عدي الموسوي: عن روحٍ هائمة في سماء "بلاد بشارة"

"حصن الشقيف" قلعة شهيرة في جبل عامل صارت رمزاً للصمود في وجه الزمن والاحتلالات المتعددة، وجبل عامل يسمّى أيضاً "بلاد بشارة".

  • ياقوت من خوابي الشقيف لعدي الموسوي
    ياقوت من خوابي الشقيف لعدي الموسوي

تستحوذ رواية عدي الموسوي "ياقوتٌ من خوابي الشقيف" (دار البيان العربي/ 2023) على اهتمام القارئ من صفحاتها الأولى، فالكاتب الذي يدرك جيداً أن الرواية التاريخيَّة ليست تأريخاً فحسب، وأن الأدب المقاوم ليس موقفاً نبيلاً فحسب، اكتفى بالاتكاء على هاتين الركيزتين ليشيد بناءه الروائي باحتراف، ويحوك خيوط حبكته بعناية، من دون أن يهمل عنصر التشويق.

العنوان الطويل يفصح عن أسراره للقارئ كلما أوغل أكثر في صفحات الرواية، فالياقوتة ذات البريق متوحش الحمرة تكاد تكون البطل الحقيقي للرواية في رحلتها من درع الفارس التركماني "مافي جقمق" أو "غريب الأزرق" إلى جيد زوجته وحبيبته العربية آمنة التي فتنتها شجاعة الفارس الغريب حتى شغلتها عن أصله وفصله، ثم إلى خاتم سيتوارثه أبناؤه من بعده، قبل أن تستحيل الياقوتة إلى شظايا في حصن "الشقيف"؛ المكان البؤري لأحداث الرواية، والذي تنازعه على مساحة الحضور في صفحات الرواية "قلعة حلب"، وبنسبة أقل مدينة صور الواقعة تحت حصار الإفرنج، وحولها صخرة المعشوق والبرجين الشمالي والجنوبي، ثمّ سهل سَرمَدا، حيث تتناوب هذه الأمكنة جميعها على رسم صورة البطولة والعنفوان والصمود في وجه المعتدين.

"حصن الشقيف" قلعة شهيرة في جبل عامل صارت رمزاً للصمود في وجه الزمن والاحتلالات المتعددة، وجبل عامل - الذي ينتمي الكاتب إليه - يسمّى أيضاً "بلاد بشارة". هذه التسمية عائدة، بحسب المؤرّخين، إلى الأمير حسام الدين بشارة العاملي الذي حملت اسمه الشخصية الروائية "بشارة الصبّان" تيمناً به، وهي الشخصية الرئيسية التي تتولى على مساحة معظم صفحات الرواية مهمّة "الراوي العليم"، العارِف حتى بما جرى بعد وفاته وقبل ولادته، إذ كُشِف له الغطاء، فصار بصره حديداً، وسافرت روحه هائمةً عبر الزمن، وظل الحصن وتداً خفيّاً تؤوب إليه شوقاً لتتابع تبدل هيئته عبر الأزمنة، وكذلك تبدّل هوية الغزاة والمدافعين.

بشارة لا يحتكر السرد، بل يتناوب عليه أحياناً مع جدّه سيف الدين بن مافي جقمق وجدّته الكبرى حورية وجدّه ناصيف الصوري، محتفظاً لنفسه بأغلب مساحته، فيضفي تعدّد الرواة هذا تنويعاً لطيفاً يجعل الرواية أكثر جذباً للقارئ.

ومن دون فجاجة أو اعتداء على السرد، يمرّر الكاتب رسائله بين السطور، ليقول إن التاريخ لا ينفكّ يعيد نفسه، فالحصن الذي رفض قائد حاميته تسليمه للغزاة الإفرنج عاش ليشهد بسالة حامية أخرى، فلسطينية، لا تقل شجاعة، رفضت أيضاً أن يُكتب في صحيفتها أنها سلمته طائعة لأرييل شارون وجنوده عام 1982. 

الحصن حاضر إذاً عبر الأزمنة في الواقع وفي الرواية، ومثله نهر الليطاني، الذي لا يحلم الغزاة اليوم بأكثر من طرد المدافِعين من جنوبه إلى شماله! وفي كل زمنٍ يموج في صدور المدافعين عن الأرض الأسى الدفين نفسه، إذ يجدون أنفسهم مجبَرين على قتال "إخوانهم" أولاً، بعدما اختار هؤلاء طائعين أن يكونوا للمعتدي سيفاً ودرعاً!

وكما نجح الكاتب في تشبيك نصه الروائي مع فكرة المقاومة بمعناها الأشمل العابر للتاريخ والجغرافيا، من غير ادّعاء مجاني أو افتعال أو تكلف، فوصل به إلى القائمة الطويلة في "جائزة سليماني العالمية للأدب المقاوم" في دورتها الثانية، فقد نجح أيضاً، ورغم استناده إلى كمّ كبير من المصادر والمراجع التاريخية، في تلافي وقوع النصّ أسيراً للمعلومات التاريخية التي يقدمها للقارئ بما قد تحمله من جفاف وتقريرية، مجيداً انتقاء ما يريده ويناسب نصّه من هذه المعلومات، ومتقناً تمريرها في نسيجه الروائي بسلاسة يصعب معها فصل ما هو واقعي عما هو متخيّل من أحداث الرواية. وما ينطبق على الأحداث ينطبق على الشخوص، فلولا القائمة التي تصدّرت الرواية وضمّت أسماء أبرز الشخصيات الحقيقية الواردة فيها، لما استطاع القارئ تمييزها عن الشخصيات التي تفتّق عنها خيال الكاتب، إذ تداخلت حكايات هذه الشخصيات ومساراتها ومصائرها حتى دبّت الحياة فيها وفي الرواية نفسها.

ورغم جزالة الحوار، فإن تمرير بعض المعلومات حول ماضي الشخصيات من خلاله أوهنه أحياناً، كما في حديث القاضي أبو الحسن ابن الخشاب وكجك الشِحنَكي وسيف الدين حول ظروف امتهان الأخير صناعة الصابون في حلب بعد بتر قدمه في معركة سهل سَرمَدا، فقد انخرطت الشخصيات الثلاث في حوار لا غاية منه سوى إطلاع القارئ على جانبٍ – سبق أن قفزَ السرد من فوقه - من حياة "سيف الدين" الذي تحوّل فجأة من "فارس مقدام" إلى "صبّان ماهر"، وربما كان أجدى لو جاء هذا الاسترجاع الحكائي عن طريق السرد لا عن طريق الحوار.

ولعل أهمّ ما يسجَّل للرواية وكاتبها بالمقابل من عناصر إيجابية، أن تعدّد الأزمنة والأمكنة والرواة فيها لم يخلخل بنيانها ولم يصبها بأي تفكك أو انقطاع حكائيّ أو عرجٍ سردي، بل جاءت وحداتها السردية مترابطة بذكاء وسلاسة، وهي تتألف من 13 وحدة سردية معنوَنة كالتالي: "فبصركَ اليوم حديد"، "روحٌ هائمة"، "لوعة الياقوتة"، "الأزرق الغريب"، "سهل سَرمَدا"، "الفارس الصبّان"، "شؤم الأحلاف وشتاء الحصار"، "نحو جبل عاملة والجليل"، "آل المعشوقي الصوري"، "القناع المكسور"، "عسكر الأمير بشارة"، "اجتماعان في الحصن"، "قوسُ رحمة"، يسبقها استهلال موجز بعنوان "دوزَنة"، وتليها خاتمة قصيرة بعنوان "بينهما برزخ".

وفي الرواية، ضرب من التكرار المفيد نقع عليه في فصلها الأول في قول الراوي: "هكذا أبصر نفسي أو جسدي في ضوء الفانوس"، ثم "وها أنا أُحمَل.. بل يُحمَل جسدي"، ثم "يُهال التراب فوقي.. بل فوق جسدي"، فكأن الكاتب بهذا التكرار في اللفظ والمعنى لا يريد أن يتركنا قبل أن يتيقن أنه قد رسخ في أذهاننا من خلال تكرار "اللفظ" أن من سيواصل رحلة السرد هي الروح الهائمة للشخصية، لا الشخصية نفسها، و"المعنى" هنا يتمثل في القدرة على رؤية الشخصية ما لا يمكن لها رؤيته في حالتها الطبيعية. ونقع على مثل هذا التكرار المفيد في مطلع كل وحدة سردية حين يذكّرنا الراوي بهذه الحقيقة (هيَمان الروح) عن طريق مخاطبتنا بعبارته "يا رفقة التطواف".

"ياقوتٌ من شظايا الشقيف" خطوةٌ أولى لعدي الموسوي في درب الرواية التاريخية، يأمل القارئ بعد تطوافه فيها ألا تكون الأخيرة لكاتبها في ميدانٍ طغى عليه في السنوات الأخيرة الاستسهال والتجرّؤ من بعض من لا يمتلكون أدواته، وهي في الوقت ذاته "أدبُ مقاومةٍ حقيقيّ" من الطراز الرفيع الذي نرنو إليه خالياً من المباشرة والخطابة، مراعياً لشروط النوع الأدبي ومواصفاته، وملتزماً بتقنياته ومعاييره.