عن دُور "النشل" العربية، والمؤلف الطارئ، والبضاعة البلاستيكية!

أما كافكا فكانت حصته من الرفض تتلخّص بنصيحة صغيرة تتعلق بتغيير عنوان روايته "المسخ" كي لا يغضب الرفاق في موقع "أمازون"، باقتراح عنوان آخر هو "كيف تحوّلت الحشرة الفظيعة غريغور سامسا إلى فراشة جميلة". 

  • بورتريه للناشر إدوارد كوسماك عام 1910 (إيغون شيله)
    بورتريه للناشر إدوارد كوسماك عام 1910 (إيغون شيله)

"هناك ناشر، وهناك ناشل!"، عبارة تختزل المسافة الشاسعة بين من يعمل على تصدير المعرفة والتنوير، بوصفه مؤسسة ثقافية رصينة، وبين اللصّ الذي يعمل في العتمة، ذلك الذي ينشل محفظة نقودك بخفَّة يدٍ ورشاقة، أو بحسب المعجم "نشَلَ اللحمَ من القِدْر، ونشَلَ الخاتَمَ من يده". 

جولة عشوائية على مواقع بعض دور النشر الطارئة التي نبتت كالفطر السّام، في العقد الأخير من الألفية الثالثة، ستحيلنا إلى "لوغو" مجهول، يكاد ينافس دور النشر المعروفة، نظراً لاتساع خريطة النشر في الشوارع الخلفية لصناعة الكتاب. ذلك أن هؤلاء أشبه بباعة الأرصفة في تصدير البضاعة البلاستيكية، تحت بند "الغرض بعشرة"، سواء كان ملقط غسيل أو شفرة حلاقة أو نكاشات أسنان، وعلى المقلب الآخر سنجد مئات الموهومين/الضحايا، الذين تجذبهم أهواء الشهرة بتوقيع أسمائهم على الأغلفة البرّاقة، مثلما يفعل مغنّو حفلات الأعراس على أمل إصدار ألبوم غنائي.

فهؤلاء خارج سور المشهد الثقافي تماماً، يخلطون البرسيم بالأعشاب الضارة لجهة الأخطاء اللغوية ومعنى التخييل، وهندسة النصّ، كمحصّلة للحظة فوضى عمومية. أتوا الكتابة مباشرة، من دون أن يعبروا برزخ القراءة، مكتفين بالإنشاء المدرسي واللاخبرة، وفخاخ الورش الأدبية المرتجلة، أو "الدروس الخصوصية للكتابة" للحصول على علامات إضافية تخوّلهم العبور إلى مرتبة أعلى، لكنّ دُور "النشل" المنتشرة في الأزقة والحواري الضيّقة، ستلتقط هذه الفرائس بمخالب الإعلانات البرّاقة على مواقع السوشيل ميديا، تحت بند "حقّق حلمك": "لو حابب تنشر كتابك مهما كان نوعه رواية، ديوان، مجموعة قصصية أو حتى كتاب مُجمع كل دا هنوفره ليك وبأقل الأسعار الموجودة، لأن كل اللي يهمنا إن عملك يظهر للنور وإنك توصل لحلمك وللعلم باقات النشر بتبدأ من 800 جنيه، كما أن للكاتب نسبة أرباح 50% من المبيعات". 

إعلان من هذه العيّنة لا يختلف في جوهره عن إعلانات مواد التنظيف والبطاطا المجففة والمشروبات الغازية، وباقات شركات الاتصالات. المثير أن المؤلف المزعوم سيحصل على 50%  من أرباح المبيعات، وهو رقم لا يتاح ربعه لمؤلف معروف، لتأكّد أصحاب مثل هذا الإعلان أن الكتاب سيبقى حبيس المستودعات الرطبة. 

هكذا يُروّج لمؤلفات لا علاقة لها بأسئلة الكتابة، إنما مجرد أمراض شخصية لا يمكن علاجها إلا بالكيّ. إذ يجهل هؤلاء المؤلفون مطابخ التأليف، عدا وضع طنجرة البخار على النار للحصول على طبخة حصى بعناوين بلا طعم أو نكهة، فالمهم أن تمتلك في سجلك كتاباً يحمل اسمك، إلا أن سفينة النشر لن تبحر إلى الأمام دائماً، فهناك عقبات في الطريق. 

يعترف أحدهم قائلاً: "راسلت أكثر من 20 داراً، وجميعها رفضت نشر روايتي، إلى أن وصلت الى دار نشر لبنانية عرضت عليّ مبلغاً من المال مقابل بيع الرواية لكاتب آخر، بحجة أن اسمي غير معروف على الرغم من اقتناعهم بالرواية". 

بصرف النظر عن صحة هذه الواقعة، إلا أن الوسط الأدبي لا يخلو من إشاعات عن كاتبات شهيرات وضعن أسماءهن على كتب لا تخصّهنّ، على غرار ما يحدث في الأوساط الأكاديمية لجهة شراء رسائل ماجستير ودكتوراه جاهزة من باحثين مجهولين لقاء مبالغ مالية متفاوتة. 

أمام هذا السيل الجارف من المؤلفات الهزيلة، سيشكو أحد القرّاء في دار نشر مجهولة من الحال الذي وصلت إليه الكتابة الأدبية: "نحن نقدّرُ للجميع حرصَه على الكتابة والتّأليف، لكن لاحظتُ في الفترة الأخيرة أن المجال قد دخله كثيرٌ من الذين لا يحسنونه، ولا يكادون يؤلفون جملة تستوقفك كتلك التي نقرؤها في كتب الرافعي والمنفلوطي وطه حسين. ومؤخراً عرضت عليّ رواية كي أقرأها لأرى هل تستحق النشر أم لا؟ لكنني دُهشت من أن عنوان الرواية نفسها كان فيه خطأ نحوي فاحش. أما المضمون فحدّث ولا حرج"، ويضيف مفسّراً سبب هذا الانحدار إلى قلة القراءة "إذا تكوّنت في رأس أحدهم فتات فكرة، هرع إلى الكتابة بلا أي أداة من أدوات الروائي، لذلك لا تلوموننا حينما نرفض أعمالاً، ولا تطالبوا بنشرها مجاناً، لأنك من دون مجاملة لست طه حسين أو المنفلوطي". 

كما تدافع مؤلفة عن نصّها المحشو بالأخطاء اللغوية ببسالة "وجود أخطاء نحوية عيب المدقّق وليس الكاتب!". هراء من هذا النوع سيجد مكاناً له في رفوف المكتبات، وبطبعات متتالية، ذلك أن بعض هذه الدور تطبع 100 نسخة لا أكثر، وتالياً فإن طبع 1000 نسخة، سيحمل دمغة الطبعة العاشرة، وهو ما لا يتحقّق لمؤلف معروف في دار نشر كبرى. 

في الخريطة ذاتها، سنتعرّف إلى الناشر الوهمي، نقصد ذلك الذي يحمل ترخيصاً لدار نشر في المهجر، ببرنامج يبدو للوهلة الأولى طليعياً وتنويرياً، ضحاياه من الشعراء في المقام الأول، نظراً لرفض معظم دور النشر للنتاج الشعري، شرط أن يدفع المؤلف ثمن الكلفة فقط، لكن ما يحدث فعلاً، هو تصميم غلاف على الفوتوشوب وإرساله إلى الشاعر/الضحية، على أن كتابه قد نُشر فعلاً، وسيُشحن في البريد قريباً، لكن النسخ لن تصل أبداً بذريعة ضياعها في البريد، وفي حال كان الشاعر شرساً في الدفاع عن حقوقه، سيلجأ الناشر النصّاب إلى طبع 10 نسخ وإرسالها إلى صاحبها خشية تهديده بفضيحة علنية! 

هوس طباعة كتاب والانضمام إلى نادي الابداع، قاد عشرات الواهمين إلى تأليف خردة ما وتصديرها إلى السوق، من دون أن يكترث بالكلفة، طالما أن بضع مئات من الدولارات ستضعه في نادي النخبة. وهنا ينبغي لنا أن ننتبه إلى الهجرة اللاشرعية لشعراء وشاعرات "الفيسبوك" إلى حقل الكتاب المطبوع بقفزة واحدة من مرحلة اليرقة إلى مرحلة الفراشة، وإذا بالخواطر البائسة تتحوّل إلى قصائد بجرعات نقدية يوقّعها نقّاد معروفون! 

أعرف مزارعاً يمتلك أرضاً بحدود 100 هكتار، تجلب له سنوياً مبلغاً كبيراً من المال، في موسم القمح، وبسبب لوثة الكتابة التي أصابته فجأة من معاشرة مثقفي المقاهي، قرّر أن يطبع كتاباً، ولأن موجة القاف قاف جيم (القصة القصيرة جداً) كانت بعزّ رواجها، جنباً إلى جنب مع موجة "الهايكو"، نصحه ناقد كبير، وهو يكوّم عظام دجاجة كاملة أمامه، أثناء وليمة عامرة بدعوة شخصية من مزارع القمح، بأن يتجه نحو الموجة الأولى، إذ لن يصعب عليه تأليف مجموعة من المفارقات الشائعة من نوع "قالت النملة للفيل باستهزاء: هل تستطيع مبارزتي؟ إلخ...". 

المزارع إياه، يحمل اليوم، بطاقة عضوية بختم "اتحاد الكتّاب العرب"، ويجادل أكبر رأس في شؤون القصة القصيرة جداً، وضرورة إطلاق مهرجان سنوي لها، على نفقته الخاصة، وبرعاية نقدية من ناقد عظام الدجاج شخصياً. 

سيتوقّف المهرجان اضطرارياً، بعد هجرة مؤسسه إلى أميركا، ولا نعلم هل حصل على منحة كتابة في بلاد وليام فوكنر وبول أوستر أم لا؟ 

على الأرجح، فإن مشكلات النشر في العالم العربي لا تتوقّف عند دكاكين النشر وحسب، وإنما تطال دور نشر معروفة، لجهة العقود مع المؤلفين، وعدم الالتزام بالبنود الواردة في هذه العقود، والتهرّب من حقوق المؤلف، خصوصاً بما يتعلّق بالنسخ الإلكترونية والكتب الصوتية، وحقوق الترجمة، وفي المقابل يعاني الناشر المستقلّ من الكلفة الباهظة لسعر الورق والأحبار والشحن، وسيف الرقابة، ومنع التداول، وقرصنة الكتب إلكترونياً وورقياً، وتراجع القراءة للكتب الجديّة لمصلحة كتب التسلية والتنمية البشرية، أو أوشو، وباولو كويلو، وسواهما. 

بالطبع، لن نتناول وضع المؤلف الذي لا يقارن بزميله في الغرب كي يعيش من إيرادات كتبه، فأقصى ما يحلم به المؤلف في العالم العربي، أن يعلمه الناشر بأن طبعة الألف نسخة قد نفدت، ولو بعد 5 سنوات، وسيشعر بغبطة كبيرة، وهو يرى قارئاً استلّ نسخة من كتابه والتقط صورة للغلاف ووضعها على مواقع التواصل. 

فاليوم تكتفي معظم دور النشر بطباعة 500 نسخة لا أكثر، ذلك أن القارئ المُتوهّم مشغول بطوابير الخبز وأسطوانات الغاز والمواد التموينية، فلا هاروكي موراكامي عربياً، كي نشهد الطوابير أمام المكتبات للحصول على نسخة من رواية جديدة له، فالروائي العربي ضيف على طرف المائدة، لحظة اقتسام الغنائم، بالكاد يجد ما يؤكل في طبقه، مكتفياً بمجد نشر كتابه، والحصول على حفنة نسخ مجانية، قبل أن يلجأ إلى شراء نسخ إضافية كهدايا لأصدقائه. 

كان الصحافي الإيطالي ريكاردو بوزي قد أنجز كتاباً ساخراً بعنوان "عزيزي الكاتب: رسائل الرفض من دور النشر للأعمال العظيمة"، يهجو فيه لجان القراءة في دور النشر العالمية الكبرى، فيما لو تقدّم بعض مشاهير الكتّاب في العالم بمخطوطات رواياتهم اليوم، وطبيعة رسائل الرفض التي سيتلقّونها وفقاً لتوجّهات الكتابة الراهنة، وذلك بتسويق نمط من الأفكار على حساب سواها. 

فالكتاب بالنسبة إلى معظم هذه الدور مجرد سلعة ينبغي إخضاعها لمتطلبات السوق بصرف النظر عن أي فكرة مبتكرة. فالمهم إدخال الكتاب إلى المطحنة، وليس مهماً نوع الخبز، طالما أن فرن التوزيع يعمل بأقصى طاقته. 

بالنسبة لميغيل سرفانتس وتحفته "دون كيخوته" سيقترح عليه الناشر ما يلي "عمل طويل جداً، لا ينتهي. هل تحدّد مجرياته أيضاً في إسبانيا؟ فليكن في الغرب الأميركي، مثلاً، حيث المغامرات، أو على الحدود، أنّى شئت، ولكن ليس في إسبانيا، طواحين هواء في إسبانيا؟ الطواحين! إذن هولندا، هولندا هي الطواحين، لو تعلّق الأمر بي شخصياً، فإنّني لن أحدد بالمطلق أحداث نص في هولندا، بلد بمنتهى الضآلة لتسويق كتاب".

وسيصاب غابرييل غارسيا ماركيز بصدمة أكبر وهو يتسلّم رسالة الرفض التي تخص عمله "مئة عام من العزلة"، حيث تقول: "غابو: لو حذفتَ كل هذه الأشياء الغرائبية، الخارقة للطبيعة، التي تصل إلى حدود الصوفية، سيكون كتابك عظيماً. مسألة صغيرة أضيفُها، أخشى ألا يبقى كِتاب بعد هذا الحذف". 

في الرسالة الموجّهة إلى مارسيل بروست حول "البحث عن الزمن المفقود"، يشكو المحرّر من الضجر الذي أصابه أثناء قراءة الكتاب الذي بدا كأنه "خليط من الأفيون وحبوب الهلوسة وتلك القذارات التي يتم التداول بها في مصاعد البنايات". ثم يحذّره بقوله: "غير أننا دار للنشر، مارسيل، ولسنا مختبراً للصيدلة". 

وستتوالى الرسائل المشابهة لكلٍ من هوميروس ومنها "أرى أنك لست من نوع الكتّاب الذين يستسلمون بسهولة. لو كنتُ أنا الذي تسلّمت رسالة رفض شبيهة بالتي قد أرسلناها إليك بخصوص "الإلياذة"، أجزم لك بأنّني لن أعود البتة لتأليف أي شيء"، إضافة إلى دانتي، وشكسبير، وتولستوي، ودوستويفسكي، وفرجينيا وولف. 

أما كافكا فكانت حصته من الرفض تتلخّص بنصيحة صغيرة تتعلّق بتغيير عنوان روايته "المسخ" كي لا يغضب الرفاق في موقع "أمازون"، باقتراح عنوان آخر هو "كيف تحوّلت الحشرة الفظيعة غريغور سامسا إلى فراشة جميلة". 

ستكتفي بعض دكاكين النشر العربية بطباعة كومة الورق كما هي، من دون اكتراث بالتدقيق اللغوي أو بعمل المحرّر الأدبي أو بدقّة الترجمة، فما يهم هنا هو حجم الربح، طالما أن هذه الدكاكين لن تتحمّل كلفة الطباعة، وتالياً، على القارئ أن يفتّش عن المعادن النفيسة وسط جبال القش.