عرض "ذواتنا": الرقص كتعبير عن الخوف والألم

قُدِّمت أمس الثلاثاء في دمشق عروض تخرّج قسم الرقص، في المعهد العالي للفنون المسرحية. فكيف كان أداء طلاب الدفعة الأكبر في تاريخ القسم؟

  • تعتبر دفعة هذه السنة الأكبر في تاريخ قسم الرقص
    تعتبر دفعة هذه السنة الأكبر في تاريخ قسم الرقص

لا تزال عروض تخرّج قسم الرقص، في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، تُشكِّل متعةً خاصةً في التلقّي، لا سيّما خلال متابعة نوتات الأجساد، وتعقُّب المعنى الكامن وراء الحركة، وما يُحفِّزه الارتجال وتُعزِّزه الحرية من مَشهديات غزيرة الجَمال، شكلاً ومضموناً، وهو ما ينسحب على عرض "ذواتنا"، الذي قدّمه 14 طالباً مرشَّحين لنيل الإجازة في الفنون المسرحية، بإشراف الأستاذ معتز ملاطية لي.

"تأقلم".. على الرغم من الصعوبات

افتتحت لوحة "تأقلم" العرض، لنرى راقصةً تخرج مما يشبه الشرنقة معلقةً في السقف، بينما أقرانها السابقون لها في الخروج يُكابدون مما يُقيدهم، ويُشعرهم بأنَّهم مهما حاولوا فإنَّ إحساسهم المديد يُشير إلى أنَّهم ما زالوا سجناء ضمن شرنقةٍ أكبر، وأكثر اتساعاً.

وفق هذه الفرضية التي قدّمها كلٌّ من سالي داؤد، عادل سلام، غزل حماده، ماريا معماري، ونتالي رزق، تمَّ الاتّكاء على متوالياتٍ حركيةٍ تتكرَّر لدى الراقصين، وكأنَّها ارتداداتٌ للشعور ذاته الذي يأسرهم، وليس سعيُهم لكسر النَّمَط إلا محاولاتٍ تصطدم بالفشل دائماً، سواءً لقصورٍ ذاتيٍّ، أو بسبب الآخرين، أو لأنَّ قضبان أسر الحياة أقسى من أن تُكسر بسهولةٍ، ولذا لم يكن أمام تلك الشخصيات الخمسة إلا التأقلم ومواربة الأسى.

يُكابد الراقصون مما يُقيدهم، ويُشعرهم بأنَّهم مهما حاولوا فإنَّ إحساسهم المديد يُشير إلى أنَّهم ما زالوا سجناء ضمن شرنقةٍ أكبر، وأكثر اتساعاً.

تمَّ الاعتماد في هذه اللوحة على تقنية التقليد الحركي، وتبديل الأدوار، بحيث تبدو الخروجات عن السَّرب أكثر جماليةً، لكنَّها لا تلبث بفعل قوانين الدَّاخل الذي يُغلِّفهم، أن تعود إلى النَّسَق من دون تمرُّدات، وتصبح الحركة مضبوطةً أكثر، وذات تناسقٍ بديعٍ، بحيث تدور الأجساد كما المُسنَّنات في ساعة الحياة الكبرى، ويُضْبَط إيقاعها ونبضها على موسيقى فارس الزراد، التي أُلِّفت خصيصاً لهذه اللوحة، إلى درجةٍ نشعر معها أنَّ أجساد الراقصين باتت تتكئ على بعضها من جهةٍ، وعلى النغمات من جهةٍ أخرى، ما ينتج عنه تماهٍ جميل بين النوتات الموسيقية ونوتات الحركة.

وعزَّز من الحالة الشعورية للراقصين، ومن التصعيد الدرامي في لوحتهم، إعتاماتٌ متكررةٌ في الإضاءة، فحتى النُّور مدروسٌ بعنايةٍ في هذه المعمعة الحياتية المُسمَّاة "تأقلم"، إلى جانب خيارٍ موفَّقٍ للأزياء التي تشطر أجساد الراقصين إلى نصفين، الأول أسود والثاني أبيض.  

"بشر ليس إلا".. على الرغم من الخوف

  • كانت خطوات الراقصين مشبعة بالتَّردُّد الذي يفرضه الخوف
    كانت خطوات الراقصين مشبعة بالتَّردُّد الذي يفرضه الخوف

حملت اللوحة الثانية عنوان "بشر ليس إلا"، واشترك في تصميمها كلٌّ من جودي العلي، سليم رضوان، صالح جودية، لجين ملاك، ومارييلا خوام، وشكّل "الخوف الذي يُطفئ نور الحقيقة" محورها الأساس، لذا كان الرقص فيها أشبه بالعراك، حيث العضلات منطلقةٌ بعنفوان، وشَدُّ الأعصاب على أشدِّه، ولاقت كلُّ محاولةٍ لفهم ما يجري الفشل، ومهما استنفرت الحواس في كَشْفها، فإنَّ الخوف يُعيد ترويضها مرةً أخرى، وإعادتها إلى عَمَاها.

تكمن المشكلة الرئيسة التي تناقشها الفرضية تلك في الذات، ورغبتها الجَادَّة في الوصول إلى الحقيقة، وهنا كانت خطوات الراقصين مشبعةً بالتَّردُّد الذي يفرضه الخوف، و متنوعةً في الوقت ذاته بسبب اختلاف مستويات الجرأة والشجاعة التي يحملونها في مواجهة هواجسهم، ونتيجة اعتمادهم على ثقل أجسامهم لتعزيز الحركة، لذلك شهدنا اصطداماتٍ عنيفةً بالجدار الذي يحتلّ عمق خشبة مسرح سعد الله ونوس، ناجمةً عن العراك المتواصل فيما بينهم. 

كان الرقص فيها أشبه بالعراك، حيث العضلات منطلقةٌ بعنفوان، وشَدُّ الأعصاب على أشدِّه، ولاقت كلُّ محاولةٍ لفهم ما يجري الفشل.

وفي مواجهة ذلك كله، كان البشر يواسون بعضهم، ويتكئون على بعضهم باستمرار، ويشتد أزر تعاضدهم كلما ضربت شخصية الدَّيَّان بعصاها على التَّلة، ليكتسب صوت تلك العصا، شيئاً فشيئاً، سطوةً بالغةً، بالتناغم مع موسيقى ميشيل خياط وإيقاعيتها المُذهلة، لتُحدِّدا مسارات الميزانسين على الخشبة بمساندة إضاءة حيدر الحامض، التي ختمت اللوحة بلونٍ أحمرَ مُسلَّطٍ على الأجساد مكتومة الحركة.

"عتبة الألم".. مقاومة الأشلاء المتحركة 

  • قدّم الراقصون رؤيتهم الخاصّة حول كيفية معالجتهم لآلامهم المديدة
    قدّم الراقصون رؤيتهم الخاصّة حول كيفية معالجتهم لآلامهم المديدة

ثالث لوحات عرض التخرج كانت "عتبة الألم"، وقدّم فيها كلٌّ من أليس رشيد، علي الترك، مايا عيسى، ونانسي إسحاق، رؤيتهم الخاصّة حول كيفية معالجتهم لآلامهم المديدة، بعدما تحوَّلت الحياة وحوَّلتهم إلى مُجرد أشلاء مُتحرِّكة، لذا رأينا محاولتهم التوازن في ظلِّ كل ذلك العسف الذي يُقيِّدهم، مرَّةً بالحُبّ وتدوير زواياه، وأخرى بتقسيم الألم بينهم، وثالثةً بنسج متواليات تُقرِّبهم من ذواتهم قدر الإمكان.

يحاول الراقصون التوازن في ظلِّ كل ذلك العسف الذي يُقيِّدهم، مرَّةً بالحُبّ وتدوير زواياه، وأخرى بتقسيم الألم بينهم، وثالثةً بنسج متواليات تُقرِّبهم من ذواتهم قدر الإمكان.

الحفلة الراقصة لتلك الأشلاء تمَّت بالاعتماد على توليفةٍ من الموسيقى الكلاسيكية، التي أعدها علي هادي عقيل، وإضاءة تناوبت بين العامة والبقع المتباعدة، صممتها هدى شعبان، لتصوير التنافر والتجاذب بين سكينة الحب وعمق الألم، بين الطمأنينة المؤقتة والخراب العميم للأعصاب، خاصةً لذاك السَّاعي للتخلص من القيد الذي يُحيط برقبته، لكنَّ شدَّةَ إحكامه كانت تزيد مع كل محاولةٍ للهروب، والأمر ذاته بالنسبة لتلك التي تعاني من ظلم الآخر وتسَلُّطه، وغير ذلك مما أفرزته أوجاع الحياة وآلامها. 

الدفعة الأكبر في تاريخ قسم الرقص

  • للمرة الأولى يتمّ وضع موسيقى خاصة بكلِّ لوحةٍ
    للمرة الأولى يتمّ وضع موسيقى خاصة بكلِّ لوحةٍ

التقت "الميادين الثقافية" الأستاذ معتز ملاطية لي للإضاءة على آلية بناء مثل هذه العروض، فقال: "دفعة هذا العام هي الأكبر في تاريخ قسم الرقص، وللمرة الأولى خلال 21 عاماً تكون لوحات مشروع التخرج مشتركةً بين عددٍ من الطلاب، بالرغم من أنَّ رغبة كلَّ طالبٍ كانت بأن يكون له مشروعه الخاص".

وأضاف ملاطية لي: "كان بيننا جلساتٌ طويلةٌ لإقناعهم، وبعد ذلك قدمت لهم مقترحاً بأن تكون الفرضية حول علاقات الناس، وتأثرهم ببعضهم، وانفعالهم مع الآخرين".

وتابع: "بعدها وضع كل طالب نصاً لنفسه، وبدأوا يتناقشون مع بعضهم ويبنون الشكل النهائي لفرضيتهم كنص، وبعد ذلك اشتركوا في تصميم الرقصات بعدما تمَّ وضع موسيقى خاصة بكلِّ لوحةٍ، وهي أيضاً المرة الأولى التي يتم فيها هذا الأمر". 

للمرة الأولى خلال 21 عاماً تكون لوحات مشروع التخرج مشتركةً بين عددٍ من الطلاب، بالرغم من أنَّ رغبة كلَّ طالبٍ كانت بأن يكون له مشروعه الخاص.

وأوضح مشرف دفعة التخرّج سبب انتماء اللوحات إلى الرقص المعاصر، بعيداً عن أنماط الرقص الكلاسيكية، بالقول: "الرقص الكلاسيكي والرقص الحديث باتا كلاهما مُعلَّبَين بأطرٍ وقوانين صارمة، بينما الرقص المعاصر مفتوحٌ على عوالمَ مختلفةٍ، وقابلٌ للتطور الدائم، أضف إلى ذلك أن له علاقةً بحركاتنا اليومية، وأدوات تعبيرنا عن تعبنا ومحبتنا وسأمنا"، وأردف "طبعاً هذا يجعل تكنيك الرقص أصعب، وعلاقة الراقص مع الأرض ومع الحَمْلات أكثر مشقّة، لكنّه بالنتيجة، وبسبب الحرية الكبيرة التي يمنحها للراقص ولمصممي الرقصات، فإنه يبقى الأكثر إقبالاً من قبل طلاب الرقص في مشاريع تخرجهم". 

وختم ملاطية لي حديثه مع "الميادين الثقافية" بالقول: "أشكر الطلاب على تجربتهم هذه والتي منحتنا كأساتذةٍ مشرفين تجربةً إضافيةً معهم، ففي مثل هذا النوع من الشغل نعرف كيف نتطور، إثر تعاملنا مع طلابٍ جددٍ بذهنياتٍ وآلياتِ تفكيرٍ مختلفةٍ. وكما يتعلم الطلاب منا، نحن أيضاً نتعلم معهم".