في هجاء اللون الأسود ومديحه فوق قماشة واحدة
لن نهمل اللون الأسود لبسطار (حذاء) الجندي أو المحقّق، البسطار الذي يحيل إلى العسف والانسحاق والقهر. إذ لطالما راكمنا بصرياً في أرشيف الأنظمة القمعية، مشهد البسطار لحظة الضغط على العنق من أجل إهانة الضحية.
-
(يوسف عبدلكي)
في لحظة الحِداد الجماعي التي نعيشها اليوم لمئة محنةٍ ومحنة، يحضر اللون الأسود كشاهد على خيبات وانكسارات وهزائم بالجملة، وكعلامة مسجّلة على تاريخ ملطّخ بالعتمة إلى حدود العمى.
حشود مسربلة بالسواد تفتتح المشهد الجنائزي في الطريق إلى مقبرة الوقت. لون داكن يضعنا في مهبّ القلق والحيرة والانطفاء. فجأة نغرق في الظلام، نتعثّر بالموجودات، من دون أن ندرك ماهيّتها. حروب على الشاشة، موتى في الشوارع، وزعيق عربات إسعاف، وأخبار عاجلة.
بغتة يغيب التيار الكهربائي بورديات متناوبة بين النور والعتمة، فتبتلع الشاشة السوداء ضحاياها دفعة واحدة مثل وحش مفترس. فالأسود ليس لوناً طارئاً بقدر ما هو "نقطة تماس بين الوجود والعدم"، بحسب ما يقول آلان باديو. ذلك أن هذا الفيلسوف الفرنسي وضع اللون الأسود في صلب الفلسفة الجمالية لجهة التناوب بين الضوء والمعنى، حيث إن استنطاق العتمة يحيلنا إلى نوع من المقاومة ضد "الاستهلاك البصري".
فالحبر الأسود فوق الورقة البيضاء لحظة اندلاقه، بداية الاشتباك بين هذا اللون وبقية العناصر الأخرى، أو الانتقال من الشفوي إلى المكتوب، وتالياً سنقع على إحالات لا نهائية إلى ماهية الأسود، من الرايات السود إلى لباس الكهنة، ولون الجلد في تمييز الأعراق، وصولاً إلى الثقب الأسود في سرّة الكون.
هكذا يحضر الليل كطلسة عمياء في قماشة النهار، محمّلاً بالأسرار والخوف والعزلة والرغبة، كما سيحيلنا إلى "الفكاهة السوداء" في تجلياتها الإبداعية المختلفة.
في فحص ألوان الطيف سيتوارى الأسود، كما لو أنه غير مرئي، ما يستدعي مفردات العزاء والغياب والفقدان. ولأن الأسود يستدعي الأبيض من موقع الضد، ستخفق في الذاكرة القريبة الرايات السود التي اعتمدتها التنظيمات التكفيرية كرمز للقتل والعنف والدم، فيما تحضر الراية البيضاء في المعارك كرمز للاستسلام في الحروب.
لكن الأسود في تجلياته الأخرى هو لون معطف قائد الأوركسترا لحظة انخراطه بضبط إيقاعات السلم الموسيقي، وهو لون الأناقة كمقابل لبياض فستان العرس وطهارة العروس، إلا أننا ما إن نغادر كرنفال البهجة المؤقتة حتى تداهمنا فكرة الكفن ببياضه الناصع، والقماش الأسود الذي يجلل التابوت، كما لو أننا نزّف الموتى نحو البراءة التامة بإزاحة معجم الخطيئة عن الكائن في ختام حياته بنوع من الغفران.
اختلاط الليل والنهار
لن نهمل في المقابل اللون الأسود لبسطار (حذاء) الجندي أو المحقّق، البسطار الذي يحيل إلى العسف والانسحاق والقهر. إذ لطالما راكمنا بصرياً في أرشيف الأنظمة القمعية، مشهد البسطار لحظة الضغط على العنق من أجل إهانة الضحية بقصد الحصول على اعترافات منها، تضعها في موقع الاتهام والإدانة.
اللون في الزنزانة أسود، حيث يختلط الليل بالنهار نحو الحلكة التامة، كما أن عبارة "الضوء في نهاية النفق"، باتت فكرة فلسفية نافلة أمام تراكم حجم اليأس الجمعي.
في روايته "الأحمر والأسود" يختزل ستندال مأساة بطله "جوليان سوريل" في حيرته بين "نزوة الأسود" كرمز للكنيسة وأعرافها الغيبية، و"نزوة الأحمر" كدلالة على سطوة الإمبراطورية الفرنسية في القرن التاسع عشر، ما يضعه في متاهة بين تدرجات الأسود، وغموض الأحمر أو لون الدم.
في الكتابة يتجلى الأسود/الحبر، كتأكيد على إعلان فكرة وتوثيقها بانتقالها من الدماغ إلى الورق أو شاشة الكمبيوتر، فكل ما يسبق لحظة التدوين يبقى مشوشاً وضبابياً في مخزن الذاكرة. لعل فضيلة الأسود تكمن في عمل آلاف النسّاخين وهم يحرّرون المخطوطات، قبل أن تتولى المطابع صناعة الكتب.
هكذا استهلك تلاميذ ابن رشد مئات الصفحات في نسخ مخطوطاته التي نجت من المحرقة، والتهمت الحروب أطناناً من الكتب التي انتهت إلى رماد وفحم (كان آخر مشهد راهن، حرق مكتبة الروائي السوري ممدوح عزّام في السويداء)، ولكن مهلاً، ماذا بخصوص الصندوق الأسود؟
الأمر هنا لا يتعلّق بحوادث الطيران وكشف ملابساتها فقط، فلكلٍ منّا صندوقه الأسود الخاص به، واستحالة كشف معلوماته السريّة مهما ادّعى صاحبه الشجاعة. ففي مذكرات المشاهير ستبقى صفحات مطويّة يصعب الاقتراب منها أو كشفها إلى العلن، ذلك أن "تقشير البصلة" وفقاً لعنوان مذكرات الروائي الألماني، غونتر غراس، مهمة شبه مستحيلة. فالبياض إذاً، منطقة سرية متروكة جانباً، إذا لم يفضحها الأسود بحبر الحقائق.
من زاوية أخرى، يرمز اللون الأسود إلى حقبة تاريخية ما، حقبة مجللة بالسواد كمحصلة لصراعات دموية لم تسلم منها معظم الإمبراطوريات الاستعمارية التي يحتشد تاريخها بالقوائم السوداء. وفي المقابل، أحدث "عصر الأنوار" في أوروبا قطيعة مع إفرازات "ظلمات" القرون الوسطى بما تمثله من جهل وخرافة واستبداد، لمصلحة العقل والمعرفة والعلم، وتمجيد الحرية والمساواة.
رهافة قلم الفحم
في فضاء التشكيل، يكتفي بعض الرسّامين بقلم الفحم في إنجاز أعمالهم، كأن التقشّف اللوني إشارة إلى عمق مأساة البشرية المحاطة بالسواد، هذا ما نجده بإصرار في أعمال الإسباني فرانسيسكو غويا (1746 -1828)، التي أطلق عليها اسم "النزوات"، أو "الرسوم السوداء" حيث يتعانق الأبيض والأسود في علاقة جدلية صارمة تنطوي على هجاء لاذع للعنف والهلع من الموت، ونبوءات شرسة للقرن المقبل.
من جهته، يُخضع السوري يوسف عبدلكي أعماله لمشيئة قلم الفحم وحده، في رحلة ذهاب وإياب، وبطبقات وخطوط من الأسود والرمادي، مستغنياً عن الألوان الأخرى جرياً على عادته. إذ يعمل قلم الفحم على تشريح فجيعة الفقدان، وتأريخ المذبحة، وتالياً إحصاء الخسائر الروحية المحققة، سواء في رسم وردة أو بلطة أو سمكة مثبّتة بمسمار. ذلك أن رهافة قلم الفحم لا تتوقف عند بهجة الاكتشاف والرصد والمعاينة، إنما تحلّق عالياً في إعادة الاعتبار إلى الفراغ، والمراهنة على إضاءة الكتلة المركزية بخطوط صارمة ومتقشفة، تمنحها بريقاً إضافياً، وتكشف عن إيقاعاتها الداخلية، وإذا بأرشيف الأسى يزداد قتامة وثقلاً، عملاً وراء الآخر، في جناز طويل، لعالم قائم على الفزع والتدمير المنهجي للداخل، بإحالته إلى مجرد هيكل عظمي كان ينبض بالحياة قبل قليل.
الأسود سيحيلنا أيضاً إلى طائر الغراب كرمز للشؤم. هكذا أنجز فنسنت فان غوخ قبل رحيله بتسعة عشر يوماً لوحته المبهرة "حقل قمح مع غربان" (1890) كإشارة إلى إحساسه بنهايته القريبة، وسيستضيف كلود مونيه طيور الغربان في أحد أشهر أعماله الانطباعية، مصوّراً العلاقة بين ضوء الشمس وظلال الطبيعة بالأسود والرمادي، وهو بذلك أثبت مهارة استثنائية حين جعل الضوء باللون الأسود. وهو ما يتوافق مع مقولة هنري ماتيس "عندما لم أكن أعرف اللون الذي يجب أن أخمده، أضع اللون الأسود".
بالطبع، لن نهمل تجربة أحد أكثر الرسامين إخلاصاً للون الأسود، نقصد الرسام الفرنسي الراحل، بيار سولاج، الذي اشتغل طوال حياته على "تجسيد التحولات الضئيلة للون الأسود في مواجهة الضوء، حتى صار بمنزلة رمز للاشتغال الفني على السواد". وكان يردّد على الدوام قائلاً: "أعشق سلطة الأسود. إنه لون لا يقبل أي تسوية. لون شرس، يحثك رغم ذلك على الاستبطان. إنه اللون واللالون في الوقت نفسه. عندما ينعكس الضوء على الأسود، يغيّره هذا اللون ويحوّله. إنه يفتح مجالاً ذهنياً خاصاً به وحده".
ويضيف "أحب سلطة هذا اللون ووضوحه… وتطرفه، إنه لون نشط جداً. لو وضعنا الأسود قرب لون قاتم، لأصبح مشعاً".