قصص "عناقيد العطش": لم أرَ دماراً في الضاحية بل جباه عالية شامخة
مجموعة "عناقيد العطش" ليست كتابة براعات فنية، واستبطان للشهوات والنوازع، أو السير في الدروب الضليلة والشواغل الدنيوية، وإنما هي كتابة لسير أهل الحق الذين مشوا في دروب الحق، فضحوا بأرواحهم من أجل أن يبقى تراب الوطن طاهراً.
-
قصص "عناقيد العطش" للدكتور علي حجازي
لا شيء يعاند الفطرة الإنسانية، فحيثما وُجد الظلم وقرّ، نهض الروح الإنساني من أجل المقاومة والمحو لكل صوره وأشكاله، وإعادة الحياة إلى دورتها الطبيعية بصباحات وآمال عريضة، ومساءات هانئة ترنخها الأحلام، وبينهما تجول ثقافة العمل والعمران والتعب الجميل والحذق!
ثنائية قائمة في حدّها الأول على الطمع والقوة وبواعث الشر، ومن بعدها الأحزان وقد انتشر الدمار والخراب، وكثر الفقد، وتغيرت جغرافية الأمكنة وأزيحت، وتلاشت وظائفها، فالبيوت الآمنة ما عادت آمنة، والحقول التي يحرسها أبناء التعب ما عادت حقولاً، والدروب المأنوسة بالكلام الرضي صارت دروباً للوحشة والخوف، والحد الثاني لهذه الثنائية، وقت شيوع الظلم، قائمة على جسارة الروح البشري على المقاومة، والمواجهة، والاشتباك، والمطاردة بكل الصور والأساليب، وما تسنبته النفوس من عزائم لتفتيت القهر والحد من اندفاعاته الرجيمة.
أقدم بهذا السطر الطويل، لأتحدث عن قصص الكاتب اللبناني، ابن الجنوب اللبناني الدكتور علي حجازي التي جاءت في كتابه القصصي "عناقيد العطش" الصادرة عن دار الفارابي في عدة طبعات، والتي تواقف في تظهيرها فترات متعددة من أحوال المقاومة التي عاشها أبناء جبل عامل وهم يواجهون الصلف الإسرائيلي منذ عشرات السنين حتى اليوم، والذي غدا جزءاً من حياتهم المَعيشة، مثلما غدا ثقافة كل بيت من بيوتهم، ومدرسة، وقول، وكتاب، ونهج في الجنوب اللبناني لأن الظلم الإسرائيلي، وهمجيته قوته وعربدته، والسكوت العالمي المشين عليه بات حالاً حاضرة لا تردعها الأعراف ولا القوانين الدولية، ولا القيم الإنسانية، ولا ما نصت عليه العقائد السماوية.
ومنذ القصص الأولى لهذا الكتاب (عناقيد العطش) يشعر القارئ بأن القصص قائمة على هذه الثنائية التي أوجدها الظلم الإسرائيلي: الخراب والدمار والقتل من جهة، والمقاومة الشعبية التي عرفها كل بيت جنوبي لرد الأذرع الإسرائيلية وطيها، ولجم عربدة الفكر الإسرائيلي المنادي بالسيطرة على المنطقة وإلحاقها بنفوذه، ونشر ثقافة الإخافة واليأس والخنوع والاستسلام من جهة أخرى. كما يشعر القارئ بأن الكرامة الإنسانية والكبرياء والوطنية، وعشق التراب، ومعرفة تاريخ جبل عامل برجاله وثقافته وعقائد أهله حاضرة في كل سطر من سطور هذه القصص، فالكتابة هنا، في مجموعة (عناقيد العطش) ليست كتابة براعات فنية، واستبطان للشهوات والنوازع، أو السير في الدروب الضليلة والشواغل الدنيوية، وإنما هي كتابة لسير أهل الحق الذين مشوا في دروب الحق، فضحوا بأرواحهم من أجل أن يبقى تراب الوطن طاهراً، وحدوده آمنة، وبيوت أهله معمورة بالعزة الآبدة مهما اشتدت صولات الظلم، ومهما عصفت رياحه المسمومة.
كل قصة من قصص الدكتور علي حجازي في مجموعة (عناقيد العطش) هي حديث بهّار بمعاني المقاومة، وهي تحقيب لأفعال المقاومة التي حالت بين العدو واحتلال الأرض، ومصادرة حرية الناس، وشل قدراتهم وهم الطامحون لتصير حقولهم مواسم، ولتصير مدارس أبنائهم جهة لتخليق القيم الإنسانية السامية التي لا ترضى بالاستكانة والسكوت على الظلم، ولتصير حياتهم عزيزة، ولا عزة لأحد تحت سقف الظلم والإرهاب كما قال تاريخ أهل جبل عامل.
قصة "عناقيد العطش" التي هي واحدة من قصص المجموعة، تدور حول مجرزة (قانا) في الجنوب اللبناني (1996)، فتقص أخبار البلدة وهي تحت زخ القنابل والصواريخ الإسرائيلية، ومعايشة وجوه الخوف التي عرفتها النساء مثلما عرفها الشيوخ والأطفال من جهة، وعزوم المواجهة والجسارة التي لم يتوقعه الإسرائيليون من جهة أخرى، ولجوء بعض الأسر الجنوبية، بعد أن دمرت بيوتها واحترقت، إلى مقارّ الأمم المتحدة، وبعد أن عم الخراب والبطش الاسرائيليان دروبهم وطرقهم، و بعد أن هدمت مشافيهم ومدارسهم، ودور عبادتهم، والأدهى هو أن الهمجية الإسرائيلية لحقت بهم إلى تلك المقارّ الأممية، فقتلتهم أطفالاً ونساء وشيوخاً وبدم بارد، من دون أن تحسب أي حساب لأي بعد دولي أو لأي شرائع قانونية أو لأي معايير إنسانية! تصف القصة قصف الطائرات الاسرائيلية لقرية (قانا)، قصداً، بقنابل النابالم الحارقة، ثم قصفها مقارّ الأمم المتحدة، وتدميرها فوق رؤوس الأطفال والشيوخ والنساء الذين لجأوا إليها أمام كاميرات الصحافيين العرب والأجانب، وذيوع أخبار المجزرة في جميع أنحاء العالم، ولاسيما العالم الغربي الذي يزود الكيان الإسرائيلي بكل اسباب القوة، ومنها السكوت عن جرائمه ومجازره الدموية الرهيبة في الجنوب اللبناني. وعلى رغم الدم، والخراب، وتدمير البيوت، وإماتة الحياة وشلها، فإن المجتمع الدولي لم يفعل أي شيء سوى قولته الباهتة الباردة: ندعو الأطراف إلى ضبط النفس، وإعادة الهدوء للمنطقة. وتقف القصة متلبسة لتصف للعالم الأعمى أمرين إثنين هما: ثبات أهل بلدة (قانا) وشجاعة رجالها في الدفاع عنها بالبسالة التامة. والأمر الثاني هو الكذب الإسرائيلي المفضوح بأنه قصف المقارّ الأممية بالخطأ، ثم سنرى، بين تضاعيف القصة، وجوه ادعاء الإسرائيليين بأنهم حققوا نصراً مزعوماً.
في هذه القصة يبدي الدكتور علي حجازي مقدرة أدبية فذة لتصوير الأحداث بعين نافذة، ووصف دقيق، ومتابعة عارفة بالمكان، واستبطان مشاعر الأهالي الذين ما رغبوا في مغادرة القرية على رغم كثرة الغارات، وكثرة القنابل، وإحراق البيوت، لأن قرارهم كان وسيبقى: لا ترك للبيوت حتى لو دمرت وأحرقت، وأن لا خنوع أو استسلام لقوة الاسرائيلي مهما كانت باطشة، وأن دروب (قانا) ستكون مقبرة لدباباته وجرافاته، ومقبرة لجنوده الذين يقاتلون من خلف جدر الحديد، مثلما حدث في قرى الجنوب الأخرى: كفر كلا، ومارون الراس، والعديسة، والخيام، وأن لا أمن ولا أمان للإسرائيليين في قرى الجنوب وبلداته، فهذه القرى والبلدات لأهلها، وهم وحدهم من يعرف معاني الأمن والأمان.
قصة (عناقيد العطش) لوحة لبطولة الأهالي في الجنوب اللبناني، وتضحياتهم، وعنادهم الوطني المكين عموماً، كما أنها لوحة نضالية تصور مقاومة أهالي (قانا) العزل للقوات الإسرائيلية التي همت باحتلال البلدة، وإسكات صوت المقاومة فيها خصوصاً! وهي أيضاً لوحة تاريخة تصور صمود أبناء جبل عامل عبر سيرورة زمنية من المقاومة عرفها الأجداد والأباء والأبناء. وها هم الأحفاد يتذوقون طعومها، طعوم الكبرياء والعزة، وهم يرون المحتل الإسرائيلي يجر ذيول الخيبة والاخفاق.
قصة (عناقيد العطش) للدكتور علي حجازي ليست قصة لتصوير الواقعة والمواجهة بين أهالي (قانا) والقوات الإسرائيلية، وما نتج منها من تعزيز روح المقاومة لدى رجال المقاومة من جهة، وخذلان القوة الإسرائيلية واندحارها من جهة أخرى فحسب، وإنما هي أيضاً كتابة بالعناد الوطني لمواجهة الحق للباطل، وتأبيد قوة الحق على رغم ضعف الإمكانات المادية المتوافرة، وخذلان الباطل على رغم أنه مدجج بفائض القوة. إنها كتابة ذات بعد تاريخي ليعرف الأبناء، حين تمر السنون، بطولات الآباء والأجداد، وحبهم للأرض، واعتزازهم بالهوية، وفهمهم معاني الوطنية، وايمانهم الحقاني بالعقيدة القائلة إن البيت هو الوطن، والوطن هو البيت، والتراب هو الطهارة، ولا أحذية خشنة نجسة تطأه أو تعبره، ولا قوة، أياً كان شأنها، تقر فيه أو تقيم.
هذه القصة "عناقيد العطش" جاءت رداً على عنوان الحملة الإسرائيلية التي أرادت اجتياح قرى الجنوب وبلداته تحت مسمى "عناقيد الغضب" فكان عنوانها "عناقيد العطش".. العطش إلى المقاومة حافظة الكرامة والكبرياء والعزة الوطنية، وحافظة الأرض والتاريخ والعقيدة من أي مس جهول أعمى عابث. وهي العطش إلى ديمومة الحياة الإنسانية، أما "عناقيد الغضب" فهي انفعال ضلالة، وقوة عمياء. لا تعرف معنى من معاني الإنسانية، إنها "عناقيد الظلم" المسموم ليس إلا.
صحيح إن هذه القصة علامة وهاجة في هذه المجموعة، لكن الصحيح أيضاً هو أن القصص الأخرى هي علامات وهاجة أيضاً، ففي قصة "لم تبصر دماراً في الضاحية" سرد حيوي لما أرادت الصحافية الرومانية "آلينا" أن تقوله وتسجله عن حياة الناس في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت خلال حرب الأيام الثلاثة والثلاثين (عام 2006). لقد كتبت عن الدمار الذي لحق بالضاحية، والحرائق التي لفتها، فطالت كل نبيل، وعن الحياة الصعبة التي عاشها أهالي الضاحية وهم يبحثون عن ملجأ أو مأوى أو طعام أو دواء، وقد هدمت البيوت، وغاب الطعام والماء، فجاع الأطفال، وكثرت أعداد الجرحى، مثلما كثرت أعداد الشهداء. لقد كتبت الصحافية الرومانية "آلينا" ما قاله الأهالي، وهم يعيشون تحت القصف، بأنهم اعتادوا وحشية الإسرائيليين، واعتادوا تدميرهم للبيوت والمدارس والمعابد، ولكنهم ما اعتادوا الخوف لأن ما يؤمنون به أقوى من الخوف، وأن الفارق شاسع بين الكبرياء والذلة، وأن النصر لهم في الخاتمة، وهذا ما اعتادوه وعرفوه وعاشوه واقتنعوا به في كل المرات السابقة.
يسأل الآخرون الصحافية الرومانية "آلينا" عن الدمار في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، وكيف شعرت، وهي تراه يطال كل شيء من العمران، فتقول: كنت أنظر إلى رؤوس أبناء الضاحية الجنوبية وجباههم العالية الشامخة الناظرة نحو السماء، لذلك لم أرَ دماراً في الضاحية.
أما القصص الأخرى التي انصرفت إلى كتابة سِيَر الشهداء في مجموعة "عناقيد العطش" للدكتور علي حجازي فهي الأوفى، وهي أشبه بالنور الإلهي الذي يرافق وجوه الشهداء، وإلا فلماذا تبدو نقية صافية وهاجة على رغم الدماء والجروح والغبار، ولماذا يقبل عليها الأهلون بكل المهابة والخشوع ليقبلوا الوجوه والأيدي والجباه والجروح!
قصص الدكتور علي حجازي في كتابه "عناقيد العطش" تحكي أيضاً عن لحظات التحضير للمواجهة والاستعداد الدائم للاشتباك والمواجهة مع العدو الإسرائيلي، مثلما تحكي عن لحظات المواجهة والمقاومة والعزيمة والجرأة في زرع الألغام في طريق الدبابات الإسرائيلية، وعن لحظات تمترس المقاتلين، وهم يحملون البنادق وأسلحة الـ (R.B.J)، في زوايا الدروب والطرق، بكل الشجاعة والحمية، وهم على بعد أمتار عنها فقط، ثم تصف القصص مشاهد الاشتباك، وصراخ الجنود الإسرائيليين، وما يقابلها من تكبيرات، ونداءات عالية توصي بالثبات والإقدام، وقصص أخرى تحكي عن وداع الأهالي (الآباء، والأمهات، والأبناء، والزوجات).. للشهداء، وتلك الحال الجليلة التي تلف الجميع، والمهابة والقداسة لأرواحهم التي ارتقت وهي تدافع عن البيت، والحقل، والمدرسة، والمستشفى، والمعبد، والعقيدة، والقيم، والأبناء، الذين سيكتبون سير الآباء بكل الفخر والاعتزاز.
"عناقيد العطش" قصص مقاومة نادرة وباسلة للظلم الإسرائيلي، وقصص تسرد التاريخ المشرف المحفوظ في الذواكر لأبناء جبل عامل وهم يدافعون عن أرضهم، وبلداتهم، وقراهم، ضد كل غازٍ، بصفته دفاعاً عن العقيدة، وبصفة المقاومة صيغة عيش كريمة، تقابل صيغة الهمجية والتوحش اللذين يعيشهما العدو الإسرائيلي.
قصص الدكتور علي حجازي مجدولة من روح المقاومة ومعانيها السامية، وهي تكتب عن بطولات الأجداد والآباء ليعي الأبناء اليوم أن العدو الإسرائيلي ما زال يعيش طي طباعه الأفعوانية منذ أن وجد كما يجب أن يتنبهوا لممارساته الوحشية ويحذَروها، فأهل الجنوب اللبناني ما زالوا يعيشون ما تعلموه من أن المقاومة عبادة، وفعل خير وحق وجمال، وما آمنوا به، بأنّ مقاومة الظلموت الإسرائيلي هي عقيدة.