غالب هلسا.. السّاحر المطارَد ترك لنا سيرته الذاتية ومضى

ترك خلفه إرثاً أدبياً مهماً وبصمة متفرّدة.. من هو غالب هلسا الذي وُلِدَ ومات في 18 كانون الأول/ ديسمبر؟

  • غالب هلسا (رسم: ماريا نصر الله)
    غالب هلسا (رسم: ماريا نصر الله)

"السحرُ باقٍ ولكن قد مضى الساحر"، يقول الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي في قصيدته "لم يهدم الموتُ إلا هيكل الطينِ"، متحدّثاً عن "سحر الحبر والورق" من دون غيره.

كلمات يصحّ استخدامها في رثاء كل كاتب رحل عن هذه الدنيا، تاركاً خلفه إرثاً أدبياً عظيماً وبصمة متفرّدة ضمنت لكلماته الخلود. لكنّ ثمة أديباً كان في تاريخ موته نفسه مفارقة لا تخلو من السحر، فمن هو غالب هلسا الذي وُلِدَ ومات في 18 كانون الأول/ديسمبر؟

حياة تراجيديّة لروائيّ مطارَد

حين وصل سلامة هلسا من الكرك إلى قرية ماعين في مأدبا، في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، لم يكن يعلم بأن مولوده الأخير، الذي سيولد في 18 من الشهر الأخير في عام 1932، سيصبح كاتباً مرموقاً لا يمكن الحديث عن الرواية الأردنية من دون الوقوف مطولاً عند تجربته، ومناضلاً شجاعاً لا يمكن الحديث عن انخراط المثقف العربي في العمل السياسي من دون المرور على تجربته، وسيزور 6 دول عربية ويحل ضيفاً في سجون معظمها، قبل أن يُتوفى في دمشق في يوم عيد ميلاده الــ 57، ويعود منها في كفن إلى مسقط رأسه مأدبا.

حياة تراجيدية لروائي منفيّ ومطارَد من عاصمة عربيَّة إلى أخرى، تحضر كلها في رواياته، من عمَّان التي غادرها باكراً، وحضرت في روايته "سلطانة"، إلى بغداد التي تناول فيها التبدّلات التي أحدثها فيها حزب البعث، في روايته "ثلاثة وجوه لبغداد"، إلى القاهرة التي سيطرت على مناخاته الروائية، بصفتها الحقبة الأبرز في حياته، والتي غادرها مطروداً بسبب مواقفه السياسية المضادة لعهد السادات. 

"بدأتُ الكتابة في سن العاشرة، كل صباح كنت أكتب أحلامي"، يقول غالب هلسا عن المرحلة التي سبقت انتقاله للدراسة إلى عمّان، حيث اطّلع على الأدب العالميّ في مكتبة المدرسة. وستشهد أعوام الدراسة هذه أولى كتاباته، وهي قصة كتبها في عمر 14 عاماً في مباراة للقصة بين الأردن وفلسطين، ونالت الجائزة الأولى، ثم سيكتب مقالين في مجلّة المدرسة وعمره 16 عاماً.

بعد ذلك، سيخرج غالب هلسا من الأردن للدراسة في لبنان، حيث تكون السنة الأولى تحضيرية بهدف الالتحاق بالجامعة الأميركية في بيروت، قسم الصحافة. وهناك ينتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني، ويعتقله الأمن في بيروت في إثر نشاط له مع الحزب، كان كناية عن تعليق منشورات على الجدران ضدّ زيارة المندوب الأميركي للبنان، ويوقّع تعهّداً بفيد بعدم مغادرة بيروت إلّا بإذن السلطات، لكنه يغادرها، ثم يعتقله الأمن في طرابلس بسبب مشاركته في تظاهرة، ليذهب شقيقه الأكبر إلى لبنان ويُخرجه من السجن ويعيده إلى الأردن.

بعد عودته يلتحق بالحزب الشيوعي الأردني، ويمارس نشاطاً سياسياً، فيُعتقل مدّة عام قبل أن يُفرَج عنه بسبب صغر سنه، ليعاود نشاطه السياسي فتُفرَض عليه الإقامة الجبرية. وحين كانت النساء يتحدّثن بهمس عن غالب "المطارَد"، كانت أمَّه تردّ: "عافية عليه مو مثل عيالكن يتخبوا بالطوابين".

بعدها يتوجّه هلسا إلى بغداد لدراسة الحقوق. وفي أثناء محاولته إنجاز أوراق إقامته بعد شهرين أو ثلاثة، تعتقله السلطات لمدّة 24 ساعة، ثمَّ تقرّر ترحيله بسبب نشاطه مع التنظيم الطلابي التابع للحزب الشيوعي العراقي، وتنقله إلى الحدود العراقيّة الأردنيّة، فيدخل الأردن من جديد، ثم يسافر منها إلى مصر، التي سيُمضي فيها نحو 21 عاماً تتغيّر فيها حياته إلى الأبد، وتكون سبباً في تعرفنا إلى غالب الروائيّ والقاص.

ينتسب عالم غالب هلسا الروائي إلى مصر أكثر من انتسابه إلى وطنه الأم. ففي القاهرة كتب مجموعته القصصية الأولى "وديع والقديسة ميلادة وآخرون"، قبل أن تشهد حياته تطورات سريعة وكثيرة في مستوى الإنتاج الأدبيّ، إذ كتب "زنوج وبدو وفلاحون"، وفصولاً من رواية "الضحك"، لكنّه لم ينشر شيئاً ممّا كتبه، والسبب كما يقول: "لا أكتب شيئاً إلّا وأعدّه فضيحة أخجل بنشرها". وحين سيقتنع بفكرة النشر لاحقاً، سيكون ذلك تحت ضغط إلحاح أصدقائه. وفي هذه الأعوام، تخرّج من الجامعة الأميركيّة، قسم الصحافة، ليعمل مترجماً في عدد من وكالات الأنباء.

في ليلة رأس السنة من عام 1959، يُعتقل غالب هلسا مع عدد من الأدباء، وتظلّ والدته تقول لنساء القرية، كلّما وصلت أخبار عن اعتقاله: "غالب زلمة مو مثل عيالكن، يحبسوه ما ينقص منو إشي".

في تشرين الأول/ أكتوبر 1966 يُعتقل مجدداً مع عدد من الأدباء والمفكرين، ويخضع للتعذيب 36 يوماً من دون توجيه تهمة، ويظلّ في السجن 6 أشهر بسبب اشتراكه في نشاطات المنظمات اليساريّة المصرية.

وفي عام 1976، تنعقد ندوة عن المخطط الأميركي في الشرق الأوسط بمشاركة نحو 20 منظمة عربيّة، برئاسة غالب هلسا. وبعد انتهائها تقوم السلطات باعتقاله، وترحيله، بعد شهر من السجن، من مصر إلى العراق.

في العراق، يواصل غالب الكتابة والترجمة، والعمل السياسي أيضاً، قبل أن يتعرّض لمضايقات أمنية تضطرّه إلى مغادرة بغداد إلى بيروت. وفي هذه الفترة يكتب جزءاً من روايته "سلطانة"، إذ يقول في حوار صحافي: "بدأت كتابة أجزاء من هذه الرواية قبل حصار بيروت، وبعد الخروج من بيروت، واستقراري في دمشق، كنت قد انتهيت منها. كما أنني اعتمدت على الذاكرة في تدوين أحداث الرواية. الشخصيات التي أتحدث عنها ليست حقيقية، لكنها واقعية".

ترميم الواقع بالكتابة

من "الضحك" (1971)، "الخماسين" (1975)، "السؤال" (1976)، وصولاً إلى "ثلاثة وجوهٍ لبغداد" (1981)، و"سلطانة" (1987)، و"الروائيّون" (1988)، بقيت حدود الواقعي والمتخيَّل في روايات غالب هلسا موضع تداول الأدباء والنقاد. والمؤكَّد أن في شخصيات غالب الروائيَّة الكثير منه، وفي أحداث رواياته الكثير مما عايشه شخصياً في منافيه المتعدّدة، وهو القائل: "إن رواياتي وقصصي كلّها تحمل عناصر حادة من السيرة الذاتية، فلا يوجد عمل قصصي أو روائي لي ليس له أصول في حياتي الخاصة، وأصدقائي يعرفون هذا. وعلى هذا، أستطيع القول إنني أكثر كتّاب الرواية العربيّة تعبيراً عن الحياة الخاصة".

وفي روايته "الروائيّون" يقول: "إنّ أغلبيّة الروايات الجيّدة، هي، على نحو ما، سيرة ذاتيّة".

ويرى الناقد الفلسطيني فيصل درّاج في كتابات غالب هلسا مزجاً للسيرة الذاتية في السيرة الجماعية، فيقول: "مزج غالب هلسا بين السيرة الذاتية والسيرة الجماعية. كتب ما عاشه في زمن، وكتب إحساساً بالفجيعة صدمه في زمن لاحق".

بينما يرى الكاتب المصري إدوارد الخراط أنه "في أحيان كثيرة، تبدو شخصية الكاتب سافرة، في ملامحها المعروفة من حياة الكاتب. وفي أحيان أخرى، يتخذ اسمه صريحاً".

أمّا الروائي الفلسطيني، إبراهيم نصر الله، فيرى أن غالب هلسا "كان يحاول أن يرمّم نفسه بالكتابة ويرمّم الواقع بالكتابة، وظل معذَّباً داخل الكتابة بقدر ما هو معذَّب خارجها".