غزة.. لا سبورة سواكِ كي نكتب الضوء!

لا مانع من قتل الفلسطينيين من حيث المبدأ، فالتحذير الأميركي المتكرّر للإسرائيليين يتعلّق بالقتل واسع النطاق، بمعنى توفّر إمكانية الاكتفاء بمجزرة يومياً بدلاً من ارتكاب 20 مجزرة مثلاً، وهو ما حصل منذ أكثر من 150 يوماً.

  • (أ ف ب)
    (أ ف ب)

غزة، أيتها السفينة الجانحة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط مثل طائر أسطوري. السفينة الغارقة في الأسى والذكريات المؤلمة وانتهاكات الغزاة، وحدك من ينهض من قبره بين مذبحة وأخرى، كمن يخرج عن النص ويزلزل ثبات الخشبة فيربك عمل القراصنة، ولصوص التاريخ، والعروش النائمة. لا سبورة سواكِ كي نكتب الضوء في هذه العتمة الطويلة، ونفتتح الدرس بحرف الغين لا سواه، كما لو أننا نصنع أبجدية مضادة!

**

لا مانع من قتل الفلسطينيين من حيث المبدأ، فالتحذير الأميركي المتكرّر للإسرائيليين يتعلّق بالقتل واسع النطاق، بمعنى توفّر إمكانية الاكتفاء بمجزرة يومياً بدلاً من ارتكاب 20 مجزرة مثلاً، وهو ما حصل منذ أكثر من 150 يوماً.

المسألة حسابية تماماً ولا تحتمل الفوضى، لكن شايلوك المعاصر لا يكتفي برطل من اللحم، إنما بأطنان من اللحم الفلسطيني، كنوعٍ من الاستهزاء بمخيّلة شكسبير المحدودة، التي بالكاد تستدعي تصفيقاً عابراً على الخشبة. ففي هذه الوليمة المفتوحة لا يحتاج شايلوك إلى ثلّاجات الموتى، أو مراعاة قوانين الحرب، أو حصانة المستشفيات والمسعفين والصحافيين. إذ يترك ضحاياه مشلوحين في العراء وتحت الأنقاض، زيادةً في تحسين شروط الفرجة الكونية في المعنى العميق للصيد!

هكذا يعود كل يوم من" بريّة" غزّة محمّلاً بالغنائم والأرقام التي ترضي شهوة القتل لدى قومه. لا يهمّ ماذا يقول الآخرون عنه، طالما أنه يعمل بأقصى طاقته على تنظيف المكان من أهله، مراهناً على النسيان، فالدم الذي يسيل اليوم سيجفّ غداً، في ماكينة الميديا الضخمة التي تبتلع مئات الصور على الهواء مباشرة بالهياج نفسه الذي ينتاب جمهور ملاعب كرة القدم.

إنه يستبدل الكرة بالجماجم، تتقاذفها أقدام جنوده كنوع من التسلية في تصدير أحدث نسخة من الإبادة الجماعية.

ليس المهم هنا إعادة الأسرى أو القضاء على المقاومة كذريعة لاستمرار هذه الحرب المجنونة، إنما تهجير الفلسطينيين جماعياً، ليس من غزة وحدها بل من فلسطين كلها. فالحرب ديموغرافية في المقام الأول، وعلى هذا الأساس فإن حكومة الحرب الإسرائيلية تعتبر نفسها منتصرة جزئياً، نظراً للنسبة المرتفعة للضحايا من النساء والأطفال وصولاً إلى "الانتصار الكامل"، أو الإبادة الكاملة.

تالياً، فإن نظام "الأبارتيد" سيئ السمعة بات نسخة قديمة مهترئة، ودليلاً للمبتدئين لا يصلح لمخططات الخرائط الراهنة، فغزة ليست نزهة للغزاة إنما هي رقم صعب في حروب الغاز المؤجلة، وميناء أساسي لطرق حرير موازية، لذلك من الضروري والمُلح إفراغها من أهلها وهدم بيوتها وإعادة هندستها وفقاً لمتطلبات الخرائط الجديدة التي يجري تداولها في الغرف المغلقة.

ولكن لماذا هذا الارتباك العالمي حيال هذه القسوة التي تشبه "قصة موت معلن"؟ على الأرجح أن السبب هو وجود نصّ مضمر، ونصّ معلن، وتالياً، فإن شايلوك يعمل ضمن بنود الكاتالوغ، إلا أن بزوغ وعي جديد على مستوى العالم لقضية اسمها فلسطين خلخل المعادلة وأربك اللاعبين وأفشل اللعبة، وإذا بفلسطين تحضر بقوة بدلاً من أن يطويها النسيان واللامبالاة.

لم تكن البروفة ناجحة كما كان يتوقّع المخرج والممثلون وفنيو السينوغرافيا، إن لم نقل فشل العرض تماماً، رغم فداحة الخسائر في الأرواح، فالرهان الاستعماري على صباغة جناحي الغراب بلون مختلف لن يمنحه القدرة على الغناء في جوقة البلابل. ثم أتت مجزرة الطحين التي نسفت كل ما قبلها في صناعة التوحّش وطبقات العار!

عندما زار الروائي البرتغالي الراحل خوسيه ساراماغو فلسطين عام 2008 وكانت غزة محاصرة أيضاً، قال: "يجب قرع الأجراس في العالم بأسره للقول: إن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف". وها هو العالم يقرع الأجراس، لكن الجريمة لم تتوقّف، إنما ازدادت ضراوة! 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.