غوستاف لو بون وقوانين تطوّر الشعوب

الأمة الفرنسية لم تتمكن من توحيد مشاعرها وأفكارها وإيجاد روح خاصة بها إلاّ بعد عشرة قرون كاملة. ومع ذلك لا يزال هذا التكوين ناقصاً جداً.

  • كتاب
    كتاب "القوانين النفسية لتطور الشعوب" للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون.

يظلّ الفكر وعلم الاجتماع على عناية كبيرة بمفاهيم الارتقاء الحضاري والثقافي للسلوك الإنساني، بمختلف اتجاهاتها. وفي هذا الكتاب يقترح عالم الاجتماع الفرنسي الرائد غوستاف لو بون مناقشة أثر الأبعاد النفسية لأي أمّة أو تجمّع بشري على تكوينها الثقافي، وردّات فعلها التي تُكوّن في النهاية الإطار الحضاري لها، فكراً وسلوكاً.

ويرى المؤلّف أن القِيم والمبادئ والأفكار المترسّخة في العقل الجمعي لأمّة معيّنة تظهر على شكل أنساق خاصة من السياقات في التعامل مع القوانين والفنون والأعراف، ويزداد عمقها بتراكم التجربة عبر الزمن، لتصل إلى درجة الإيمان والعقيدة الثابتة. 

ومجموعة القِيم المنبثقة من السلوك النفسي الجمعي هي صمّام أمان يُثبّت من دعائم وجودها واستمرارها، ويصنع خصوصيتها بين الأمم؛ ويكون تهدّم هذه القيم مؤشراً على قرب انحلالها واندثارها.

وبحسب لو بون، فإن الغرض من  الكتاب، بأبوابه الخمسة، بيان الأخلاق النفسية التي تتكوّن منها روح الشعوب، والبرهنة على أن تاريخ الأمّة ومدنيّتها منتزعان من هذه الأخلاق. ولذا، هو يبدأ بالبحث في كيفيّة تكوّن الأمم التاريخية وتربية مزاجها العقلي؛ والمقصود بالأمم التاريخية الأمم العارضة بعد التاريخ، وهي التي كوّنتها الفتوحات والهجرة والتقلّبات السياسية. وعليه، فإن تاريخها مأخوذ من تكوّنها على هذا النحو، مع الإشارة إلى ما هي عليه أخلاق الأمم من الثبات أو التقلّب.

ويتساءل لو بون: هل أن الأمم، وكذا الأفراد، سائرون إلى التساوي أم هم سائرون إلى الضد، بحيث يكثر التفاوت بينهم وتعظم الفروق؟ ليرى بعد ذلك هل أن الفنون والأنظمة والمعتقدات، وهي عناصر كل مدنيّة، هي مظهر من مظاهر روح أمّتها؟ ولذلك لا يتأتّى نقلها من أمّة إلى أخرى؛ وينتهي ببيان الحوادث القهرية التي ينطفئ بسببها نبراس المدنية ويعفو أثرها.

حول "روح الشعوب"، يقول المؤلّف إن الأمّة لا تحتاج في تكوين مزاجها العقلي إلى زمن طويل كالذي تحتاجه الأنواع الحيوانية في تكوّنها. إلاّ أن ما تحتاجه من ذلك ليس بالشيء القليل، ودليله أن الأمة الفرنسية لم تتمكن من توحيد مشاعرها وأفكارها وإيجاد روح خاصة بها إلاّ بعد عشرة قرون كاملة. ومع ذلك لا يزال هذا التكوين ناقصاً جداً؛ وربما كان أهم أثر ترتّب على الثورة الفرنسية تعجيل هذا التكوين بإجهازها على الموانع الناتجة من تعدّد الجنسيات الصغيرة في قلب الأمّة.

ويلاحِظ أنه لو نظرنا إلى جميع العوامل التي لها تأثير في مزاج الأمّة العقلي، لرأينا ذلك التأثير دائماً في الوجهة الثانوية منه، وقلّما يكون في مميّزاته الأساسية. لكن لا يعني هذا أن صفات الأمم النفسية غير قابلة للتغيير، بل القصد هو أن تلك الصفات على درجة كبيرة من الثبات، وأن مثلها في ذلك مثل الصفات الجسمانية، وأن هذا الثبات هو العلّة في بطء تجوّل خلق الأمّة في بطون الليالي والأيام.

حول "تكوين الأمم التاريخية"، يقول المؤلّف إن لامتزاج الشعوب ببعضها وصيرورتها أمّة جديدة متحدة، ثلاثة شروط: أن لا تكون الشعوب المتوالدة مختلفة العدد كثيراً، وأن لا يكون الفرق في أخلاقها كبيراً، وأن تعيش زمناً طويلاً تحت تأثير عوامل بيئة واحدة.

ويتابع: إن توالد الأمم يغيّر مزاجها الجسمي ومزاجها العقلي معاً. وهو الوسيلة الوحيدة التي يمكن معها تغيير ماهيّة الخلق الأصلي في الأمّة، لأن عامل الوراثة لا يتغير؛ فإذا طال الأمد على التوالد تولد من فعله أمّة جديدة ذات صفات جسمانية ونفسية جديدة.

وعليه، يتبيّن أن التوالد عامل أصلي في تكوين الأمم الجديدة ومؤثّر قوي في تحليل الأمم القديمة. لذلك أصابت الأمم التي بلغت درجة عالية من الحضارة في ابتعادها عن الاختلاط بالأجانب.

في السياق، وعن "تحوّر الصفات النفسية للأمم"، يقول لو بون إن الأخلاق النفسية للأمم ذات ثبات مكين، وإن تاريخ الأمم راجع إلى هذه الأخلاق. إن العناصر النفسية قابلة للتغيّر على مرّ الأيام وتعاقب الوراثة كالعناصر الجسمانية سواء بسواء. واليوم، هذا التغيّر هو أهم الأسباب في تطوّر المدنية.

أما أسباب التغيّرات النفسية فكثيرة، ومنها الحاجة والتنافس في العيش، وتأثير البيئات، وتقدّم العلوم والصناعة والتربية والمعتقدات وغير ذلك. وهناك أيضاً تأثير مهم للمعتقدات الدينية في تطور المدنية. فقد كانت المبادئ الدينية على الدوام أهم عنصر في حياة الأمم، وهي لذلك أهم عنصر في تاريخها. ويقول المؤلف إن "أكبر حوادث التاريخ التي أنتجت أعظم الآثار هو قيام الديانات وسقوطها. ولو أن الإنسانية رضيت بموت جميع آلهتها، لكان هذا الحادث أعظم الحوادث التي تمّت فوق وجه الأرض منذ ظهرت المدنيات الأولى".

وهذه هي أبرز الأفكار التي عرضها لو بون في كتابه الشيّق:

-لكلّ أمّة خواص نفسية ثابتة ثبات خواصها الجسمية تقريباً. والنوع النفسي كالنوع الجسمي، أي المادي، لا يتغير إلاّ على طول السنين ومرّ الأجيال.

-يوجد إلى جانب الخواص النفسية الثابتة الوراثية التي يتكوّن منها المزاج العقلي لكلّ أمّة خواص ثانوية تنشأ من تغيّرات البيئة وتتحدد على الدوام، فيخيّل لذلك أن الأمّة في تحوّل مستمر كبير.

-المزاج العقلي لكلّ أمّة هو خلاصة أفرادها الأحياء وأسلافهم الذين كوّنوها. فالشأن الأول في حياة الأمم للأموات لا للأحياء، لأنهم هم الذين خلقوا شعورها الأدبي، وهيّأوا الأسباب البعيدة في سيْرها.

-تمتاز الأمم بعضها عن بعض بفروق، كما امتازت بفروق نوعية. والأولى ملازمة للثانية؛ والفرق ضعيف بين أفراد المثال الوسط في أمّة ومثلهم في أمّة أخرى، والفرق عظيم بين أفراد الطبقات الراقية. ومن هذه المقارنة يتبيّن أن الفارق بين الأمم الراقية وبين الأمم المنحطّة هو في احتواء الأولى عدداً غير قليل من ذوي العقول الكبيرة، وفي أن ذلك غير موجود في الثانية.

-يتساوى أفراد الأمّة المنحطّة فيما بينهم مساواة واضحة. وكلّما ارتقت الأمّة وجِدت الفروق بينهم. فأثر الحضارة الذي لا بدّ منه هو إيجاد الفروق بين الأمم وبين الأفراد؛ وعليه، فهي سائرة نحو التفاوت لا نحو المساواة.

-لمّا كانت عناصر مدنيّة كلّ أمّة هي الدلالة الخارجية على مزاجها العقلي، يعني ممثّلة حال تلك الأمّة من حيث الكيفية الخاصة بها في شعورها بالمحسوسات وتصوّرها إياها، فمن المتعذّر نقل تلك العناصر إلى أمّة أخرى من دون تغيير فيها. وما يمكن نقله هو الصور الظاهرة السطحية التي لا قيمة لها.

-اختلاف المزاج العقلي بحسب الأمم، يجعل كل واحدة تتصور الوجود بصورة خاصة؛ فهي إذن تختلف في الحس والعقل والعمل. ويقوم النزاع بينها على جميع المسائل متى احتكّت ببعضها البعض. وهذا التنازع هو سبب جميع الحروب المدوّنة في التاريخ. 

-لا يتكوّن من مجموع أفراد مختلفي الأصل شعب مستقل. أي أنه لا تكون لديهم روح يشتركون فيها كلّهم إلاّ إذا كثر تبادل النسل بينهم مدة طويلة، واتحدت معيشتهم في بيئات متحدة، وصارت مشاعرهم واحدة ومنافعهم مشتركة، ومعتقداتهم عامة.

-لا يكاد يوجد في الأمم المتحضرة شعوب أصلية، بل ليس هناك إلا شعوب صناعية تكوّنت من أحوال تاريخية.

-تبلغ الأمّة ذروة مجدها متى تمّ لها روح قوى عام، وتسقط متى تحلّل هذا الروح. وأهم العوامل في هذا التحليل دخول عنصر أجنبي في الأمّة.

-تتأثر الأنواع النفسية كالأنواع المادية بالزمان، وكلاهما يهرم ويموت. وتحتاج كلّها في تكوينها إلى زمن طويل؛ وقد تزول في وقت قصير، إذ يكفي أن تضطرب وظائف أعضائها ليحدث فيها تطور نحو السقوط؛ وقد تكون نتيجته الدمار العاجل. فالأمم تقطع قروناً طوالاً قبل أن يثبت لديها مزاج عقلي خاص؛ وقد تفقده في برهة يسيرة. فالشقّة التي تسير فيها إلى الحضارة بعيدة، ومنحدر السقوط قصير غالباً.

-المبادئ من أهم عوامل الحضارة بعد الخُلق، ولكنها لا تؤثّر إلاّ بعد أن تتطوّر على مهل حتى تصير شعوراً وتصبح جزءاً من الخلق نفسه، وتخرج بذلك من دائرة البحث والنظر. ولا تزول المبادئ إلاّ بعد مرور دهر طويل. وكل حضارة ترجع إلى بعض مبادئ أساسية مسلّم بها من الكافة.

-أهم المبادئ المؤثّرة في الحضارة "هي المبادئ الدينية، واختلاف الأديان هو السبب البعيد في أعظم حوادث التاريخ. فتاريخ الإنسانية مقترن على الدوام بتاريخ آلهتها. وهؤلاء أبناء خيالنا؛ ولهم مع ذلك سلطان كبير، حتى أن تغيير أسمائهم كافٍ وحده في قلب نظام العالم بأسره. وظهور آلهة جديدة كان على الدوام طليعة لحضارة مقبلة، واختفاؤها كان على الدوام نذيراً بزوال حضارة مدْبرة"، يقول لو بون.

-لو أمعنّا النظر في أسباب سقوط جميع الأمم التي يذكرها التاريخ، بلا استثناء؛ ولا فرق في ذلك بين الرومان أو العجم وغيرهم، لوجدنا أن العامل القوي في انحلالها هو تغيّر طرأ على مزاجها العقلي، وترجع علّته إلى انحطاط الخلق. وليس هناك من دولة واحدة سقطت لانحطاط الذكاء في قومها؛ فطريقة انحلال الدنيّات واحدة.

يذكّرنا كلام لوبون هذا بشعر بليغ للشاعر المصري الراحل أحمد شوقي:

إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ..  فإنْ هم ذهبتْ أخلاقهمْ ذهبوا.