غالب هلسا: القابض على يساريته لم يتخل عن القدس

من ماعين بالأردن كانت البذرة الأولى، بينما فلسطين كانت خط الأفق.. تنقّل هلسا بين عواصم ومعتقلات عربية، وبقي مصري الهوى، يساري الفكر، جدلي النزعة.

غالب هلسا، وقت بين الأوقات، ولد في 18 كانون الأول/ديسمبر عام 1932، ومات في يوم مولده نفسه عام 1989، وغالب هلسا أيضاً مكان بين الأمكنة، عايش العواصم الحضارية الأربع: القاهرة، بغداد، بيروت، دمشق، وعاشته إلى النهاية.

 طراز فريد، مبدع، متنوّع متجدّد، من بين العواصم الأربع اختار القاهرة واختارته، التبس بها وبلهجتها وعالمها ربع قرن كاملاً تقريباً.

من ماعين بالأردن كانت البذرة الأولى، بينما فلسطين كانت خط الأفق.. تنقّل بين عواصم ومعتقلات عربية، وبقي مصري الهوى، يساري الفكر، جدلي النزعة.

التقيته للمرة الأولى في بيروت أثناء الحرب الأهلية، تعمّقت علاقتنا في دمشق، حيث مستقر الفلسطيني المتمرد، وتعمّدت علاقتنا بنشر الطبعة الثانية من رواية "السؤال"، وقد استوحاها من قصة حقيقية، هزت أحداثها مصر في ستينيات القرن الماضي، وكان نجيب محفوظ قد تناولها في رواية شهيرة هي "اللص والكلاب"، وقد تحوّلت إلى أحد أهم أفلام كلاسيكيات السينما المصرية.

بينما جاء تناول غالب هلسا في رواية "السؤال" مغايراً عن نجيب محفوظ، ويمكن اعتباره أكثر عمقاً وأبعد غايةً. 

من هنا كانت حماستي لإعادة نشرها  للقارئ المصري، كما تمنّى غالب هلسا، حلماً أن يعرف القارئ المصري تلك الوقائع الدرامية لملابسات خروجه قسراً من مصر بصحبة مخطوطة رواية "السؤال".

قبيل رحيله إلى دمشق، المستقر الأخير، كان غالب هلسا يصلّي من أجل العودة إلى القاهرة، عاصمة شبابه ولهجته التي حملها أينما حلّ. و"السؤال" هي رسالة زمن الستينيات العربي إلى عالم اليوم.

لقد مثّلت "السؤال" معالجةً روائيةً فذةً للحياة المصرية في ستينيات القرن الماضي، حتى إن البعض وجد فيها رداً على رواية "اللص والكلاب"، حيث إنهما مستلهمتان من الدراما الواقعية ذاتها التي عاشتها السلطات المصرية، وكذا الرأي العام المصري على مدار ما يزيد على 60 يوماً في النصف الأول من العام 1960، قبل سقوط بطلها (اللص أو السفاح المثقف أو روبين هود المصري) بفعل 17 رصاصةً أطلقتها الشرطة المصرية وأردته قتيلاً بعد مطاردات مثيرة، وكان نشر خبر مقتله بطريقة ملتبسة في جريدة الأخبار سبباً مباشراً في تأميم الصحف.  

إن اللص أو السفاح المثقّف في الدراما الواقعية ولد لأب نزح من إحدى مدن محافظة قنا في جنوب مصر إلى مدينة طرابلس في شمال لبنان، وهناك استهلّ مغامراته وهو في التاسعة من عمره بسرقة 4 قطع سلاح من مخزن تابع للجيش البريطاني، وبعدها بعدة سنوات سرق بيت كميل شمعون وقتل حارسه، وكانت مغامرته المثيرة في فلسطين عام 1948 حينما كان في الثامنة عشرة من عمره حيث حرّر زوجة خاله، وهي يهودية وقعت بين أيدي العصابات الصهيونية في حيفا، ونقلها إلى مدينة طرابلس اللبنانية.

وقد أدت هذه المغامرة، وفقاً لرواية والده، إلى توجيه فوزي القاونجي، قائد الجيش اللبناني (آنذاك)  بتدريبه على السلاح مع فرق الجيش، إلى أن تورّط في قضية سرقة بيت القائد جميل الخطيب في بيروت، ليقضي في سجون لبنان عدة سنوات، يعود بعدها إلى مصر ويؤسس داراً للنشر ويدخل ضمن النخبة الإعلامية، ويقترب من الفنانين والمثقفين والمشاهير، ويستفيد من تلك العلاقات في خططه لسرقة بيوت المشاهير والأغنياء.

جاءت معالجة غالب هلسا لدراما محمود أمين سليمان "اللص المثقّف" في رواية "السؤال" ضمن رؤية يسارية، وبأدوات كتابة مناهضة للرواية البرجوازية التي مثّلتها "اللص والكلاب". من هنا كان تميّزها.