"غواية الورد، فتنة الياسمين" لناصر العبدالله .. عطر المرأة والأمل

هي عبارة عن نصوص في الوجود والوطن والأصدقاء، فيها يقف الانتظار على موعد مع الغياب أو الحضور.

  • كتاب
    كتاب "غواية الورد، فتنة الياسمين" للشاعر اللبناني ناصر العبدالله.

لا أدري من قال إنّ الشّعر قد يكون في الجينات، لكنّ من المؤكد أنّ الكاتب ناصر العبدالله شاعرٌ متفردٌ بأسلوبه وعمق المضمون المقدم في كتابه الأول "غواية الورد، فتنة الياسمين" (في 144 صفحة من الحجم الوسط)، الصادر حديثاً عن دار فواصل في بيروت (2023). لوحة الغلاف للفنان التشكيلي سلفادور دالي قد تكون كلاسيكية لكنّه قلما يوضع عنوانان لكتاب واحد، ولعلّ الكاتب أراد بذلك التشديد على سحر الزهور بمختلف أنواعها وربما تنوع إهداء القصائد للحبيبة (فاتن) تارة وللإبنة (ورد) طوراً. 

وبين قصائد أو نصوص كُتبت منذ زمن ونصوص حديثة نشرت في كتاب واحد، أتى الإهداء عربون وفاء إلى الأم والأب.

"غواية الورد، فتنة الياسمين" يقسم إلى أربعة محاور، تبدأ بمقدمة من الكاتب نفسه يطرح فيها سبب نشر الكتاب في هذا الوقت، إضافة إلى تنوع المضمون في النصوص والقصائد من كلاسيكي وحديث من حيث الأسلوب، مروراً بالمعنى المأخوذ أحياناً بالسوريالي بحيث قد يتلمس القارئ هذا التزاوج بين اللّغة والمعنى. ولعلّ الجامع المشترك في هذا الكتاب بقلم ناصر العبدالله هو: "الهمّ الحاضر دوماً في البحث عن اللّغة وغيرها عن بعض معاني هذا الوجود، والإمتلاء ببعض وجوه حضوره وبعض أبعاده وتجلياته...الذاهبة من وضوح وجمال وهشاشة زهرة الياسمين...إلى غموض وحيرة وصلابة الكواكب والنجوم والمجرّات".

"رومانس" 

المحور الأول "رومانس" ينفض فيه الشاعر الغبار عن الكلام، ليفتح الجرح ويطيبه بالحبّ. يمسح الدمعة حيناً لينثر على الدروب عطر أمه فيلوّن السماء من فتنة عينيها، يكابد وجع الرحيل بفضل صلاتها وابتسامتها. وأحيانا أخرى، يسكب الشاعر فوق شمس الصباح بوحه الحزين، يضجّ المكان بأسرار امرأته، "امرأة من ورود وماء" كما يسمّيها. في الحقيقة، ملفتة كثرة استعمال صفات الورد ومشتقات أسماء الزهور مع الماء والهواء في هذا المحور من الكتاب، إذ به يرفعه إلى مرتبة العناصر الطبيعية الأساسية للوجود، وكأنّ الورد يتماهى بوجوده مع أهمية المرأة في حياته. يقول عبدالله في قصيدة "ياسمين":

ماذا 

لو أنّ أقحوانةً أوقدت

بعد طول سُباتٍ

ناراً

في حطب الحنين

واستحالَ معها 

إلى هباءٍ

كلُّ هذا اليقين؟!

ماذا 

لو أنّ قمراً

يجري مطمئناً في مساره

راودته أو عاودته 

غوايةُ الورد

واستبدّ به 

شوقٌ لا يستكين

فهوى 

غير آبهٍ

من عليائه

إلى لُججٍ

أيقظتها

ثمّ أضرمتها

فتنةُ الياسمين؟!

ضمن هذا المحور، يهدي الشاعر بعض قصائده أو نصوصه إلى ابنته "ورد" مخاطباً إيّاها بفيض إحساسه ومحبة روحه الطاغية على النص سواء بالفصيح أو بالمحكي.

"أحلام رام"

مما لا شك فيه، بأنّ تأثر القرية ومفردات الطبيعة واضح في تعابير الشاعر اللّغوية، فالحنين والشوق والذكريات المختلجة في قلبه ليس فقط إلى المكان بل إلى الناس والأصدقاء يظهر جليّاً في قصيدة "أحلام رام" فيقول:

"ما إن حلّت ساعة النوم حتى ذهب رام إلى غرفته

رفع الغطاء عن سريره واندسّ تحته ونام

ودخل في الحلم أو ما يسمّيه، هو، المنام...

فرأى، فيما رأى، قرية وادعة

ترقدُ فوق تلّة وتُدعى الخيام

وأمامها سهلٌ واسعٌ يحضنُ أشجاراً وخضاراً

وحقولاً من الحبوب تزورها العصافيرُ والطيورُ

ويأكل منها اليمامُ والحمامُ

ثم رأى في وسط السهل بركة ماء كبيرة

يسبح فيها البط والوزّ وأسماك ملوّنة صغيرة

وبعض صبية يقفزون في الماء فيسبحون

وتسبح معهم ضحكاتهم...

فيمتلئ المكان بالضحك...وبالكلام

-                     هيا بنا فلنتسابق إلى الجهة المقابلة يا عصام

تفاجأ رام من اسمه الجديد وقال مندهشاً:

-                     أنا لستُ عصام بل أنا رام!

-                     لا، أنتَ في الحكاية صبيٌّ آخر يدعى عصام...

ويتابع ناصر العبدالله سرد حكايات في حكاية واحدة وترفرف الذكريات في طفولة سعيدة ترسم للسحب أشكالاً وللوجوه صوراً، مترافقة مع أصوات الطيور وخفقات الطبيعية من حيوانات ونباتات حتى ليكاد القارىء يلامس رغيف الخبز الساخن من صاج الحيّ، والمغامرات تنمو في مخيّلة رحبة كقلوب الأطفال. وبذلك يُشرك الكاتب القارئ تلقائياً في قصص من الزمن الجميل. 

"رسائل الوحشة" 

أمّا الباب الثاني من الكتاب فحمل عنوان "رسائل الوحشة" يستهل فيه الكاتب رسائله الثماني، أولاً إلى أبيه واصفاً أيّاه بمفردات نورانية، مستعيناً بلغة صافية، مختصرة وكثيفة المعنى. وتتوالى الرسائل إلى الأصدقاء بعناوين مدهشة مثال على ذلك "ما تقوله الريح للراعي"، "هبوب" أو "تلك الصخرة" وإلى "حور" الطفلة الغزاوية التي قضت تحت الأنقاض. هنا تنحدر الدمعتان على الخدّ عندما ناجت تلك الطفلة أمها، والصراخ لم يعد مسموعاً. بإيمان عالٍ رفع الكاتب إحساسه في هذه القصيدة، فانحنت الحروف أمام هذا الوجع وختمها قائلاً (على لسان الطفلة):

"مَن ينتشلني من تحت الركام

إلى حضنٍ آمنٍ ألوذُ به؟

حضنُ أمي

هذا كلّ ما أريده الآن

تتلو فوق رأسي 

من ذاك الكتاب آية 

أو آيتين 

كي تهدأ نفسي وتطمئن

فأنسى ألمي

وأراني أحلّق إلى حيث لا يطالني

عبثٌ أو قهرُ وغدرُ، 

وتحلّق روحي

إلى حيث لا يقوى سيفٌ على منع تفتح الزهر

واقتران السهل بالأقحوان..."

"تأملات سوريالية"

المحور الثالث حمل عنوان "تأملات سوريالية"، وهي عبارة عن نصوص في الوجود والوطن والأصدقاء، فيها يقف الانتظار على موعد مع الغياب أو الحضور. فيها التجارب التي أصقلت المسيرة، فيها تعب العمر والأولاد الذين صاروا كباراً... في هذا المحور، كلمة للأصدقاء شرط أن نجدهم على حدّ تعبير الكاتب نفسه، هم مضمون الكلمات وهم الأجوبة على أسئلة كثيرة. وفي سياق هذه النصوص، يقول الكاتب في نص "الربع الأخير": "فقدتُ لغتي منذ زمن بعيد.. لا أدّعي أنها لغة خاصة لكني أقول إنّ اللّغة تركتني. صبرت كثيراً علّني أخرج من شكّي المتواصل ثم انتظرتُ طويلاً علّني أعود من هذا التراجع المستمر باتجاه الخيارات الأخيرة، الخيارات الأولى. صبرتُ وانتظرتُ كثيراً ثم غادرتني بينما كنتُ مستغرقاً في التفاصيل". 

كما يأتي ضمن هذا المحور نص "احتفالية الإرتباك" المهدى إلى سلفادور دالي، الأمر الذي يؤكد تأثر الكاتب بهذا الرسام الكبير.

مقالات في الأدب السياسي 

المحور الرابع يضم مقالات في الأدب السياسي عن الإنهيار العظيم وثقافة العولمة، بالإضافة إلى أمور لبنانية ليختم بمقالة إنسانية موضوعية عميقة عن الإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً تحمل عنوان "رهان":

"كخلاصة لهذا التراكم المعرفي، ساوى الإنسان بسذاجة ملفتة بين بديعه الراقي في البحث عمّا يسّهل حياة الإنسان وتوفير ما يساعده على تخطّي مصاعبها ويخفف من آلامها... وبين إنغماسه المفرط في ابتداع أدوات متطورة لهدمها ودمارها حتى إفنائها...ولا بأس من القول أيضاً، إنّ الرهان على تغيير دراماتيكي في هذا المسار، برغم سذاجته، لم يعد ممكناً أن يصدر عن هذا الكائن (الإنسان)... وقد يكون الأمل أن تنتفض الطبيعة بكل مكوّناتها (خيراتها وقواها الظاهرة والكامنة) وتبادر إلى إعادة تكوين جسد وعقل هذا الكائن العاقّ ومنحه فرصة ثانية لعله يعيد ترتيب أولوياته بما يليق بقلبه وعقله."

ختاماً، بين الشّعر والفلسفة يكتب ناصر العبدالله عن المرأة والصديق والإنسان بلغة تفوح منها عطر الزهور ويظللها بسحب الربيع بأمل مشرق على الرغم من الهموم. ربما وكما قال الناشر "نستذكر ببعض نصوصه أخاه الشاعر محمد العبدالله"، إلاّ أننا نتمسك بالرأي القائل بأنّ الإبداع لا ينقل بالجينات بل بفعل الجهد الشخصي والمثابرة.