على قوائم "اليونيسكو".. هل تصمد مهنة نفخ الزجاج السوري؟

أدرجته "اليونيسكو" على قائمة التراث الثقافي اللامادي الذي يحتاج إلى صون عاجل.. هل تصمد مهنة نفخ الزجاج اليدوي في سوريا؟

كلّ من شاهد كيف تتحوّل عجينة ملتهبة مثبَّتة على أنبوب، ويقوم الحِرَفي بالنفخ فيه ليُنتج مزهرية شفّافة أو ثُريّا برّاقة أو كأساً لامعة، سترافقه الدهشة طويلاً، ولعل ذلك سيدفعه لتكرار الزيارة سواء للمشاغل في خان الزجاج بمنطقة باب شرقي الدمشقية، أو للفرن الخاص في سوق المهن اليدوية ضمن التكية السليمانية.

هذه المهنة التي تعود أصولها إلى الفينيقيين في القرن التاسع قبل الميلاد الذين اكتشفوا أثناء طهو طعامهم على شاطئ رملي ضمن قدر مُدعَّم بمادة النطرون (كربونات الصوديوم)، أن مادة غريبة تقطر من أسفل القدر فأدركوا أن الزجاج قابل للتمدّد، حينها بدأت فكرة صناعة الزجاج في سوريا، وقام الفينيقيون خلال قرون بتطويرها عبر العديد من الأساليب، وأبرزها عملية النفخ التي تعود بحسب كتاب "مآثر شامية في الفنون والصناعات الدمشقية" لمنير كيال إلى القرن الأول للميلاد، وهو ما جعل الحرفيين السوريين الأبرز في هذه الصناعة التي ما لبثت أن انتقلت أيام الإمبراطورية الرومانية إلى إيطاليا فعموم أوروبا.

لكن واقع الحرب في سوريا أثَّر كثيراً على هذه المهنة. إذ لم يبقَ من العاملين فيها بحسب الحرفي نبيل القزاز، الذي توارث عمله في معمل الزجاج التقليدي في التكية أباً عن جد، سوى 5 أشخاص، مبيناً أن الحِرَفي الحقيقي حتى يتقنها يحتاج إلى 20 عاماً كاملة، لما فيها من صعوبة، وما تحتاجه من صبر وإتقان. إضافة لذلك فإن مهنة نفخ الزجاج تعاني من ضعف التسويق، وضرورة توفير المازوت باستمرار، فمن دون ذلك يتهالك فرن الزجاج، ويصبح مهدّداً بالانهيار.

هذا ما دفع "الأمانة السورية للتنمية" للعمل بسرعة تفادياً لانقراض هذه المهنة التراثية التي تعتبر من المعارف والمهارات المرتبطة بفنون الحرف التقليدية، نظراً لما يحتاجه تصنيع الزجاج بطريقة النفخ اليدوي من خبرات متراكمة، وبعد تجهيزها ملف العنصر أدرجت منظمة "اليونيسكو" عنصر نفخ الزجاج يدوياً على قائمة التراث الثقافي اللامادي الذي يحتاج إلى صون عاجل.

حول هذا الإنجاز، التقت "الميادين الثقافية" ريم إبراهيم، المسؤولة عن ملف عنصر نفخ الزجاج ضمن "الأمانة السورية للتنمية"، وكان معها هذا الحوار.

*** 

هل نستطيع القول إنكم في الأمانة تأخّرتم في العمل حول هذا العنصر؟

بطبيعة عملنا كأمانة هناك ركيزة أساسية تتعلّق بصون الهوية الثقافية السورية، وتتطلّب مجموعة إجراءات مع الشركاء كجهات حكومية وغير حكومية، وهي تنقسم إلى تحديث عناصر، وتحديد قائمة وطنية لها وتوثيقها، إضافة إلى متابعة خطة الصون للعناصر المدرجة على قائمة منظمة "اليونيسكو"، علماً أن الزجاج المنفوخ هو سادس عنصر من التراث السوري اللامادي المدرج على قوائم التراث الإنساني بعد الصقّارة، والقنص، ومسرح خيال الظل، والوردة الشامية، والقدود الحلبية، وصناعة الأعواد والعزف عليها.

حالة المتابعة الدائمة والتعاون مع الشركاء، يجعلنا دائماً ضمن حالة استقصائية للتراث السوري المنتشر والغني والمتنوّع، لكن الحرب الطويلة التي عاشتها سوريا، إضافة إلى العقوبات، شكّلت معوّقات للمهن التراثية بشكل عام، وبالنسبة لقصة نفخ الزجاج، نشرت السنة الماضية مجموعة من المقالات بأن هذا الفن مهدّد بالانقراض ولم يعد لدينا ممارسون.

انتبهنا حينها إلى هذا الموضوع، وذهبنا إلى خان الزجاج والتقينا بالأخوين حلاق آخر حرفيّين لمهنة الزجاج، وتعرّفنا من خلالهما إلى واقع هذه المهنة وتحدياتها والصعوبات التي تواجهها، وكان منها عدم توافر الوقود الحيوي "المازوت" لتشغيل الأفران، إضافة إلى وجود صعوبة هائلة تتعلق بالفرن الذي رغم قوته الهائلة ومتانته، إلا أنه حساس جداً، بمجرد انطفائه يصبح بحاجة إلى هدم وإعادة بناء وهذا مكلف جداً، خاصة أن الحجر الحراري من الصعب استيراده.

جملة هذه الصعوبات إضافة إلى أن المجتمع لا يتوجّه كثيراً إلى اقتناء المنتجات الزجاجية التقليدية، لأن أولوياته هي لقمة العيش، وليس هناك ترويج جيد للمنتجات. هذه التحديات وضعناها بعين الاعتبار وقلنا إننا حتى نقوم بصون هذا العنصر، ينبغي أن نعد ملفاً اعتماداً على ما حصلنا عليه من معلومات من قبل الحرفيين، وتمت إعادة صياغتها وفق معايير "اليونيسكو". تم العمل بشكل سريع جداً، من ناحية الملف التقني والملف التوثيقي التصويري وموافقات المجتمع المحلي والجمعيات الحرفية... كل ذلك تم إنجازه خلال 3 أشهر، وتم تحقيق صون عاجل بكل ما يتضمّنه من معايير دقيقة، قادرة على إقناع المنظمة والدول الأعضاء فيها بالحاجة إلى ذاك الصون العاجل، وما هي الإجراءات والتدابير والمعيقات للمحافظة على العنصر.

هكذا تم إرسال الملف في آذار/مارس 2022، وفي نهاية العام 2023 تم تقييم الملف وكان منصفاً لسوريا، إذ عبّرت "اليونيسكو" أن الحرب تؤثّر على المجتمعات التي تعيش من خلال ممارساتها الاجتماعية، وكيف أن هذا العنصر يواجه تحديات كونه قطاعاً ثقافياً تعتاش منه مجموعة بشرية.
 

ما هي المخططات التي ستقوم بها الأمانة السورية للتنمية بعدما تم إدراج العنصر على قائمة الصون العاجل؟

كأيّ عنصر يدرج بمنظمة "اليونيسكو"، سواء على قائمة الصون العاجل أو على القائمة التمثيلية، يحتاج إلى خطة صون يتم طرح خطوطها العريضة ضمن الملف الذي يرسل للمنظمة، وذلك اعتماداً على المجتمع المحلي، فمنه نأخذ المعلومات ومنه نتعرّف إلى العنصر وكيف نبقى ضمن الحالة الثقافية والتراثية، وفي الوقت ذاته نحافظ على استمرارية العنصر.

الخطة حالياً لنفخ الزجاج التقليدي، هي إقامة دورات تدريبية لمجموعة من الشباب سواء بعمليات النفخ أو الرسم أو إعطاء التصاميم، خاصة أن هذا العنصر يحمل مجموعة قيم إبداعية. وستكون هناك منتجات زجاجية جديدة تواكب العصر، صحيح هناك الإبريق والكاسة وغيرها، لكن تفكيرنا سيتجاوز ذلك إلى ما هو مرغوب أكثر من قبل المجتمع لتتم تلبيته من هذه الصناعة، إضافة إلى الترويج للعنصر بطريقة فعّالة أكثر، والتنويه إلى كيفية استدامة هذا العنصر، بمعنى تحويل هذا الفرن الذي يستهلك كميات كبيرة من الوقود إلى حالة مستدامة، بحيث لا يضطر الحرفي إلى هدمه مرة أخرى، لذا نحاول مع مجموعة من المهندسين والجهات المعنية كوزارة الصناعة إيجاد حل بديل لفرن صهر مستدام، قد يعتمد على طاقة شمسية أو وقود من نوع آخر أو كهرباء... خاصة أنه بحاجة لمجموعة من المعايير لها علاقة بدرجة حرارة معينة، وغرفة خاصة، والمسافة بين الحرفي والفرن، وغير ذلك، وطبعاً سيكون ذلك بمثابة حل لأول مشكلة تواجه هذه الصناعة التراثية.

والأهم من ذلك هناك سعي لإعادة تفعيل الحوار الذي خلقه هذا العنصر سابقاً. فعندما كانت هناك طريق الحرير وخطوط التجارة العالمية، استطاع الحرفيون السوريون أن ينقلوا مهاراتهم في نفخ الزجاج إلى الحرفيين في إيطاليا وفرنسا.. ونحن نعرف أثر الفينيقيين في هذه الصناعة، وأن أول من نفخ الزجاج هم الدمشقيون، وبعدها أخذت المهنة بالتطور، بمعنى أن للدمشقيين بصمة بهذا الحوار الثقافي. وبعد الحرب الطويلة والحصار على سوريا، نجد أن التراث يكون هو دائماً المحرّك للحوار، كما حصل مع الوردة الشامية التي انتقلت إلى متاحف تورينو واستطاعت أن تعيد الحوار الثقافي بين إيطاليا وسوريا، والزجاج له القدرة والقابلية، وبجهود الجميع نسعى للوصول إلى ذلك.
 

سابقاً في سوق المهن اليدوية كان هناك معمل لصهر الزجاج غير ذلك الموجود في خان الزجاج، فضلاً عن الأفران في المدن الأخرى غير دمشق كحلب وإدلب وحماه، هل هناك فكرة لإعادة تفعيلها؟

نفخ الزجاج كان عنصراً أساسياً ضمن المدن القديمة في حلب ودمشق وحماه وإدلب، ومن العائلات التي تنحصر ممارسة العنصر فيها الأخوان أحمد ومحمد الحلاق في دمشق، وعائلة القرقناوي في حلب ومنهم عبد المجيد، وعائلة القزاز الدمشقية التي تحمل ذاكرة الحرفة حتى بعد وفاة آخر شيوخ الكار عام 2020 وهو حسن القزاز، وخلال ثلاثة أشهر من البحث استطعنا الوصول إلى القائمين على تلك المهنة ومنهم أحد الحرفيين الذين تهجّروا من إدلب واسمه حسن دسوقي، وحصلنا منه على معلومات مهمة، وكان سعيداً وأبدى استعداده لتعليم أجيال جديدة كيفية تحضير الزجاج الأرمنازي بخصائصه المميّزة.

تسعى الأمانة لإعادة العنصر إلى المدن القديمة وتعتبر ذلك شيئاً مهماً جداً، لأنه يعمل على ربط التراث المادي باللا مادي، ويكفي أن هذه المهنة تستخدم منتجاً يحافظ على البيئة، إذ يقوم الحرفيون بإذابة الزجاج المكسور بعد غسله ومن ثم إعادة تصنيعه، هذا التدوير له دور كبير بالتنمية المستدامة، إذ يحافظ على البيئة ولا يهدر الموارد، وإن عملية إطلاق فرن جديد بمعايير جديدة تحاكي الأهداف التنموية التي تعمل عليه الأمانة، سيشكّل ذلك حدثاً هاماً في عالم حرفة الزجاج.