علوية صبح: كاتبة المرأة العربية والذات القلقة

بعد غيابٍ لنحو 10 سنوات، تعود علوية صبح لاستكمال مشروعها السردي من خلال روايتين. هنا نص الحوار الذي أجرته معها "الميادين الثقافية" لمناسبة صدور آخر أعمالها.

إذا أردت أن تعشق الحياة أيّها القارئ، فليس عليك إلاّ أن تقرأ لعلوية صبح، وإن شئت أن تهادن النفس بالفرح على الرغم من "الكآبة اللبنانية" غير الموصوفة، فليس عليك إلاّ أن تغوص في رموز رواياتها وآخرها رواية "افرح يا قلبي" (دار الآداب 2022). 

وإن أردت التحدي لتواجه المصير في الغربة أو في ثنائية الهوية، فليس عليك إلاّ أن تُبحر معنا في هذا الحوار. حوار إستثنائي مع كاتبة المرأة العربية في الأدب العربي، امرأة ثائرة لا تشبه أحداً، عرفت كيف تتحدى المرض بالكتابة، راصدةً مآزق الذات الإنسانية في رواياتها، ورافعة الصوت بكل نضج فنّي وأدبيّ وأنثويّ. "الميادين الثقافية" التقت علويّة صبح وكان لها معها هذا الحوار.

***

إستهلال علوية صبح روايتها "افرح يا قلبي" بكتابات المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد عن المنفى وثنائية الانتماء، يجعل القارىء يطرح على نفسه الأسئلة الوجودية، إلى أي درجة يرتبط المكان بالإنسان الزائل؟

لا يمكن أن يوجد الإنسان بمعزل عن المكان الذي يعيش فيه، هو ذاكرة وعيش، وله علاقة بمجموعة أشياء تشكل هويته وثقافته وانتماءه. المكان في رواياتي جميعها له حضور قوي ودلالات كثيرة. ولا يمكن بناء عمل روائي بمعزل عن المكان والزمان، العنصرين الأساسيين من بناء الرواية ومسارها، وحركة الأبطال في الحياة. أمّا لماذا استهللت روايتي الجديدة بكتابات إدوارد سعيد، فلأنني ليس فقط أحترم وأحبّ شخصية إدوارد سعيد، بل أيضاً أردت تكريمه في عملي الروائي. والحقيقة أنّ كتابات سعيد شكلت عنصراً أساسياً في تحريك مخيلتي، بالإضافة إلى أنّ حياة غسان (الشخصية الرئيسية في الرواية)، وانسلاخه عن المكان وحياته في نيويورك، تتقاطع مع ما كتبه إدوارد سعيد من حيث العلاقة بالمكان، الذي لم يستطع غسان مغادرته. 

في إصدارك الأخير "افرح يا قلبي"، الصادر عن "دار الآداب"، هل تمثّل الموسيقى وأصوات العصافير وعزف أمواج البحر وعلاقة الشخصية الرئيسية للقصة مع العود صورة مصغرة عن أحلام الكثيرين؟ وما مدى تماهي لغتك السردية مع النماذج اللبنانية الواقعية؟

وحده القارىء يقرر أين يلتقي مع غسان، أو مع إحدى شخصيات الرواية، ووحده يستطيع أن يرى تقاطع المسار الوطني أو تحولات المجتمع اللبناني منذ الخمسينيات حتى الآن. فهذا التاريخ لم أكتبه بشكل رواية تاريخية، كما أنني لم أقم بتخطيط مسبق لرسم الشخصيات بما يتماشى مع نماذج لبنانية.

لكن إذا تماهى القارىء مع إحدى شخصيات الرواية، فهذا يعني أنني استطعت أن أحاكي مشاعره وذاته الإنسانية اللبنانية أو المجتمعية. بمعنى ما، إذا ما قرأنا تحولات هذا المجتمع منذ زمن الناصرية، وتأثيرها في المجتمع اللبناني والعربي عموماً، نجد أنّ هذا المجتمع شهد تحولات، فالابن الأكبر في الرواية هو يساري إلى قومي، والصغير هو أصولي، وإلى ما هنالك، بل طرحت التكوين اللّبناني وكأنّ قلق الهُويّة عند اللّبناني موجود منذ استقلال لبنان، فلا بدّ أن تجد القارئة أو القارىء نفسه في أمكنة كثيرة في الرواية، ليس بالضرورة الهجرة، وإنما في غوصه في المجتمع اللبناني الإسلامي، وفي بلدة "دار العزّ". لا بدّ أن أحداً يرى صورة الأم التي تشبه الكثير من الأمهات، ضياع الأولاد في الهُوية، الألم من الحرب اللبنانية، إلى حدّ جنون طارق (إحدى شخصيات الرواية) وهروبه من لبنان.

ما هي المؤثرات التي جعلتك تكتبين هذه الرواية؟

ثمة عناصر كثيرة حرضتني على كتابة هذه الرواية، أولاً موضوع الهوية القلقة عند اللبناني، فنحن في مجتمع كل إنسان فيه يعتقد أن هويته مختلفة. ثانياً الهجرة ومعاناة المهاجر، الألم من الحرب اللبنانية وما خلفته من انعكاس على العائلة، حيث لا نجد بيتاً إلاّ وفيه الأولاد المشردون في كل أنحاء العالم. 

صحيح أنّ الكثير من الروائيين اللبنانيين تناولوا في كتبهم الحرب اللبنانية، لكنني عالجتها من وجهة نظري منذ رواية "مريم الحكايا" وحتى اليوم، عبر انعكاس الحرب على الإنسان اللبناني، محاولةً رصد المآزق الإنسانية الفردية والمجتمعية بسبب الحرب. كما شغلتني أيضاً أمور أخرى، كالعلاقة بالغرب والعلاقة بالتراث وبالهُوية الشرقية.

ما الذي جعلك تختارين عنوان "افرح يا قلبي" لروايتك، كأنّك أردت من أغنية أمّ كلثوم ربط الرواية ليس فقط بالساحة الأدبية المحلية إنما بالساحة العربية أيضاً؟

هي المرة الأولى في الحقيقة التي وجدت فيها نفسي أختار العنوان منذ أن بدأت كتابة الرواية. اخترت هذا العنوان لأنها الأغنية الوحيدة من أغاني أم كلثوم التي تعبّر عن الفرح، مقارنة بالأغاني المرتبطة بالعذاب وبالدموع، وغسان (بطل الرواية) يجد نفسه يغنيها عندما وقع في حبّ نور (حبه الأول)، وعندما أحبّ كريستن في أميركا. ثم إنّ في العنوان نوعاً من المفارقة في ما هو مغاير تماماً لما نقرأه من تراجيديا في الرواية، وهو أيضاً تمنٍّ للفرح.

وأنا عندما أتحدث عن شخصيات من المجتمع اللبناني، هذا لا يعني أنها لا تعني القارىء العربي، أو أنّ القارىء العربي لا يجد نفسه في الرواية، فعندما أقرأ أي رواية لأي كاتب عربي، ومهما كانت محلية، فإنّها في معالجتها للمنحى الإنساني تطال القارىء العربي عموماً، حتى عندما تقرأين لكاتب أجنبي ويكون الأدب إنسانياً تشعرين بأنه يعبّر عنك. إضافة إلى أنّ في الشخصية الشرقية لبطل الرواية المتيم بالموسيقى الغربية صفات عربية كثيرة، مع الإشارة إلى أنّ الموسيقى عنصر أساسي كما لو أنها أحد الأبطال الأساسيين.

تطرحين في الرواية نماذج علائقية متعددة بين الأم والأب، أو بين الأخوة الـ6 على سبيل المثال، وكأنك تعالجين إشكالية العلاقة ما بين الشرق والغرب أيضاً، فما هو المعنى الحقيقي خلف هذه النماذج؟ 

"الهوية قيد وخلاص"، على حدّ ما تعبير غسان بطل الرواية. أود الإشارة إلى أن الزمن في الرواية متحرك ما بين الماضي والحاضر، فغسان تحدث عن الاختلاف في العيش ما بين العلاقات والأمكنة. في نيويورك، هناك إشارات لوحشة البشر وتشرذم العلاقات، إضافة إلى دلالات للعنف في المدينة الأميركية. في المقابل يتحدث بطل الرواية عن العلاقات بين البشر في دار العزّ (مسقط رأسه)، حيث كانت تسود الألفة بين الناس، حتى في صلاة الاستقصاء التي توحدهم. وفي الختام لم أرَ حلاً لمأزق غسان سوى على الصورة التي حملتها نهاية الرواية، إن على صعيد الحلّ الشخصي أم علاقة هُويته الشرقية أو الغربية. بذلك جعلتُ القارىء شريكاً في الكتابة كما في كلّ رواياتي.

وكما أنّ هناك إشكالية في العلاقة ما بين الشرق والغرب، هناك إشكالية داخل العلاقة العائلية، فهناك مجموعة من العلاقات في الرواية، أردت من خلالها أن أقول إنّ صراع الأخوة مثلاً أشبه بانعكاس لصراع أطراف المجتمع اللبناني. أمّا الشيء الأساسي الذي أردت الإضاءة عليه، فهو صورة الأمّ (علاقة الأب والأمّ، وعلاقة الأبناء بالأمّ) التي هي في الرواية ضعيفة، خاضعة و"ضعفها إثم" ومُعنفة من زوجها. لقد حاولت أن أقوم بعملية حفر وتبئير داخل شخصية الأمّ، كما داخل كلّ الشخصيات، جاعلة الأم تنطق، وإلا بقيت صورة الأمومة هائمة وغير ناطقة. لم أكتفِ بالإشارة إلى ضعفها، بل دخلت في أعماق شعورها، وكيفية قتل الأمومة لأنوثتها.

في كلّ رواياتي حاولت أن أعطي نماذج مختلفة من الأمهات، وكسرت الصورة النمطية للأمومة، والحقيقة أنا لم أكسر صورة الأمومة فقط، إنما كسرتُ الصوت الذكوري السائد في الأدب العربي الحديث في كتابات الرجل عن المرأة. وقد أشار الكثير من النقاد في العالم العربي والغربي إلى هذه النقطة. لقد نطّقتُ المرأة بما لا تنطق به سابقاً للكشف عن المستور والمخفي في الأدب، وبما لا تنطق به أيّ روايات أخرى. أعليتُ الصوت النسائي في رواياتي من دون أن أستعير ما هو مكرس، فقمت بعملية خلخلة لما هو سائد داخل النص الروائي. أشعر وأنا أكتب بأنني أحفر في الأمكنة التي كلّسها الأدب في الأعماق. وربما لهذا السبب أطلق عليّ النقاد لقب "كاتبة المرأة العربية في الأدب العربي". كل ذلك من دون إعلاء أي خطاب أو فكرة مباشرة، أنا فقط أسرد الحكايات، وبعد ذلك يأتي الحكم على ما أكتب. 

وفي كل ما أكتب حول الواقع، لا ينقذني سوى الخيال من أيّ مأزق فنّي، لأنّ هاجسي دائماً هو الفنيّة والإنسانية في الأدب.

قبل روايتك "أن تعشق الحياة" (الصادرة عن دار الآداب 2020)، انقطعت لمدة 10 سنوات عن الكتابة، فما السبب؟

لقد مررتُ وما زلت بمرض عصبي نادر ومؤلم، جعلني أكتبُ بصعوبة وبطء. لكنّ إرادتي القوية، وعلاقتي بالكتابة التي لا معنى لحياتي من دونها، جعلتني أستمر في الكتابة. في روايتي "أن تعشق الحياة" لم أكتب من حياتي الشخصية سوى حالتي الصحيّة، وكل ما عدا ذلك هو متخيّل. 

هل الالتباس في الهُويات والضياع في الانتماء، يولد الإبداع في الموسيقى أو الرسم أو أي مجال آخر؟ 

ليس بالضرورة على الإطلاق. الضياع في الهوية ربما يقتل الإبداع، ولكنّ قلق الشخصية الرئيسية في الرواية نتج عنه قلق لازمها طوال حياتها، وفشلها في إنتاج سيمفونية خاصة بها على الرغم من مهارتها بالموسيقى. فالعود رمز للهوية الشرقية. هذه الشخصية اختزنت في وجدانها كل الموسيقى الشرقية، وعندما تعلمت في ألمانيا أيضاً كان مولعة بالموسيقى الغربية. لكنّ هذه الشخصية مرّت بتحولات كثيرة عبر الآلآت الموسيقية، فالموسيقى هنا لها محمول ما، وتحتوي على رموز كثيرة.

 في روايتيك "أن تعشق الحياة" و"افرح يا قلبي"، هناك جمل تحمل الكثير من الرموز أو الحكمة، على سبيل المثال: "لكل شيء بداية ونهاية وما بينهما هو السرّ"، و"هل قيّد للبعض أن يمنع الفرح عن الآخر بواسطة سلطتهم؟" فما السبب في ذلك؟

إنه النضج الفنّي والإنساني. ليس من كاتب كبير في العالم تخلو كتاباته من جمل لا تموت مع الأيام. لم أفتعل يوماً في أيّ جملة، إنّها رؤية هنا أو فلسفة هناك، أو حكمة أو شعر أو مقولة، سمّي ما شئتِ، لكنّي لم أجعل كل ذلك يحمل قولي، وإنما قول الشخصية بحسب تجربتها وثقافتها ورؤيتها في الحياة. لم أكن في أيّ رواية الكاتبة العليمة التي تصادر قول الشخصيات، وبالتالي لم أكن ديكتاتورية يوما في العلاقة مع شخصياتي، إنما جعلتُ أصواتهم تُخفض صوتي وتضعه جانباً. ذلك من مقومات ودعائم رواياتي، وجعل الشخصيات قريبة من الحياة، لذلك فإنّ شخصياتي حيّة وحقيقية. وقد يجد القارىء حياته أو جزءاً من حياته في هذه الشخصية أو تلك.

علوية صبح الروائية والصحافية، وبعد مسيرة مشرقة في الكتابة، هل تستطيع البوح لنفسها بأنها استطاعت إيصال ما لديها للقارىء؟

ما دمتُ أكتب فأنا أريد أن أحكي ما استطعت وأنا أحيا. لن تنتهي الكتابة عندي إلا برحيلي عن القلم الذي هو الرحيل الحقيقي. 

ما سرّ صعود الرواية مؤخراً في عالمنا العربي؟ وما رأيك بالجوائز العربية منها أو العالمية، وأنت قد سبق ونلت عدة جوائز؟

تتنامى الرواية في لحظات التحولات الكبيرة في المجتمع، ويشعر الكثير من الكتّاب بالحاجة إلى التعبير عن هذه التحولات أو تطور ثقافة المجتمع أو تقهقره. لا شك بأنّ هناك أصوات جديدة أو مكرسة أو لديها أعمال جيدة بحسب متابعتي. وهناك الكثير ممن يعتادون على فنّ الرواية لأنه، كما يقول عنها المفكر والناقد جابر عصفور، "زمن الرواية". 

أمّا في ما يخص الجوائز العربية أو العالمية، فليس من الضرورة أن تكون الأعمال الجيدة هي التي تنال الجوائز، ففي عالمنا العربي هناك الكثير من الكتّاب الجيدين الذين لم ينالوا أية جائزة. فالجوائز لها الدور في تحفيز القارئ على القراءة، وهذا شيء جيد. بالنسبة لي، أجد أن الكتاب الذي يستحق هو الفائز بالجائزة بغض النظر عن البلد. المسؤولية تقع على لجان التحكيم، ولا يمكن لأي لجنة إلا أن يكون لها ذائقة معينة، وهذه الذائقة تؤثر على النتائج. من ناحية أخرى، لقد أخذت الجوائز دور النقد والنقاد، وكأنها أصبحت المرجعية النقدية للقارىء.

هل الكتابة تنقذ علوية صبح من الكآبة؟

الكتابة بالنسبة لي ليست علاجاً، إنما هي مواجهة مع المرض، مع الموت، مع الكآبة، ومع كل الأحاسيس السلبية. إذاً هي مواجهة وتحدّ. وإن لم أُصَب بالكآبة في حياتي أبداً، إنما هناك نوع يُسمى بـ"الكآبة اللّبنانية" التي لا علاج لها بالكتابة أو بأيّ شيء آخر، بل غير موجود لها علاج في القواميس الطبية العالمية. ولم تُعرف إلا باسم "الكآبة اللّبنانية".