عبد الله مراد.. "العارف صاحب تجريد"
25 لوحة لعبد الله مراد في معرض دمشقي، معظمها موقّعة بتاريخ هذا العام، فيها الكثير من الدراما، والصراع فيها على أكثر من مستوى.
-
من أعمال عبد الله مراد
"أن تقتنص اللحظة الراهنة بفرشاة رشيقة من دون تردّد كرمية نرد غير مضمونة النتائج. احتمال الفشل قائم، لكنه لن يكلّفني سوى إتلاف الورقة. ورقة الرسم لا تحتمل المماحكة. إما أن تمنحك أسرارها دفقة واحدة أو فالانسحاب صاغراً. وثمّة الاختصار والحذف والانفلات من الزمان والمكان إلى فضاءات التجريد. الموضوع يتسلّل أحياناً من دون قصد مثل زلات اللسان".
بهذه العبارات عرَّف الفنان السوري، عبد الله مراد، عن فلسفته في معرضه الذي افتتح أمس الأربعاء في غاليري "مشوار" في دمشق، تاركاً الجمهور أمام لوحاته في دهشة عارمة. خاصةً أنه استطاع بخبرته التشكيلية الكبيرة أن يرسم كالأطفال، ويضع خطوطه وألوانه وتكويناته على سطح اللوحة ببداهة وعفوية آسرة، بلا تخطيطات مُسبقة لما ستؤول إليه أعماله.
هكذا ومن خلال تكثيف عميق، يُعيد مراد إلى الأذهان أسئلة الاستيطيقا الأولية عن علاقة الفن بالجَمال ومنابته، وهل الرسم هو محاكاة للأشياء أم استخلاص الجَميل فيها، وأيهما في مستوى أعلى: الطبيعة أم الفن؟ وإلى أي درجة تؤدي المتعة (متعة الفنان ومتعة الناظر لأعماله) دوراً في تحقيق قوانين الجَمال؟ ومن يوصل الفنان إلى الإبداع، شطحات الخيال أم الالتزام بالواقع؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لم تترك أعمال مراد إجابات واضحة عنها، بقدر ما قدَّمت مفاتيحها وأسَّست لجدليات نقدية حولها.
-
الفنان عبد الله مراد
25 لوحة، معظمها موقّعة بتاريخ هذا العام، فيها الكثير من الدراما، الصراع فيها على أكثر من مستوى، فمرة بين ما توحي إليه خطوط عبد الله مراد من شخوص يخوضون معاركهم الوجودية الخاصة، وأخرى بين التكوينات المُبهِرة التي تمتلك حيوتها الفريدة من تراكبات قد تبدو عشوائية للوهلة الأولى. لكنها تحقّق توازناتها الدقيقة وتُبرز خبرة هذا الفنان المنبثقة عن معرفة عميقة في وضع مكنوناته على السطح الذي يشتغل عليه وتوزيعه للكتل والفراغ بدراية واسعة.
وفي أحيان أخرى يتجسّد الصراع في تجاورات الخطوط، ومرّات في تلاشيها، إضافة إلى الفيزياء اللونية التي يشتغل عليها بحساسية عالية، تُضمِر الكثير، بحيث إنّ أنواراً متراكبة تسطع على وجه اللوحات، نور اللون ونور الفكرة التي اختمرت في ذهن الفنان قبل أن ينقلها إلينا بنوع خاصّ من الأثيرية، والأهم بأمانة منقطعة النظير.
-
من أعمال عبد الله مراد
ولعلّ هذا ما دفع مديرة غاليري "مشوار"، ميادة كلسلي، إلى أن تقتبس من كتاب "هسهسة اللغة" لرولان بارت في تعريفها بهذا المعرض، إذ كتبت: "كلّ تجريد هو حنين يكشف عن مشاعر وأفكار وتداعيات المرئي في اللامرئي بعد تعريته وتجريده من الزيادات، ومنه عطف حالة خاصة على حالة عامّة شكلاً ومضموناً، والعمل بصمت هو أكثر التجلّيات حدّة لتجربة الفنان عبد الله مراد ولتأمّلاته، وفي هذا السياق ليس من الصدفة أن يصف نفسه على النحو الذي يراه هو (أنا مجرّد رسّام ينحو نحو الصمت قدر الإمكان)".
هذا الصمت موارب جداً، لدرجة أنه يُفصح عن أشياء كثيرة لا يستطيع إلا القلائل سماعها، وتلمُّس معانيها، ولا سيما مع الاقتصاد والحذف والتكثيف والإضمار، بحيث تصبح لوحات مراد تجسيداً بصرياً لمقولة النفري "كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، ولا سيما مع الشاعرية الكبيرة في المعالجة، والعاطفة القوية التي تتملّك الإنسان وهو يتأمّل أعمال المعرض، والغِنى البصري الذي يختلف من لوحة إلى أخرى، وكأنّ الفنان يرتقي في معراجات الشكل واللون إلى مصافي الدهشة، ويفتح أبواب الحرية واسعةً على التفسيرات المختلفة لما يُريد أن يقوله، ولنبرة صوته الفريدة التي تحتاج إلى إصغاء مديد من أجل الوصول إلى إمكانية فكفكة شفراتها وفهم مغازيها.
-
من أعمال عبد الله مراد
الفنان عدنان حميدة، المحاضر في "الجامعة العربية الدولية"، أوضح في تصريح خاص بــ "الميادين الثقافية" أن "أكثر ما يُدهش في أعمال عبد الله مراد هو عودته إلى ألقه في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، وكأنه الآن يعمل بكامل القوة والدراية، علماً أنه يعمل كطفل، فرغم أنه معلم، ليس للأجيال، بل معلِّم للمعلمين التشكيليين، إلا أنه يلخِّص المَشاهد كثيراً حتى يصل إلى أعلى درجات التجريد، ويميل في بعض أعماله إلى الرمزية والتعبيرية. فالجسد الذي يرسمه ما هو بجسد، والأنثى ما هي بأنثى، لكن لوحاته كلها أنثى".
وأضاف حميدة: "جيل عبد الله مراد من الأجيال التي كانت ترسم ضمن الطبيعة فأشبعت عينه بهذا اللون الأخضر، واللون الأصفر (الأرض والتراب)، وهذا هو السر في أنّ كثيراً من التشكيليين السوريين ألوانهم متقاربة، لأنّ لهم المرجعية ذاتها، ويتميّز مراد بأنّ فحوى موضوعاته هو الموسيقى اللونية، فعندما تستمع إلى أغنية، تطرب لكلماتها وقد تدفعك للبكاء، لكنّ القوة في أن تفرح بالميلودي من دون الكلمات ولا أية إيضاحات، وهو ما استطاعه هذا الفنان بمعرفته التشكيلية الواسعة، حتى أصبحت علاقته مع أعماله تجسيداً لما قاله محيي الدين بن عربي في أواخر حياته من أنّ "العارف صاحب تجريد".
وعن جماليات التكوين عند عبد الله مراد قال حميدة إنّ: "تكويناته تختلف عن كثير من الفنانين السوريين، فهم تأثّروا بالمدافن التدمرية وموجودات المتحف، لذلك كانت تكويناتهم شاقولية، بينما عند هذا الفنان التكوينات ديناميكية، تنبثق غالباً من الداخل إلى الخارج، وهي ليست شاقولية أو أفقية، فمن الداخل هناك حركة لكنها مستقرة، ولا يمكن إزاحتها يميناً أو يساراً. بالمختصر أعمال مراد تنعش، وينبغي أن تراها ككائن جديد تراه الآن ولم تره سابقاً".