غسان كنفاني يقترح الحل لتحرير فلسطين بعد عودته إلى حيفا

هدف صحاب"عائد إلى حيفا" تأكيد الخيار المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، حيث يقول سعيد لمن احتل منزله في حيفا وهو بذلك يعبر عن كلّ الفلسطينيين: تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب.

  • "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني

إنّ الإنسان كالشجرة، مهما كبرت أغصانها واهتزّت أوراقها لرياح عديدة، فإنّ جذورها ثابتة متشعّبة في الأرض. تلك الأرض ستظلّ دائماً جوهر هويتها. وإنْ ضاعت الأرض، ضاعت الهوية وضاع معها الإنسان والقضية.

تُكتَب هذه الكلمات تحت صوت الزنّانة وصوت القصف الذي يدوي في قطاع غزة، أسمعه من التلفاز وأنا بعيد بآلاف الكيلومترات، فأحسّ بنبض الوريد ويعتصر قلبي ألماً وحزناً. ذاك القصف يواجهه أهلنا في غزة بأجساد ملأها الإيمان والكرامة؛ في عصر الخذلان والعجز المقيت. 

ورغم كلّ هذا الخذلان وبربرية الاحتلال ووحشيّته وجرائم الحرب التي أصبحت توثّق على المباشر، رفض الفلسطينيون الرحيل عن أرضهم، قائلين في "حوقلة" سنظلّ واقفين هنا ولن نسمح بنكبة جديدة ولن نُهَجَّر، وكأنهم يقولون لروح غسان كنفاني: لن يكون هناك سعيد س. آخر، لن تكون هناك صفية أخرى، ولن نترك وراءنا أحداً؛ لكي لا يتحوّل "خلدون" إلى "دوف". حتى قططنا وطيورنا سنحملها معنا لكن داخل أرضنا.

غسان كنفاني منبّهاً: الأرض هي كلّ شيء

 غسان كنفاني أيقونة الأدب الفلسطيني وواحد من شهداء شعب لم يكفّ منذ قرن تقريباً عن أن يعطي حصة من دمه فداءً للوطن. والشهداء نوعان: شهداء البندقية وشهداء الكلمة الحرة. وقد كان كنفاني مثالاً لشهداء الكلمة الذي اغتالته أيادي الغدر والهمجية ليستشهد في الـ 8 من تموز/ يوليو 1972 في بيروت مع ابنة أخته لميس في انفجار سيارة مفخّخة على أيدي عملاء إسرائيليين.

غسان كنفاني واحد من أبناء حيفا كما عكّا التي ولد فيها، ففلسطين واحدة لا تتجزّأ. فقد كانت يافا مرفأه الأخير في فلسطين فهناك ودّعها جسدياً لكنه لن يفارقها أبداً في وجدانه وفكره وكتاباته. وكباقي الفلسطينيين لم يغادرها طواعية أو رغبة في التغيير، بل أجبر مع عائلته وهو في سن الثانية عشرة على مغادرتها في نكبة 1948. لكن كنفاني عاد إلى حيفا عن طريق روايته وشخصياتها التي عادت هي الأخرى إلى حيفا بعد مغادرتها لمدة عشرين سنة، ليكتشفوا أن للعودة كذلك مرارة وقسوة وألماً لا يختلف عن التهجير. فالاحتلال فطن أنّ في الأرض تزرع الهوية فقلَّب الأرض وغيّر الأسماء لكي لا يتعرّف أناسها إليها ولكي لا تتذكّر الأرض أصحابها. لكن وكما دوَّن أسطورة الجليل محمود درويش:

"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة... أوَّلُ الحُبِّ، عشبٌ عَلَى حجرٍ، أُمَّهاتٌ تَقِفْنَ عَلَى خَيْطِ نايٍ، وخوفُ الغُزَاةِ مِنَ الذِّكْريات".  

بعد عشرين عاماً، لم يعُد سعيد س. وزوجته صفية إلى بيتهما في حيفا بحثاً عن الذكريات بل بحثاً عمّا هو أثمن من ذلك وهو ابنهما خلدون، الذي تمَّ تركه وهو رضيع في حيفا. ففي صباح الأربعاء، 21 نيسان/أبريل، عام 1948، تمّ قصف حيفا فجأة وانقلبت الشوارع إلى فوضى، ودبّ الذعر وكأنّها القيامة. كان سعيد آنذاك في قلب المدينة وحاول جاهداً العودة إلى بيته ليجد نفسه منساقاً جهة البحر، فحين خرجت زوجته صفية من البيت لتتفقّد الأحوال غير مدركة ما يخفيه القدر لها، باحثة في الوجوه وبين السيارات عن وجه زوجها. فكان، كما خطّ كنفاني بتَمَيُّز غير غريب عن أنامله المبدعة:

"هو أقرب ما يكون إلى البحر، وكانت هي أقرب إلى الجبل، وبينهما يمدّ الرعب والضياع خيوطهما غير المرئية، فوق مستنقع من الصراخ والخوف والمجهول".

فتقاذفتهما أمواج الهلع غير مدركين أنهما في أتون معركة حيفا أو سقوط حيفا، ليلتقيا بين سيول البشر فيلقى بهما إلى قوارب التهجير. ويتضح أنّ سعيد وصفية قد قادتهما الأقدار أن يقفا جهة الغرب، لذلك تمّ تهجيرهما عبر البحر.

وتجدر الإشارة لمن لا يعرف حيفا، أنه تمّ دفع الناس وحشرهم في ساحة الفرير، وهي نقطة التقاء رئيسية بين أهمّ مناطق حيفا في جهة الشمال، فهناك في الساحة من وقف شرقاً وهناك من وقف غرباً، ليحدّد ذلك مصائرهم. فمن وقفوا شرقاً تمّ تهجيرهم في عربات إلى أماكن أخرى، ومن وقفوا غرباً تمّ الدفع بهم نحو البحر ليهجّروا في قوارب.

لكنّ المأساة تكمن في خلدون ذي الخمسة أشهر، الذي ظلّ في المجهول، وحيداً بين الأعداء في حيفا. لكن هل بالفعل إنّ من بقي معهم أعداء أم أنّ للتنشئة الدور الفاصل في تشكيل الهوية؟ خاصة أنّ الاحتلال المستوطن يعيد تشكيل الأرض ومن فوقها.   

الإنسان في نهاية الأمر قضية

لقد اقتنص الزوجان لحظة إزالة بوابة منْدَلبوم بعد اندلاع حرب الأيام الستة في حزيران/يونيو1967، ليشدّا الرحيل إلى حيفا؛ فعندما احتلت "إسرائيل" القدس العربية العام 1967 أزالت آثار بوابة مندلبوم كليّاً، وفتحت المدينة على كلّ أجزائها لتسيطر عليها بالكامل. ويشير كنفاني بقلم الثائر أنه يعتبر فتح البوابة من الطرف الآخر أمراً مرعباً وسخيفاً وإلى حد كبير هو مهين تماماً:

"إنّ كلّ الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة، وإنها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال".

انتاب سعيد س. وهو عائد إلى حيفا شعور غريب. أسيعرف حيفا، والأدهى من ذلك هل ستعرفه حيفا؟ لقد أحسّ أنه يعرف المدينة ويعرف كذلك بيته الذي لم يتغيّر فيه شيء غير الجرس والاسم ومن يقطن بداخله، لكنه شَعَر أنّ حيفا والبيت أنكراه.

ويا ليت المأساة وقفت عند هذا الحدّ، بل وجدا خلدون أمامهما يحمل هوية العدو. بل وقد أصبح واحداً من جنود الاحتياط في "جيش" الاحتلال، فليس له أم سوى مريام البولندية وزوجها إيفرات البولندي الذي قُتِل في سيناء عام 1956. فقد أصبح خلدون اسمه دوف. وعاش ونشأ كما يتربّى اليهود. بل ولم يعرف أنّ له والدين عربيّين إلا قبل سنتين. لم يفهم خلدون مأساة والديه، وعاتبهما واعتبرهما جبانين.

هنا تتحوّل المأساة إلى درس في ماهية الوطن، وعلاقة الأرض بالهوية.          

سيعرف سعيد س. ذلك وإنْ كان متأخراً. بعد عشرين عاماً، أدرك أنه يبحث عن سراب. لقد سرقوا ابنه يوم سرقوا الأرض. ليس هناك شيء اسمه نداء الدم واللحم، وحدها التنشئة تصنع الإنسان، أليس الإنسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويوماً وراء يوم وسنة وراء سنة؟ وكما قال لهم خلدون: 

"إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية". 

لكنها أيّ قضية! لقد بدأت الجريمة قبل عشرين سنة، ولا بدّ من دفع الثمن. بدأت يوم تركاه هناك. لكن هل بالفعل تركاه؟ إن الحقيقة غائبة هنا، فليس سعيد وصفية من جاءا من أقصى الأرض ليستوليا على أرض غيرهما، ليس هما من ضرب النار على نفسيهما، ليس هما من استسلما للتهجير طواعية. 

أدرك سعيد س. أنهما فقدا ابنهما وفقد هو الآخر نفسه. لم يكن عليهما أن يتركا شيئاً. خلدون والمنزل وحيفا! فما هو الوطن دون الأرض، وماذا سيتبقّى من الإنسان إن نشأ في أرض مشوّهة الهوية. هنا تكمن كلّ القضية! 

تذكّر سعيد س. وهو ينظر إلى ابنه المسروق، ابنه خالد في الضفة الأخرى، وحاول أن يستشفّ شبهاً بينهما، فلم يعثر إلا على تضاد؛ وارتجّت كلّ قناعاته وهو الذي كان ضدّ التحاق خالد بالمقاومة، ليمنّي نفسه أن يكون قد رحل هذا الأخير في غيابه. وهو الذي أكد لمن يقطن في بيته في حيفا أنه لم يعد ليسترجعه الآن، لأّن ذلك سيتطلّب حرباً.   

يبدو أنّ كلّ فلسطيني سيدفع ثمناً، وقد دفع سعيد س. هو الآخر ابنه ثمناً بصورة غريبة، اعتبره حصّته الأولى، وربما يكون خالداً في الضفة الأخرى حصّته الثانية.

غسان كنفاني وخيار المقاومة

ارتأيت أن أجعل هذا المقطع كخاتمة، لما له من علاقة مع عقلية الاحتلال، وحلّ السلم والحرب، وقد أبدع كنفاني في انتقاء كلماته، لتكون واضحة بجلاء، لا تعرف التأويل أو تباين التعليل. واضحة كوضوح البندقية في يد المقاوم في الميدان، وتترك أثرها دون رجعة. 

لا غرابة في أنّ كنفاني له الدراية الكاملة بعقلية الاحتلال الإجرامية والتي تنهل من منابع العنصرية والتطرّف والإقصاء لكلّ ما هو غير، أثارتني دقّته في إشارته على لسان خلدون الذي تحوّل إلى دوف، أنه يعيد كلمة "التحضّر" في خطابه مع سعيد. س. فيقول مرة دون وجود أي مظهر من مظاهر العنف يستدعي ذلك:

"ـ دعونا نتحدّث كأناس متحضّرين".

ويشير مرة أخرى، معاتباً والديه البيولوجيّين:

"ـ كان يمكن لذلك كلّه ألا يحدث لو تصرّفتم كما يتعيّن على الرجل المتحضّر الواعي أن يتصرّف".

إن إدراج كلمة "متحضّر" بكلّ حمولتها لم يكن اعتباطاً، فهو نفسه الخطاب الذي ما زال دارجاً عند الاحتلال لوصف الفلسطينيين والعرب، مثبّتين ذلك في نفوس شعبهم: نحن التحضّر وهم الهمجية، نحن الإنسان وهم الحيوان، نحن الضوء وهم الظلام. 

كما يتضح كذلك أن غسان كنفاني لا يرى طريقاً للتحرير غير طريق المقاومة، ولا ينفك الإنسان وهو يتطلّع لأدبيات هذا الاحتلال إلا أن يصل إلى هذا الخيار. فأشار عدة مرات عبر شخصياته إلى أنّ عودة البيوت لأصحابها يستلزم حرباً. ذلك ما قاله سعيد س. لمن صارت أماً لابنه المسروق، وذلك ما قاله فارس اللبدة، بعد أن عاد لحيفا، لمن وجده في بيته، قبل أن يدرك أنه عربي سُجِنَ ثم ظلّ هناك بعد خروجه واستأجر البيت ليحافظ فيه على صورة أخ فارس الذي استشهد فداءً لفلسطين، وكأنه يريد بذلك الحفاظ على الذاكرة.  

إن سعيد س. وهو يقف أمام خلدون، الذي فقد أيّما عاطفة إزاءه، أصبح يتمنّى التحاق ابنه الآخر خالد بالفدائيين، وهو الذي مارس سلطته الأبوية لكي لا يلتحق فيما مضى. ومن خلال المتناقضات، أدرك أن الوطن أكثر أهمية من البحث عن الذاكرة، لن يجديه البحث عن الماضي، فلا يوجد تحت الذاكرة غير غبار، فالماضي هناك في زمنه ثابت جامد بكلّ ما فيه من مأساة وأرزاء. لكن رهان الوطن كلّه قائم على المستقبل، والمستقبل لا يبنى إلا بسواعد الحاضر الذي يحمل السلاح، وبه يريد أن يصحّح أخطاء من سبقوه.

ولا يسعني في الختام إلّا أن أقول ما قاله سعيد لمن حّل مكانه، وهو يغادر منزله في حيفا، وهو بذلك يتحدّث بما يجول في خاطر كلّ الفلسطينيين:

تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب.