عبق الزمان وسحر المكان.. ما سرّ بيوت عمّان القديمة؟

كأنّها عالم آخر. بيوت تنتمي إلى زمان مضى لكنّها ما زالت مقصداً للجميع حيث يجدون فيها الدفء والراحة. ما السرّ في بيوت عمّان القديمة؟

عندما تتجوّل وسط العاصمة الأردنية عمّان، ستخطفك أضواء المقاهي والمطاعم الحديثة والشعبية، والمحال التجارية ببضائعها المبعثرة على الأرصفة والواجهات، وستغرق بين أمواج من زوّار وروّاد "وسط البلد". لكن ما إن ترفع رأسك قليلاً، حتى تكتشف أن هناك، في الأعلى، مدينة أخرى مغايرة تماماً. بيوت قديمة بجدران حفرت بها السنون معالم وملامح أوائل من استوطنوا هذا المكان منذ قرن من الزمن.

ستدرك بعد جولة صغيرة أنك تمشي أسفل مدينة كاملة من البيوت التي يقترب عمر بعضها من 100 عام أو يزيد، وستشعر بأن جدرانها الباردة ونوافذها الخشبية المتهالكة، وشرفاتها المليئة بالأتربة، تشتكي لك من هجران ملّاكها الأصليين لها، وتناديك لعلك ومن حولك تسمعون لتوسلاتها بزيارة عابرة تعيد إليها الحياة.

وإذا ما واصلت التحديق بنظرك إلى الأعلى ستستوقفك شرفة أحد تلك المنازل مكتوب عليها "هنا يقع أقدم بيت في عمّان"، وهو من أحد بيوت عمّان القديمة التي نجت من الهجران، بعد أن أعيدت إليها الحياة عبر أشخاص رفضوا أن تترك هذه البيوت التراثية فريسة لعوامل الطقس الطبيعية، والتوسّع العمراني، كما هو حال الثمانيني ممدوح البشارات الذي يعتبر بيوت عمّان المقامة منذ تأسيس المملكة عام 1921 وحتى ستينيات القرن الماضي، "إرثاً حضارياً وثقافياً يجب المحافظة عليه وحمايته".

في حديثه مع "الميادين الثقافية"، يقول البشارات الذي يعرف في الأردن بلقب "الدوق"، إن إيمانه بأهمية هذه البيوت، وأهمية إبقاء الحياة فيها، دفعه مطلع الألفية الجديدة إلى استئجار بيت مميّز وقديم وسط المدينة، وإعادة ترميمه بعد أن كان مغلقاً منذ عام 1990، ومن ثم تحويله إلى ملتقى للفن والثقافة والذكريات بحسب وصفه، أطلق عليه اسم "ديوان الدوق".

ويوضح البشارات أن التفاصيل التي حرص على وضعها في البيت، من كتب ولوحات فنية وأدوات تراثية قديمة، جعلت من "ديوان الدوق" مزاراً ومقصداً لعشاق الفنون المختلفة، من رسم وشعر وموسيقى وأدب، مشيراً إلى أن "ديوانه" منح لهم مساحة إبداعية مميّزة، حيث لا تتوقّف الندوات الثقافية وحفلات تواقيع الكتب والأمسيات الشعرية والمعارض الفنية.

وبني "ديوان الدوق" الموجود منتصف شارع الملك فيصل في وسط البلد، عام 1924 كمنزل خاص، لكن سرعان ما قامت حكومة إمارة شرق الأردن حينها باستئجاره وتحويله إلى مكتب بريد كان الأول من نوعه في البلاد، وبقي على هذه الحال حتى منتصف الأربعينيات، ليتحوّل إلى فندق حمل اسم "حيفا"، قبل أن يغلق مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

هذا هو حال العديد من بيوت عمّان القديمة التي نجت من الهجران، بعد أن أعيدت إليها الحياة عبر شكلين مختلفين، الأول بتحويلها إلى مقاهٍ شعبية تستقطب السيّاح ومحبّي مناطق عمّان القديمة، بينما صنع آخرون من هذه البيوت ملتقيات ثقافية، ومعارض فنية، ومتاحف تروي بمقتنياتها تاريخ عمّان الحديث.

جبل اللويبدة أو "جبل الثقافة"

عبر عشرات الأدراج التاريخية التي تربط جبال وسط العاصمة ببعضها، والعائد بناؤها إلى العصر الروماني، يمكنك الانتقال خلال دقائق قليلة صعوداً عبر "درج الكلحة" من وسط البلد وصولاً إلى جبل اللويبدة أو كما يطلق عليه جبل الثقافة، وما إن تصل إلى نهاية الدرج حتى تقابل "مركز جدل للثقافة والمعرفة"، الذي يحتضنه أحد البيوت المرمّمة في المنطقة.

ففي العام 2011 قرّر المهندس فادي عميرة أن يجعل من بيت مهجور معروض للإيجار في جبل اللويبدة ملتقى ثقافياً وفنياً لسكان المنطقة وزوّارها حمل اسم "مركز جدل"، وهو ما نجح فيه عميرة قائلاً لــ "الميادين الثقافية"، إن البيت أصبح "نقطة جذب لكل صاحب فكر فني وثقافي في عمّان وفي كلّ الأردن".

ويضيف عميرة، أن البيت الذي بني في ثلاثينيات القرن الماضي يضمّ تفاصيل في كل حجر وزاوية وغرفة منه، تروي جميعها شكل حياة العمّانيين في تلك الفترة. الأمر الذي زاد من حرص عميرة عند البدء بأعمال الترميم، على عدم تغيير ميزاته المعمارية القريبة من الطراز الدمشقي، لكونه يتضمّن حديقة جانبية تتوسّطها "نافورة" مضلّعة، شبيهة بتلك الموجودة في وسط بيوت الشام العتيقة.

ويروي عميرة الذي تخلّى عن مهنته كمهندس مدني وتفرّغ لمركزه الثقافي، أنّ "كلّ من زار المركز أو أقام فيه فعالية ثقافية أو فنية، يشعر بهدوء لا يوصف، وبحميمية يفتقدونها في المنازل الحديثة الباردة الخالية من أي مشاعر وأحاسيس"، مؤكداً أن "مركز جدل" يستضيف على الدوام فعاليات كالأمسيات الشعرية والموسيقية وحفلات إشهار الكتب، ويركّز على الفئات الشابة في كثير من الأحيان.

وتمتاز منطقة اللويبدة، وهي أحد جبال عمّان السبعة وأهمها ثقافياً، بمئات البيوت القديمة ذات الطراز المعماري العثماني، المحافظة على رونقها وهيبتها حتى اليوم، كونها إما مأهولة من أصحابها ومستأجريها، أو تحوّلت إلى مقارّ للمراكز الثقافية والإبداعية المهمة، أبرزها رابطة الكتاب التي أسست منتصف السبعينيات، ودارة الفنون، ونقابة الفنانين، ورابطة الفنانين، إضافة إلى المركز الثقافي الفرنسي.

العديد من بيوت جبل اللويبدة تحوّلت أيضاً إلى مقاهٍ تجارية بطابع لا يخلو من التصميمات التراثية والفنية، حيث أصبحت مكاناً للقاء الأدباء والفنانين والمثقّفين، كما هي الحال مع ليندا خوري، التي حوّلت بيتاً يزيد عمره عن 70 عاماً، إلى مقهى ثقافي وعائلي. 

وتقول خوري إن فكرة افتتاح المقهى جاءت لأنها من عشّاق مدينة عمّان التراثية، و"أطمح بأن تعود الحياة لبيوتها القديمة جميعها"، كما أن المقهى يوفّر مساحة هادئة للكتّاب حيث يستلهمون من عراقة المكان وجماله.

الهوية المعمارية لعمّان وجبالها

من نقطة انطلاق رحلتنا مع بيوت عمّان القديمة في وسط البلد، يأخذنا شارع "التاسع من شعبان" صعوداً باتجاه جبل عمّان، أحد أهم جبال العاصمة خلال فترة تأسيس المملكة. فقد أكسب اختيار العائلة الحاكمة لجبل عمّان عام 1921 مقراً لها، عقب تأسيس إمارة شرق الأردن، أهمية كبيرة، لفتت انتباه السياسيين والأثرياء والتجار وشجّعتهم على بناء قصورهم ومنازلهم في هذه المنطقة. 

وسرعان ما حوّلت السنون هذا المكان إلى ما يشبه المتحف المعماري المفتوح، المليء بالأبنية السكنية الفريدة، والمميّزة بطابعها المعماري الأنيق، لتصبح اليوم مقصداً طوال أيام السنة، كما يفيد مدير "مكتب تراث للدراسات والتصميم"، رامي ضاهر خلال حديثه عن الهوية المعمارية لبيوت عمّان وجبل عمّان.

ويوضح الضاهر أن عمّان كانت تضم خليطاً سكانياً متنوّعاً، شمل سوريا وفلسطين ولبنان، ما أعطى الطراز العمراني فيها طابع بلاد الشام "التراثي المميّز"، مع إضافة الحداثة العمرانية التي نقلها المغتربون في الدول الأوروبية وأميركا إلى الأردن، إلا أن هذا لم يفقدها طابعها العمراني العربي.

ويبيّن الضاهر أن طبيعة المنطقة الجغرافية جعلت من الحجر جزءاً أصيلاً في عمليات البناء، وتمّ دمجه في البيوت القديمة بشكل "ساحر" زيّن واجهات البيوت والقصور في تلك الحقبة، مضيفاً أن ما يميّز بيوت عمّان في المجمل هو عدم التكلّف والبذخ في بنائها، الأمر الذي منحها جمالاً سلسلاً وقريباً من القلب من دون الشعور بأن هذه الأبنية من ضروب الخيال، أو روايات السلاطين المبالغ بها.

لكن مدير مكتب تراث لم يخفِ انتقاده لتحويل البيوت القديمة في عمّان إلى مقاهٍ أو مراكز ثقافية فقط، بل يجد أن من مسؤولية أصحاب تلك البيوت والدولة أيضاً، العمل على إعادة إحيائها وتجهيزها للسكن، لأنّ قوتها البنيوية وأساسها العمراني المتين يجعل من عودتها إلى مسكن أمر هيّن وأقل تكلفة، بالمقارنة مع تحويلها إلى مقاهٍ أو مطاعم.

روّاد عمّان القديمة وبيوتها التراثية

سحر المكان، وعبق الزمان، وإقبال الزوّار، حوّل وسط البلد وجبلي اللويبدة وعمّان إلى مقصد للسياح العرب والأجانب، إلى جانب أهالي العاصمة وباقي المحافظات الأردنية، كون النشاطات الثقافية والعروض الفنية لا تتوقّف صيفاً وشتاء، إضافة إلى أنها تضم عدداً كبيراً من المطاعم والمقاهي التي جعلت من تصميمها الداخلي التراثي نقطة جذب.

فدخول أحد البيوت القديمة بالنسبة للثلاثينية آية سموع أشبه بعبور "فجوة زمنية تعيدك بلمح البصر للوراء 100 عام كاملة"، وتمنحها شعوراً بـ"الدفء والراحة والرومنسية"، وتضيف أن الشعور الذي يخالجها عند الجلوس في مقهى أو مطعم أو مركز ثقافي، يختلف باختلاف فصول العام، "الجلوس على شرفة تلك البيوت في الصيف له طعم لا يمكن وصفه، والهروب إلى الدفء خلف النوافذ الخشبية في أيام البرد أيضاً يمنح نفسك وذهنك صفاء نادراً".

طالب الأدب الإنكليزي في الجامعة الأردنية، عادل سميرات، يوافق آية الرأي، حيث أصبحت هذه البيوت ملاذه الأول عندما يكون في فترة الامتحانات الجامعية، لأن حالة الهدوء والسلام الموجودة فيها توفّر له جواً مساعداً على إنجاز مهامه الدراسية. إضافة إلى ذلك، يحرص عادل على تتبّع مواعيد وأماكن انعقاد الندوات الأدبية، التي كثيراً ما تكون مفيدة له في دراسته، وتحديداً عندما تكون مخصّصة للمقارنة بين الأدبين العربي والغربي.