"قضية 74".. النكبة وحكايات الوعي

جاء عرض "قضية 74" عملاً فنياً يعتمد على جمالية واقعية جاك لوكوك، ويجسد النكبة الفلسطينية وأثر الاحتلال على الفلسطينيين  منذ 74 سنة.

تحت عنوان "قضية 74" قدمت "الجامعة العربية الأميركية" في جنين عرضاً مسرحياً أداه طلابها، يتكون حصيلة ورش تمكين طلبة الجامعة من خلال الدراما، وذلك ضمن مشروع الحاضنة الثقافية "يلا فن" لـمسرح القصبة، بالشراكة مع "مؤسسة دروسوس السويسرية"، وتنفيذ "مسرح الحرية".

هكذا جاء عرض "قضية 74" عملاً فنياً يعتمد على جمالية واقعية جاك لوكوك، الجامعة ما بين التجربة والأنتروبولوجيا، والمهتمة بكسر مفهوم الفضاء المسرحي التقليدي، ملتزمة باعتبار المسرح ممارسة اجتماعية سياسية تسائل الخطاب المهيمن وهياكل السلطة على اختلاف أنواعها.

وتناولت المسرحية التي أخرجتها رنين عودة النكبة الفلسطينية وأثر الاحتلال على الفلسطينيين  منذ 74 سنة. ففي كل يوم يتعرض الشعب الفلسطيني للتهجير والقتل وسرقة البيوت، وفيها تظهر أيضاً استمرار معاناة الطلبة الفلسطينيين، الذين سنعرف بعض قصصهم من خلال ما تبوح به شخصيات المسرحية.

تطوف بنا الصور على مدى 30 دقيقة لنقلّب 8 وجوه ملونة بالحنطة، بيضاء وسمراء. ربما هو غبار الأرض، ترابها، وأنين القصص. 8 وجوه حملت أكثر من مجرد تجارب وقصص فردية، حيث أدى بعضهم أدواراً مزدوجة، وعكسوا أكثر من صورة، وطافوا في أكثر من زمن.

هكذا تروي لنا الشخصيات حكاية الألم الفلسطيني المرير منذ بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وصولاً إلى الوقوف أمام البوابات الحديدية والسواتر الترابية على حواجز الاحتلال، للوصول من منازلها إلى الجامعة ضمن حدود الضفة الغربية المحتلة وما تخضع له من تقسيمات (مناطق أ، ب، ج).

"قضية 74"، رغم أني في البداية ظننت أن العرض سيحمل في طياته نقاشاً قضائياً لقضية ما تحمل الرقم 74، لكني اكتشفت أنها 74 عاماً تقف بين اللاجئ الفلسطيني وبين حق العودة. 74 عاماً على النكبة. أمضغ فهمي الجديد للعنوان كما فُسّر لي. أفكر. بالكاد استطيع أن أمضغ ألمي الخاص في نهار عادي، وأجد الحروف والكلمات تتلعثم في جدار حلقي، ولا تخرج، فكيف لألم بلاد مرير أن يسكن بعبئه الثقيل في روح هذا العرض. أي وجع هذا وأي مكابدة للألم؟ 

الأصوات، الموسيقى، الحركة العبثية، الألم، والبحث المضني عن الهوية كان يعيد لي على مدار زمن العرض المسرحي أطياف رواية غادة السمان "سهرة تنكرية للموتى": "إني خائف، خائف. ربما لأن طائرة بيروت من ضباب، وقدرها من ضباب، ورأسي كله من ضباب. ولعل الضباب يتدفق من عيني وأذني وفتحتي أنفي وفمي وثيابي. ربما كان من الأفضل لي فتح جرحي قطبة بعد أخرى والاعتراف بخوفي لنفسي".

العمل الروائي قدم قصصاً لشخصيات لا تربطهم ببعضهم البعض إلا المدينة" الهوية" بيروت، ويقدم النص المسرحي أيضاً قصصاً لشخصيات تجمعهم الهوية "فلسطين"، وكأن هذا العمل يصغي لنصيحة الراوي في تلك السهرة التنكرية،  يفتح جراحه قطبة قطبة أمامنا نحن الجمهور.

تقدم الحكاية المسرحية عبر صوت كلاسيكي قديم يعيد لنا "إذاعة صوت العرب"، وأصوات الشتات والاغتراب واللجوء والبحث المضني عن طريق العودة. ليس اللجوء فحسب، بل حمل صوت الصبية "العجوز" ذكريات حبها المبتور، ورسائلها النائمة حتى الآن تحت صخرة. رسائل ما زالت حتى الآن في انتظاره، لم تمر عيناه فوق الرسائل، لم يقرأ كلماتها. كانت المسافة قصيرة إلى التلال، إلى فيء الزيتونة، لكنه ما زال في الطريق.

بموازاة كلاسيكية اللجوء هناك "حكاية الحب المبتورة". حيث تروي المسرحية سرديات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وفي استحضار الزمن الفائت بصورته، فإن العرض يستحضر وعي اللحظة الحالية، ويتلبس شخوصه الماضي، فنجدها تتحدث عن اليهود المهاجرين بندية ورفض، رغم أن التنبه لخطر هذه الهجرات التي سبقت النكبة بأعوام طويلة كان فعل الخاصة لا العامة.

كما تناول العرض الارتباط بين الأردن وفلسطين، وكيف كان كل منهما امتداداً تاريخياً للآخر. 

ولعل من الملاحظات على العرض اعتماده لغة واحدة مع أنه يحاكي أزمنة مختلفة، وهذا قد لا يتوافق مع صيرورة القضية الفلسطينية، فلغة اليوم مغايرة عن الأمس ولكل فترة دلالاتها. 

علماً أن الطلاب "أصحاب النص" حاولوا تجسيد المعاناة من الاحتلال بالحواجز وجدار الفصل العنصري والاستيطان، علماً أن مشكلة فلسطين والفلسطينيين هي الاحتلال ذاته وليس ما يصدر عن الاحتلال. 

وشمل العرض حكايات أخرى ظهرت في جو العرض بصورة ناشزة، رغم أنها حكايات تنتمي إلى المجتمع، لكنها بدت خارج السياق. إذ تجولت شخصية وألقت بأسلوب خطابي حكايتها الخاصة معبرة عن ازدراءها للعنصرية والقبلية والتجزئة والتفرقة.

يذكر أن العرض شارك فيه كل من: ابراهيم براهمة، بهاء الدين ابداح، رنين داوود، شانتال رزق الله، محمد عبد الله، مريم عبيد، نقاء سمور، يحيى مرعي.