عن ميلان كونديرا الذي خسرته نوبل

نودّع ميلان كونديرا من دون أن نعرف تفاصيل طعامه المفضّل أو حتى موعد قيلولته. لقد كان كائناً غامضاً، يعتنق الظلال رغم كل النور الذي يعتري روحه.

ولادة الربيع والحب

في غرفة داخل أحد منازل بلدة برنو، بين المرتفعات الحرجيَّة، أم متلهفة لسماع صوت مولودها وقابلة قانونيَّة تحمل صبياً من رجليه ثم تصفعه كي تسمع صرخته الأولى. ثوانٍ معدودة تنبض بعدها جدران الغرفة بصراخ المولود الذي سيزيّن حيطانها بعد سنوات بخربشاته، يدخل الأب مسرعاً ليحتضن الرضيع بين يديه وينظر إلى زوجته قائلاً: سأسمّيه ميلان.

في الأوَّل من شهر نيسان/أبريل عام 1929، مع إشراقات الفجر الأولى لربيع برنو، أطلق ميلان كونديرا أولى صرخات الانبعاث إلى الحياة، في تلك اللحظة اختار أبواه اسمه من الحب والعاطفة، "ميلان"، اسم سلافي يحتضن الحب بين حروفه.

ترعرع كونديرا مع نغمات الموسيقى، وسيمفونيَّة التراتيل التي يلحنها والده، اعتنق الموسيقى كنهج تربّى على إيقاعاته، وعزف أولى خطواته على أوتاره، في طفولته اشتعلت الحرب العالميَّة الثانية، فحاربها بالسوناتات والفن، وعلى تناغم دقات القلب والبيانو قبَّل حبيبته الأولى في مراهقته، ورفع شعار الشيوعيَّة.

في رأسه لوحات وروايات

عام 1948 أكمل ميلان دراسته، شرع في دراسة الأدب وعلم الجمال في كليَّة الآداب في جامعة تشارلز في براغ، لينتقل لاحقاً إلى دراسة علم الموسيقى والسينما ثم تخرّج عام 1952 وعمل أستاذاً محاضراً في كليَّة براغ للفنون التمثيلية. كتب خلال أعوام دراسته الشعر، والتحق بقسم التحرير في عدد من المجلات الأدبيَّة، ليصبح في ما بعد روائياً يرمّم سيكولوجية الأنا لدى أبطاله، ويعاين اضطرابات النفس البشرية ويغوص في أعماقها من دون التطرّق إلى سيرته الذاتيَّة والتحولات التي ألمَّت به خلال طفولته، أو عند طرده من الحزب الشيوعي .

أحبَّ ميلان الأدب واعتزل الحديث عن حياته الشخصيَّة، إذ يقول في مقابلة صحافيَّة لمحاوره: "عليّ أن أحذرك من مزاجي السيّئ، فأنا عاجز عن التحدّث عن نفسي وحياتي وأحوالي النفسيَّة، أنا متحفّظ الى درجة شبه مرضيَّة، ولا أستطيع القيام بشيء بخصوص ذلك، إن كان ذلك لا يشكّل مانعاً بالنسبة إليك، أودّ التحدّث عن الأدب فقط".

خريج الموسيقى والسينما يكتب الشعر ويحاور الأنا 

حين نشر أوَّل دواوينه الشعريَّة عام 1953 لم يحظَ كونديرا بالاهتمام الكافي، ولم يُعترَف به في الوسط الأدبي كاتباً مهمّاً حتى عام 1963 حين نشر مجموعته القصصيَّة الأولى "غراميات مضحكة"، التي تكلم بين سطورها عن فترة "ربيع براغ".

النجاح الباهر لتلك المجموعة القصصيَّة أصبح في ما بعد مصدر غضب للسلطات بعد انتهاء فترة "ربيع الحريات". إذ اختفت الرواية من المكتبات بعد وصول الدبّابات الروسيَّة إلى ساحة براغ الأشهر.

"ربيع براغ" و التحولات الجذريَّة في حياة كونديرا

خلال مرحلة دراسته تمَّ طرده من الحزب الشيوعي بعد تورّطه في "أنشطة مناهضة للحزب الشيوعي". حصل ذلك عام 1950.

عام 1968 وعند دخول الاتحاد السوفياتي إلى تشيكوسلوفاكيا، فقد كونديرا وظيفته، ولا سيما بعد انخراطه بالحركة التي سميت "ربيع براغ"، الأمر الذي أدَّى إلى إدراج اسمه ضمن "القائمة السوداء"، وهي حركة ضمَّت العديد من الأدباء والفنانين الذين يريدون تدمير النمطيَّة وزرع الإصلاحات بأنماطها الفكريَّة والأدبيَّة والفلسفيَّة في جماجم البشر. تهدف إلى نشر الحريات عبر الثقافة والصحافة والتواصل الفكري الفلسفي، مما ساهم في خلق أزمة وعي كان لكونديرا اسم بارز فيها، إذ إنه ابتداءً من هذه المرحلة أصبح كونديرا أحد أبرز المعارضين والمنتقدين للفكر الشيوعي إلى أن أصبح هو نفسه هدفاً للمخابرات، ما خلق تحوّلات جذريَّة في مسيرة حياته في ما بعد.

عام 1975 وعقب حملات القمع التي أعقبت "ربيع براغ"، طُرِدَ كونديرا من التشيك، فحمل أمتعته مع زوجته فيرا هربانكوفا، التي ارتبط بها عام 1963، حيث كانت تعمل مذيعة إخباريَّة تلفزيونيَّة.

انتقلا إلى فرنسا، وساهم في بقائهما هناك فقدانه جنسيَّته عام 1979، وبعد حصوله على الجنسيَّة الفرنسيَّة عام 1981 استقرّا لخمسة عقود في فرنسا.

كتب رواياته باللغة الفرنسيَّة وأولها أيقونته "كائن لا تحتمل خفته" حيث تأكدت مكانته كنجم عالمي في عالم الأدب والرواية.

في إحدى مقابلاته التلفزيونيَّة يقول كونديرا: "حين كنت صبياً صغيراً، يرتدي سروالاً قصيراً، حلمت بمرهم عجائبي يجعلني غير مرئي، ثم كبرت، وشرعت في الكتابة، وسعيت إلى النجاح. الآن، أصبحت ناجحاً وأودّ لو أحصل على ذاك المرهم الذي يجعلني غير مرئي".

الاختفاء وتعمّد العزلة

من خلال حلمه الذي رواه لاحقاً، نستطيع فهم تفاصيل حياته المليئة بالغموض، فمن المعروف عن كونديرا، استثنائيته حتى في طريقة الإهداء. لقد كان يفضّل اللوحات على المراسلات، ويحبّذ الرسم والكتابة في أي مكان، لا ينتمي إلى نمطيَّة الكواليس المعروفة عن الكتاب، إنما يغترف من ذاته ليرميها في فضاء الأمكنة الواسعة، لكن شرطه الوحيد هو أن يحمل بيده كأس الروم الأبيض أو مشروب الpleinkovac الثقيل كي يستطيع الغوص في أعماق لوحاته ورواياته بانسيابيَّة.

صاحب "التفاهة" لا يحبّذ الأضواء

عاش كونديرا ووزوجته من دون أن يسمحا بتسليط الأضواء عليهما. احتفظا بحياتهما ضمن جدران منزلهما الواقع في إحدى المدن الفرنسيَّة. حتى إنه في الحفلات التي كان مضطراً لحضورها، كان يتعمَّد البقاء بعيداً عن عدسات التصوير. صرَّحت زوجته مرَّة أنَّه يعتقد أنَّ الصورة تسرق روحه.

عاش كونديرا متخفياً، لا يظهر إلا من خلال سطور رواياته، وخلف الصفحات، متماهياً مع الظلال في "الخلود"، سريعاً رغم "البطء".

المنفى الذي أصبح وطناً ثم مدفناً

لخمسة عقود متتالية عاش كونديرا في باريس، اعتبرها وطن الحريات، كي لا يتوقف أبداً عن أن يكون حراً. كتب بلغة موليير، وحارب طويلاً كي لا يتقمَّص مصير كافكا.

تحت قبعته حمل بلاداً طردته خوفاً من تمرّده، وبعد 40 عاماً عادت إليه. تريده ابناً باراً من خلال جنسيَّة حرمته منها يوماً.

وكما في ولادته، مع إشراقات الفجر الأولى، نودّع ميلان كونديرا من دون أن نعرف تفاصيل طعامه المفضّل أو حتى موعد قيلولته. لقد كان كائناً غامضاً، يعتنق الظلال رغم كل النور الذي يعتري روحه.

إلى اللقاء ميلان كونديرا. لقد خسرتك جائزة نوبل يوماً ولعلها نادمة على ما اقترفت.