فلسطين في فكر حركة القوميين العرب
يعرف الكاتب القومية العربية بوصفها "الشخصية الجماعية للأمة العربية وهي واقع حياة العرب التاريخي واللغوي والجغرافي والثقافي، وكل ما يحوي هذا الواقع من عادات وتقاليد ومصالح وأهداف واحدة".
-
فلسطين في الفكر السياسي لحركة القوميين العرب
ارتبط تأسيس حركة القوميين العرب بفلسطين؛ وكانت الحركة أحد الإفرازات العملية للنكبة، والمحفز الأكبر لمؤسسي الحركة الذين رفضوا الاكتفاء بالتذمر والشكوى من القرارات الدولية، مثل قرار تقسيم فلسطين الذي ولد موجة عارمة من الغضب في أوساط الشعب العربي وصلت إلى طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، حيت رفضوا الواقع لمجرد الاعتراض أو وإدانة الأنظمة العربية الموالية لها والمتامرة ؛ بل كان الشعور والإيمان لديهم بأن لا بد من العمل المنظم والمواجهة.
ولئن المؤلف صلاح صلاح ليس مجرد باحث بل هو صانع حدث، مقاتل وفدائي في الثورة الفلسطينية، وفاعل رئيسي في الكثير من الأحداث التي تطرق إليها هذا كتاب (فلسطين في الفكر السياسي لحركة القوميين العرب)، والتجربة الغنية لهذا القيادي تمنح الكتاب الهاماً ومصداقية وقيمة تاريخية، لقد اهتم المؤلف من خلال إنجاز كتابه اهتماماً بالغاً بتسلسل الأحداث التاريخية لحركة القوميين العرب، وتقديم تحليلات دقيقة وموضوعية تساعد على فهم الجذور التاريخية والتطورات السياسية، وأبرز المنطلقات والأهداف التي على أساسها قامت الحركة.
كتاب فلسطين في الفكر السياسي لحركة القوميين العرب، المؤلف صلاح صلاح، الناشر دار الفارابي بيروت.
مرتكزات حركة القوميين العرب
إن هذه الجهود الكبيرة للمؤلف في جمع وتوثيق المعلومات وتحليل المواقف والسياسات، وتقديمها بأسلوب مشوق تجعل من هذا الكتاب مرجعاً مهماً لكل المطلعين والباحثين والملمين بالقضية الفلسطينية، كما لعبت تجربته النضالية وإسهامه في صناعة أحداث مهمة وإعداد رؤية شاملة وعميقة تضمنت المرتكزات التي على أساسها قامت حركة القوميين العرب، وهي القضية الفلسطينية، وأن هذا العمل سيساهم في إبقاء ذاكرة النضال مشتعلة، ومصدراً ملهماً للأجيال القادمة للتعلم من التجارب النضالية السابقة، ومن دروسها لاستكمال المسيرة- الطريق.
يكشف صلاح صلاح في كتابه، بأن قضية فلسطين وتاريخها شكلت بوصلة ودافعاً أساسياً وراء نشأة حركة القوميين العرب، ولذلك استهل الفصل الأول بالإشارة إلى الجذور التاريخية لهذه الحركة، انطلاقاً من مجربات التطورات في فلسطين وتأثيراتها في الأوضاع العربية، وظهور حركات ومنظمات، مثل العروة الوثقى وشباب الثأر كنواة مؤسسة للحركة، إضافة إلى دور الشباب القوميين وكتائب الفداء العربي وغيرها، وفي الفصل الثاني أضاء على محاولات التصدي لمشاريع، ومخططات الاستعمار والصهيونية للسيطرة على فلسطين والتوغل في المنطقة العربية، مثل (مشاريع التهجير والإسكان والتجنيس)، وصولاً إلى دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، فضلاً عن التدخل الأمريكي لمصلحة الاحتلال، ومخاطر مفاوضات الصلح مع "إسرائيل" على القضية والاستقرار العربي.
حق العودة كهدف ثابت
يستعرض الكاتب والمناضل صلاح في الفصل الثالث مخاطر وجود الكيان الصهيوني كمشروع استعماري، وضرورة التصدي له، واعتبار مقاومته الحل الوحيد، والتأكيد على حق العودة كحق وهدف ثابت، في حين يتناول الفصل الرابع مشاريع تصفية قضية فلسطين، وأطماع الصهاينة وراء بعض المشاريع المشتبه فيها، والإشارة إلى بعض القضايا التي عمل عليها المستعمر وأتباعه لإنهاء الصراع، ودور الحكومات العربية. في الفصل الخامس يناقش أهمية الوحدة العربية، مستعرضاً أحداثاً تاريخية مثل الوحدة بين مصر وسوريا ومراحل تطور القضية الفلسطينية بعد النكبة، ودور الكيانات السياسية وفي إطار التعمق أكثر في فهم طبيعة الصراع، كما شرح المؤلف استراتيجيات حركة القوميين العرب، بدءاً من توصيات المؤتمر القومي عام 1960، وصولاً إلى التوجهات الجديدة والاستراتيجيات التي أقرتها قيادة إقليم فلسطين، وفي باقي الفصول يضع تصور حركة القوميين العرب مع مخطط تحرير فلسطين، واستعراض رؤية الجمهورية العربية المتحدة حول معركة فلسطين والعمل الفدائي، ومرحلة تجربة العمل الفلسطيني المسلح، وواقع منظمة التحرير، وتجربة حركة فتح، وتبعاتها، وتشكل مرحلة جديدة بعد حرب حزيران 1967، لقد أخرج المؤلف صلاح هذه العناوين بعناية ودقة وأسلوب واضح فيها بتسلسل الأحداث. خصوصا تأثير الانفصال للجمهورية العربية المتحدة على الوحدة العربية، وضرب هذا الإنجاز القومي العظيم.
إن أهمية هذا العمل (الكتاب) في هذا الوقت بالذات أنه يأتي في خضم معركة طوفان الأقصى والإنجازات الميدانية الهامة لفصائل المقاومة، والأزمة المستعصية العميقة التي يعانيها الكيان الصهيوني، والتحولات الاستراتيجية على صعيد الرأي العام الدولي، وسقوط السردية الصهيونية لمصلحة الرواية الفلسطينية، وكأن ما جاء في هذا الكتاب من خلاصات تنساق وراء ما حاول المناضل صلاح صلاح التنبؤ به حين يشير بأن النضال هو الذي يصنع التاريخ، ويساهم في تبلور وصعود حركات التحرر ومن بينها حركة القوميين العرب التي صعدت، ثم تعرضت لانتكاسات كبيرة أثر في حضورها، فقد استطاع القائد صلاح صلاح وضع صورة متكاملة وشاملة عن مراحل مختلفة من النضال الفلسطيني رابطاً إياها بتجربة حركة القوميين العرب والتسلسل التاريخي الذي مرت به قضية فلسطين، مما يجعل هذا الكتاب أداة ضرورية لكل من يسعى لفهم حقيقة وتاريخ الصراع وأبعاده المختلفة. خاصة ان انتماء المؤلف إلى الفكر الثوري المقاوم وبوصفه مقاتلاً وثائراً وفدائياً، وتجربته النضالية العميقة جعلت توثيق تجربة حركة القوميين العرب والفكر السياسي لها واجباً قومياً ووطنياً بامتياز، إضافة إلى فرصة لاستخلاص الدروس والعبر من هذه التجربة الغنية من التاريخ العربي وشكلت انطلاقة لحركات التحرير الفلسطينية والعربية، ولكنها كغيرها تعرضت لهزات نتيجة ضعف في أدواتها وتناقض في برامجها وأهدافها.
البعد القومي في فكر الحركة
ويتناول الكتاب المراحل المتعاقبة التي مرت بها القضية الفلسطينية وكيف تعاملت الحركة مع كل مرحلة ببعدها القومي. من قيادة الرئيس عبد الناصر، وهي المسؤولة عن تحرير فلسطين؛ وضمن القيادة الرسمية (عبد الناصر). بدأ التدريب في دورات لتخريج مجموعات من الشباب القوميين العرب تُعد لحرب العصابات. وجرى ذلك في معسكرات (انشاص) في مصر، و(حرستا) في سورية. لكن نكسة حزيران/ يونيو 1967، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. فاتخذت اللجنة التنفيذية للحركة ترتيبات جديدة، من ضمنها تكليف قيادة إقليم فلسطين العمل على تأليف جبهة تحرر وطني فلسطينية، تبدأ العمل العسكري ضمن برنامج سياسي ورؤية إستراتجية شاملة.
في هذا السياق وجدت حركة القوميين العرب. انه بالامكان الاستعانة بالبرامج التي كانت تطرحها الأحزاب والجمعيات التي سبقت، واستعانوا ايضا برواد الفكر القومي من حملة راية التحرير ومواجهة للأطماع الاستعمارية والمشاريع الصهيونية، مع حضور التجارب الخاصة لأشخاص النواة المؤسسة. فلم يكن هؤلاء متلقين فقط؛ وإنما هم من أبناء هذا المجتمع العربي المهتمين بأحواله، والمتفاعلين مع أحداثه وتطوراته، ويعيشون بعضها بكل ما تحمله من ألم ومرارة.
دور القائد المؤسس جورج حبش
كل هذه الأحداث والوقائع ولدت عند جورج حبش الغضب، ودفعته إلى التفكير بالانتقام من الحكام العرب المتواطئين الذين يتحملون مسؤولية ضياع فلسطين، وهذا يتطلب التدريب على السلاح. من هنا جذبته تجربة الانتماء إلى كتائب الفداء العربي التي جعلته يكتشف أنها ليست الحل ، وفتح باب النقاش المكثف والمعمق بين من كونوا النواة الأولى من جهة، ومع المفكرين والقادة السياسيين والاستفادة من تجاربهم النظرية والعملية من جهة ثانية. كل ذلك أوصله إلى قناعة أن العمل بالعاطفة وحدها لا يكفي، علينا أن ننظم أنفسنا. فالعدو يعتمد على العلم والتنظيم، ولا يمكن أن نتغلب عليه إلا بالعلم والتنظيم؛ تنظيم طموح وجدي يتحمل عبء الانتقال التاريخي للأمة العربية من الماضي المظلم الذي ورثناه بتفككه وفساده وجموده - من عصور الانحطاط والاستعمار التركي الطويل، والماضي المجزأ، اضافة الى المستعمر المغتصتب الفاسد الذي ينافي طبيعة الوجود القومي العربي الواحد.
يتحدث كتاب "فلسطين في الفكر السياسي لحركة القوميين العرب"، عن مفهوم القومية بوجه عام، وعن الأسس التي تقوم عليها: "وحدة اللغة والتاريخ والثقافة والوطن والمصالح والعادات والتقاليد والأهداف، ليصل إلى تعريف القومية العربية بوصفها الشخصية الجماعية للأمة العربية وهي واقع حياة العرب التاريخي واللغوي والجغرافي والثقافي، وكل ما يحوي هذا الواقع من عادات وتقاليد ومصالح وأهداف واحدة".
يكشف المؤلف صلاح صلاح ، ان المؤتمر الأول لإقليم فلسطين (1964) حدد مجموعة قواعد أساسية، تؤلف إستراتيجية العمل الفلسطيني. ولقد كانت هذه القواعد محور عمل الحركة، وأثبتت التجربة العملية، والمناقشات النظرية الدائمة سلامة هذه القواعد. وجرت عملية تطوير لبعض هذه القواعد على ضوء التجربة التي مر بها العمل الفلسطيني. وهنا لا بد من التفريق بين تطور القواعد وإغنائها أثناء التطبيق اليومي والمناقشات النظرية، وتغيير وتبديل القواعد نتيجة لاكتشاف عدم صلاحياتها على ضوء الممارسة اليومية في الساحة النضالية. ولا بد من استعراض القواعد والتطورات التي دخلت على كل قاعدة من هذه القواعد. منها
مبدأ اعتماد الكفاح المسلح محورًا لأي نضال فلسطيني في المرحلة المقبلة، هو المبدأ الذي يقف على رأس القواعد الإستراتيجية لأي مسيرة ثورية فلسطينية جادة، للعمل الفلسطيني الثوري. والحركة تعتقد اعتقادًا جازما بهذه القاعدة.
في قراءة الفكر السياسي لحركة القوميين العرب ومتابعة مواقفها السياسية منذ البداية حتى النهاية، يقفز سؤال أمام القارئ ويفرض نفسه عليه، ويلازمه على مدى القراءة. وخلاصة هذا السؤال: ما هو ، أو أين هو القومي العربي، والوطني الفلسطيني، عند هذه الحركة وفكرها بكلام آخر، أين ينتهي الوطني ويبدأ القومي أو العكس في القضية الفلسطينة ؟
وقد أجاب بعضهم، ومنهم من داخل الحركة نفسها، بأن هذين هما مكونان متداخلان يصعب التمييز أو الفصل بينهما. كما يحدد جورج حبش الذي يوصف عادة بالمؤسس، إن النواة الأولى في الحركة بدأت تتوجه نحو إقامة تنظيم سياسي يقوم على مبادئ القومية العربية، وفي الوقت نفسه يكون محور عمله الرد على النكبة والنكسة التي وقعت في فلسطين.
بالمحصلة، ينتقل المؤلف في هذا الكتاب من طريقة إلى أخرى لوضع القارئ في صورة حركة القوميين العرب وتأثيراتها في أبرز الأحداث، من خلال سرد تاريخي، وتحليل عميق، ورؤية نقدية لأبرز انتكاسات هذه الحركة وتأثيرات الأحداث المتتابعة عليها.
في الختام، هذا الكتاب يشكل إضافة نوعية للمكتبة العربية، لما يتضمنه من عناوين وقضايا هامة جرى تجاهلها أو عدم الإشارة إليها في المراجع والكتب السابقة التي تناولت حركة القوميين العرب.