي كلّ سنة كانت تُطبَع مئات الكتب،بما في ذلك الدوريات وكتب الأطفال ومنشوراتهم، كمجلة أسامة ومجلة شامة والسلاسل التي تصدرها مديرية منشورات الطفل في الهيئة العامة السورية للكتاب... صحيحٌ أنّ أعداد النسخ غدا أقلّ  من السابق، وهذا ما أثّر في التوزيع وفي وصول المنشورات إلى المواطن وتوافرها بين يديه، إلا أنّ منافذ بيع الكتب العائدة للهيئة العامة السورية للكتاب لاتزال تواصل بيع الكتب بأسعار مقبولة في المراكز الثقافية وفي غير مكان... إننا بالتأكيد نرجو الأفضل، لكننا نعلم جميعاً أنّ ما نمر به اقتصادياً وسياسياً ليس سهلاً أبداً، والأمر الذي نُركّز عليه حالياً هو أن نبقى مُستمرّين في العمل مهما حدث، وأن نبقى موجودين بقوة على الساحة الثقافية مهما اشتدّت الخطوب، وأملُنا في المستقبل كبير، و"نحن محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".

حال انتعاش وأرقام مبشرة

الأرقم الزعبي عضو المكتب التنفيذي في "اتحاد الكتاب العرب" في دمشق، مؤكداً لــ "الميادين الثقافية" أن "الحديث عن الحرب وتأثيراتها على الحال السورية والتي أصابت جوانب عديدة أهمها الجانب الثقافي، وبالتالي الحوامل الثقافية كالمكتبات العامة والخاصة والمراكز الثقافية وتدميرها وهي التي تشكل إرثاً ثقافياً كبيراً. والتي تعد بمثابة اعتداء على الثقافة، وهذا انعكس سلباً على صناعة الكتاب وتسويقه، وحركة التأليف، منها صعوبة النقل والتنقل بين المحافظات وبالتالي انعدام الاستقرار".

ويتابع: "شهد عمل الإتحاد تحسناً تدريجياً. فخلال السنوات العشر الأخيرة صدر عن الإتحاد أكثر من 600 عنوان ، وأكثر من ذلك في الهيئة السورية للكتاب ودور النشر الخاصة. يمكن القول، إن حركة الطباعة بدأت بالانتعاش رغم كل المعوقات"، حيث "بلغت مبيعات الاتحاد عام 2021 ما قيمته 56 مليون ليرة سورية في المعارض المقامة في الجامعات والمراكز الثقافية، ما يدل على أن هناك حال تعطش للقراءة، وبحكم التعرفة اليسيرة على سعر الكتاب والبالغة فقط (200) ليرة، للكتاب المطبوع قبل عام 2015 وحسومات تبلغ 60% على الكتب الصادرة بعد عام 2016".

ويختم الزعبي كلامه: "نحن في الإتحاد نذهب إلى القارئ ولا ننتظره أن يأتي إلينا، هذه رسالة، والرسالة الأهم أن اتحاد الكتاب العرب خلال سنوات الحرب لم ينقطع عن عمله ونشاطاته المتعلقة بالندوات والأمسيات في المحافظات الأكثر أماناً واستقراراً، فلا يزال فرع إدلب يزاول عمله، كذلك في المناطق المحررة التابعة لمحافظة الرقة، وتم الإعلان عن مسابقة لأدب الشباب سيتم تكريم الفائزين فيها خلال هذه السنة، وسيقيم الإتحاد معارض للكتاب خلال الشهر القادم في جميع المحافظات".