عاشوراء والأسطورة... تقاطعات في بناء شخصية البطل

الأسطورة عنصر بنائي مكوّن للفكر الإنساني. ينمو الفكر الانساني ويتحرّر، ويزداد عقلانية مع تطوّر المعارف والعلوم، لكنّ ذلك لا يمنع عنه حالة الحلم والتخيّل، والأسطورة في أهمّ خصائصها أنها رؤية حلمية تخيليّة.

  • عاشوراء والأسطورة... تقاطعات في بناء شخصية البطل

لماذا أصبحت ثورة الإمام الحسين خالدة؟ هل بسبب قيمها الإنسانية النبيلة، أم لكونها جزءاً من الأسطورة التي لطالما كانت منابعها من أرض الهلال السوري الخصيب؟ وهل لطقوس الحزن والبكاء التي تصاحب ليالي عاشوراء جذور تاريخية تمتد للطقوس ذاتها في الأساطير السومرية والبابلية والأكادية، حتى وإن كانت هذه الأساطير تتباين في حكاياتها؟ وما علاقة أحزان عاشوراء بالحزن الجماعي المنظّم الذي ورد في ملحمة جلجامش 3200- 3000 ق. م؟ 

توظيف الأسطورة في ثورة الحسين مسألة في غاية الأهمية، فما من حقبة حضارية معروفة إلّا ووظّفت الأسطورة في تاريخها. هكذا يبدو وكأنّ الخيال الشعبي لم يحفظ في هذه الشخصية الحسينية جوانب أخرى هي مهمة جداً لفهم عناصر البناء التي ظهرت من خلالها ثورة الحسين.

قد تصبح الأسطورة أحياناً تاريخاً وخرافة، وتداخلها مع الخرافة يزيدها تعمية وغموضاً، والتاريخ نفسه يصبح لدى جيل من الأجيال أسطورة، فشخصية الحلّاج وشخصية الإمام الحسين، والمسيح، شخصيات تاريخية لكن بعدها الإنساني، ومدى تأثيرها في الفكر السوري والعربي والمحمدي لا يزال يفعل فعله بشكل أسطوري يفوق حدّ التخيّل.

تاريخياً، كانت الأسطورة هي الملاذ الأول للإنسان للانتصار على خيباته ولتخطّي فواجعه، وبالرغم من بعض التحليلات، فإنّ الأسطورة من حيث كونها فكراً وفناً وتاريخاً، فإنها تشكّل خطاباً يمكن أن يقال عنه إنه أدبي يتناص مع التاريخ والميثولوجيا. وما يجعل الأسطورة خطاباً أدبياً قدرتها على توسيع آفاق المخيّلة عن طريق الحلم والتخيّل.

والأسطورة عنصر بنائي مكوّن للفكر الإنساني. ينمو الفكر الإنساني ويتحرّر، ويزداد عقلانية مع تطوّر المعارف والعلوم، لكنّ ذلك لا يمنع عنه حالة الحلم والتخيّل، والأسطورة في أهمّ خصائصها أنها رؤية حلمية تخيليّة.

وترافق الأسطورة الإنسان في حلّه وترحاله باعتبارها رمزاً مضيئاً وأصيلاً، وقد تتعدّد مستويات هذا الزمن من حيث الإضاءة والعتمة، لكنه يبقى على صلة قوية بصيرورة التاريخ وتشكّل طبقاته الاجتماعية.

يحدّثنا أرسطو عن المأساة في كتابه "فنّ الشعر" ويقول إنها تتضمّن فعلاً نبيلاً، ويحاكي هذا الفعل بطل تراجيدي نبيل هو الآخر. وهذا البطل يجب أن يتصف بصفات حقيقية نبيلة، وهذه الصفات تنطبق عليه أصلاً أو في الرواية التي تُروى عنه، ومن صفاته الامتثال لحكم القدر المكتوب، وفي طقوس عاشوراء الدرامية نجد هذا البطل النبيل الذي تتوفّر فيه كلّ الصفات، ألا وهو الإمام الحسين.

يؤكّد العلامة اللبناني الراحل، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، أنّ "مظاهر الحزن والعزاء الحسيني هي تقليد عربي قديم لا نزال نكرّره إلى يومنا هذا". ما يعني أنّ هذه المراسم قد تطوّرت فوجِّه هذا البكاء عند البابليين إلى الإله مردوك. ففي اليوم السابع تُقام طقوس محزنة تمثّل موت الإله تموز، أثناء احتفالات البابليين بأعياد رأس السنة التي كانت تستغرق 12 يوماً تبدأ في الأول من نيسان/أبريل. وتنتهي هذه الاحتفالات في معبد مردوك الذي يقع قرب نهر الفرات، حيث تُعاد محاكاة وقائع "قصة الخليقة" وتتمثّل في دراما محزنة لموت الإله وصعوده إلى السماء..لكن لماذا هذا الشبه مع صلب يسوع المسيح وصعوده إلى السماء؟

وبقي عند طائفة الصابئة الحرانية الكلدانية هذا التقليد الحزين وتغريبه، ودخل ضمن احتفالاتها الدينية التي يقع أحدها في منتصف تموز/يوليو ويسمّى عيد "البوقات" ويعني "النساء المبكِّيات"، ويذكر المستشرق السويسري الألماني، آدم متز، أنه "سرى كثير مما يُقال لإثارة العواطف في يوم جمعة الآلام عند المسيحيين إلى يوم عاشوراء".

من البديهي القول إنّ طقوس وشعائر عاشوراء مرتبطة بعقيدة متجذّرة كان من الطبيعي أن يكون لها هذا الزخم الجماهيري الذي يحرّكه شعور الولاء والانتماء لسيد الشهداء وقضيته، وقد أضفى هذا الزخم جواً تراجيدياً ممسرحاً هدف إلى خلق هوية نأت بنفسها عن حالة الاتكاء غير المبرّر على أنماط المسرح الغربي.

ورغم أنّ طقوس العزاء العاشورائية استمدت خصوصيتها من التراث، فإننا نراها تعتمد على الآلات الشعبية بتنظيم إيقاعي يتماهى مع الحركات التي يؤديها الأشخاص المشاركون في الموكب كاللطم على الصدور أو ضرب الجسد بالسلاسل، وما إلى ذلك.

فهل تُلام عشتار على مساهمتها في استدراج تموز إلى عالم القتل ثم نواحها عليه؟ أم تُلام أمة الرسول محمد على خذلانها الحسين ثم نواحها عليه؟ أم أنّ ما حصل هو حركة طبيعية في التاريخ تقتضيها قوانين المجتمعات وتطوّراتها؟

إنّ اللجوء إلى الأسطورة في الفكر "الشيعي" المعاصر هو استحضار للبطولة الغائبة، وحنين لها، وعندما نستدعي البطل الأسطوري والتاريخي عبر هذا الزمن، فإنّ توقاً شديداً يدفعنا إلى تمثّل حالات هذا البطل علّه يكون المفدي والمخلّص، والشعلة التي تنير لنا طريقاً مظلماً.

لا شكّ في أنّ التاريخ كما يقول أنطون سعادة هو سجل سير حياة المجتمعات!

اخترنا لك