"عن بلد" لهانا دوبغن:  كيف يصبح العنف نظاماً؟

تبدأ الحكاية في برلين صيف عام 2013، عندما يقع حادث دراجة يجمع الطالبة العراقية آمال، مع كلارا الطبيبة الألمانية الملتزمة بقضاياها الشخصية إلى أبعد الحدود.

  • رواية
    رواية "عن بلد" للكاتبة هانا دوبغن.

ينشغل الأدب في تعريف الأوطان ويوظفُ أدواته لسبر قضايا تتعلق بالانتماء والهوية وتحديد موقف الأفراد منها. فما الذي يعينهِ أن تكون غريباً؟ وما هي حال أولئكَ الذين تطردهم أوطانهم ويجدون أنفسهم عالقين على حدود بلدان بعيدة. كيف يتلقون قوانينها الصارمة وكيف تجمع في ضواحيها وملاجئها ثقافات متعددة؟ من تلك الأسئلة تنطلق الكاتبة الألمانية هانا دوبغن (1977) في روايتها "عن بلد" والتي نقلتها إلى العربية الدكتورة نجاة عيسى حسن (دار الرافدين2022). وفيها نعاين أبطالاً يبحثون عن حيواتهم داخل أنفسهم قبل البحث عنها في دول أجنبية، ومعهم  نلتمس غواية الحرية، وحكاية لجوءٍ قيدت مصائرهم وخلقت صراعاً حيال النأي بعيداً عن مأساتهم بفقدِ الحرية، وسلبِ ذويهم أبسط حقوق العيش والكرامة.

تبدأ الحكاية في برلين صيف عام 2013، عندما يقع حادث دراجة يجمع الطالبة العراقية آمال، مع كلارا الطبيبة الألمانية الملتزمة بقضاياها الشخصية إلى أبعد الحدود. تصبح المرأتان صديقتين لكن ببطء وحذر، وذاك ما ينتصر للرواية بصورة غريبة، ذلك أن الكاتبة لم تعمد في عرض قصتها إلى العنف الذي نتوقعه، أو الزخرفة التي ترافق قصص الهجرة وتلك المشاهد التي تكرر نفسها وكأنها لقطات من أفلام للإثارة. بل على النقيض من ذلك، تتناول قصة الرحيل وتجاوزِ الحدود إلى جانب ما يقاسيه الهاربون ببطءٍ وهدوءٍ لم نعهدهما في قصص من نوعها. إذ إنها وفي أثناء استعراضها لقضية العنف السياسي تبتعد عما ألفناهُ من كتابات الهجرة والحروب، وتفضل اختيار دراما الأصوات الداخلية للشخصيات. وتناقش حكايات فردية كفلت نقلها إلينا بصورة أقرب إلى الواقعية. فكلارا الطبيبة وإلى جانب مصادفة لقائها بآمال، تقع في حب مهندس معماري بنغالي عانى من جهته الحرب واللجوء، وهنا ندركُ أن ما لدى كلارا مختلف عن غيرها من سكان برلين، فسفرها وشغفها بمساندة الآخرين دفعاها لتتمرس في مهنة الطب، والوقوع في حب "تارون" ابن صانع أحذية فقير من كالكوتا، ومهندس طموح في ألمانيا. "ثم إنها لا تنظر إلى تارون باستعلاء ولا تشفق عليه، بل على العكس من ذلك، إن ما بينهما هو التماثل عينه.. إنهما متساويان على الرغم من كل الاختلافات الأخرى". 

لا تدرك كلٌّ من آمال وكلارا تغيّر حياتيهما بشكل حاسم بعد حادثة الدراجة، بما يحيل المروية إلى قصص تغيير المصير، حيث كل شيء يبدأ بمصادفة صغيرة وينتهي بقصة كبيرة. وهنا ترصد دوبغن حياة الشباب في البلدان الغريبة، وتنساب أسئلة أكثر وجودية وتداخلاً، إذ يجري بعد الحادث وهروب آمال المفاجئ من أمام كلارا، كشفٌ مباشر لقصصٍ خفيةٍ، فهروبها المذعور يدفع بكلارا للبحث عن الضحية. ولتقنع نفسها بنزاهتها، تقودها تنبؤاتها حيالها للحاق بالشابة التي تسكن مع مهاجرين آخرين في ضواحي العاصمة الألمانية. 

تؤسس القصة للقاءٍ سرعان ما يتحول إلى صداقة، ومنه نكتشف هروب آمال المبكر من بغداد، ونتعرف إلى علاقة كلارا بتارون الذي يطمح لإشادة مشروع بناء ضخم في مسقط رأسه. تبدو الشخصيات للوهلة الأولى مستكينة ومهادنة وذاك ما يفرزهُ الاغتراب بعيداً عن مشاهد الجري بين البلدان أو الهروب من الكلاب البوليسية. 

هكذا بهدوء درامي يعكس مصير من يسير بعكس التيار في مكان يكتم الأصوات ويقسو على من يبحث عن أحلامه فيه.

تعاني آمال من كونها غريبة ويزيد من قسوة الأمر انتظارها الممض لقرار اللجوء. نتعرف لاحقاً إلى قصة عائلتها، وهي ككثير من الأسر العراقية نالت من قسوة النظام وظلمه ما نالت. فوالدها الطبيب حسن اختفى في ظروف غامضة، وقول الحقيقة في إحدى المحاضرات العامة دفع بوالدتها راوية، عالمة الآثار، إلى الوقوع فريسة التنكيل والملاحقة. "إن اختفاء حسن زاد من الخطر على راوية وآمال...". 

يصبح الانتظار مصيراً لجميع أفراد العائلة حتى الجدة عشتار والتي تلمح الكاتبة فيما يشبه التورية لتجسيدها العراق ذاته، ولاسيما عندما تزور آمال وكلارا متاحف برلين التي تحتفي بآثار العراق المنهوبة وأكبرها بوابة عشتار المعروفة. تنتظر العائلة عودة حسن، وتزداد الملاحقة والتضييق على راوية التي تدفع بابنتها آمال إلى الهروب من البلاد. تبقى في النهاية وحيدة بانتظار رجل غائبٍ وجَدّةٍ مثلت برحيلها مأساة المرء في الهجرة عن بلاده. 

تتوثق الصداقة بين كلارا وآمال، وتطلع كلارا على مأساتها في رحيل جدتها، في وقت تعلم برغبة تارون للعودة إلى بلاده وتسخير علمه لها وتشييد حلمه مع أسرته وأصدقائه. تقرر كلارا كفتاةٍ تحيا شغفاً طفولياً في مساعدة الآخرين الرحيلَ. وتغادر إلى العراق لتفي بوعد آمال بزرع زهور البنفسج على قبر الجدة، يساعدها في ذلك جواز سفرها الألماني، بينما يحظر انتظار قرارُ اللجوءِ على آمال السفرَ. تزور كلارا العراق، وتكتشف مقتل راوية بطريقة قاسية، ليمسي موتها بمثابة نهاية تراجيدية تحيل إلى مأساة الحرية في تلك البلاد. فزهور البنفسج هي الحرية التي حلمت راوية بتقديمها لإبنتها، وموت راوية، كعالمة آثار ومثقفة من طبقة وسطى، هو وأدٌ لقضية نزفت في سبيلها البلاد من غير أن تثمر. لتكون قصةُ "عن بلد" قصةَ المثقفين من أبناء الطبقات المتوسطة، وحكاية أولئك الذين يفقدون امتيازاتهم وحرياتهم في سبيل دفاعهم المرير عن الحياة. " أن تعيشي الحرية، لا أن تعيشي حياة حرة فقط. وإنما تعيشي الحرية ذاتها، أتفهمين ذلك؟ الحرية فكرة، موقف، بل أكثر من ذلك، إنها شيء ثمين وربما أثمن ما لدينا. آمال. أود أن تستوعبي الخير هذا، وألا تنسي التالي: ليس ما نفعله نحن يجعلنا أحراراً فحسب، بل أيضاً الكيفية التي نفعله بها. هل تفهمينني؟ افعلي ما عليكِ القيام به لدرجة أن تظلي صادقة مع نفسك وقيمك".

هانا دوبغن: كاتبة ألمانية (1977). درست الفلسفة والأدب وعلم الموسيقى في أكسفورد وباريس وبرلين. عملت في الدراما والمسرح الموسيقي وكتبت نصوصاً ناجحة في الأوبرا. نشرت روايتها الأولى "ستروم" التي نالت جوائز من عاصمة الولاية دوسلدورف ومهرجان شامبيري للأدب عام 2013.