كلنا موسيقيون ولكن

قد يكون من الصعب أن نصنع فناناً مبدعاً في المنزل، لأن ذلك له أسباب وشروط كثيرة. لكن من السهل أن نصنع موسيقياً، ونحن قادرون على محو الأمية الموسيقية.

المهارات عند الأطفال عموماً، والمهارات الموسيقية على وجه الخصوص، تتباين في ظهورها من طفل إلى آخر. لكن، مع ذلك، فإن معالم التطور في الظروف الطبيعية تبدأ بالظهور ضمن سياق متصل قابل للتنبؤ. وهذا يتم عبر مراحل تطورية أساسية، تنقسم بحسب نظرية العالِم النفسي السويسري، جان بياجيه، إلى 4 مراحل أساسية هي: مرحلة النمو الحسي الحركي، ومرحلة ما قبل العمليات، ومرحلة العمليات الملموسة، ومرحلة العمليات الرسمية.

فالطفل في عمر يومين مثلاً، يستطيع تمييز صوت من آخر، ويحاول متابعة مصدر الصوت، وينتبه للمتغيرات الإيقاعية. وهو خلال المرحلة الأولى من تطور المهارات الموسيقية (مرحلة النمو الحسي الحركي)، يبحث عن المثيرات الحسية وينتبه انتقائياً للمثيرات الموسيقية، مثل انثناءات صوت الأم في أثناء تهويدات النوم والترانيم والإيقاعات.

هكذا تتطور المهارات الموسيقية، وصولاً إلى المرحلة الأخيرة (مرحلة العمليات الرسمية)، والتي يتطور فيها التفكير التجريدي، بحيث يمكن للشخص فهم بعض الجوانب الفلسفية في مقطوعة موسيقية معينة.

أكدت التجربة في كل أنحاء العالم صحة الفكرة المستخلصة من هذه النظرية، وأثبتت مجموعة من الأبحاث ضرورة التعليم الموسيقي في سن مبكرة، مشيرة إلى أن الأجنّة في الثلث الأخير من الحمل يمكنها حفظ مقطوعة موسيقية معينة، ويكون لهذا الحفظ أكبر الأثر فيما بعد، أي في العملية التعليمية، وبأسلوب يتلاءم مع قدرات الطفل.

كل الأطفال موسيقيون.. ولكن

الفرق بين الموسيقي وغير الموسيقي هو احتمالات بيئية تتيح للبعض المضي في تطوير مهاراته الموسيقية المتخصصة، بينما تعوّق البعض الآخر عن بلوغ هذه المرحلة.

قد يظن البعض أن لا مشكلة في عدم توافر الحد الأدنى من المهارات الموسيقية المتخصصة عند جزء كبير من الناس، لكننا، بالتدقيق، سنجد أن الأمر أخطر كثيراً مما يبدو، بسبب ما تتميز به الموسيقى من دور هائل في تطوير المجتمعات واحتضان الثقافة والفكر والهوية لشعب معين.

يحدث في مجتمعاتنا العربية أن يتوجه الناس إلى تعليم أولادهم الموسيقى والغناء، لكن يحدث هذا غالباً في سن التعليم الرسمي، وقد يتأخر إلى ما بعد تلك السن بكثير، في تجاهل خطير لحقيقة بدء التعلم السمعي منذ الشهر السادس للحمل، مع العلم بأن كل هؤلاء يتوقفون عن متابعة تعلم الموسيقى خلال الدراسة لاهتمامهم الأكبر بالمواد العلمية.

وبالنظر إلى الأهمية الكبيرة للتعليم الموسيق، ابتكرت الشعوب مناهج وأساليب تشترك جميعها بتعليم الموسيقى في سن مبكرة، وتوسل المتعة، ومشاركة الطفل في الأنشطة الموسيقية الجماعية لترغيب الأطفال بالمضي في هذا الطريق. كما تشترك أيضاً في المجالات التي يتناولها التعليم كالغناء وتربية الذوق الموسيقي والحس الإيقاعي والتعرف على الآلات الموسيقية.

من جهة أخرى، تتباين تلك المناهج من حيث خصوصية كل مجتمع، كالتوجه العقائدي والفلسفي والبنية الاجتماعية والآلات المستخدمة.

على سبيل المثال، جسّد منهاج الهنغاري سلطان غودالي الهوية القومية باستخدام الأغاني والألحان التراثية في التعليم الموسيقي، ويشكل منهجه قاعدة التعليم الموسيقي الأساسية ومحاربة الأمية الموسيقية في البلاد.

أما في ألمانيا، فظهر منهاج الموسيقار كارل أورف، الذي يعمل على على المزج بين الحركة الجسدية والإيقاع كما يحدث في الرقص، وإدخال المفاهيم الموسيقية الأولية بالتوازي مع اللعب و المتعة من خلال استخدام آلات موسيقية كالأوكسيلوفون والميتالفون والغلوكنوسبيل.

ثم في اليابان، حيث ابتكر شينيتشي سوزوكي أهم مناهج التعليم الموسيقي التي غزت العالم الغربي لاحقاً، وهو نهج تعليمي يربط بين مفهوم الموسيقى الأم واللغة الأم من حيث تلقائية اكتسابها عند الطفل، مع تشجيع الارتجال والتشكيل بشكل طبيعي جداً.

وهنا، لا يمكننا إغفال المدرسة التقليدية العربية التي أنتجت عمالقة في الفن والطرب والعزف تخرجوا من مدارس تلاوة القرآن الكريم ومدارس الإنشاد الديني في الكنائس العربية. فقد اعتمدت هذه المدارس على السماع الطبيعي المبكر للأنشطة الموسيقية المرتبطة بالطقوس الدينية والاجتماعية، ولقنت التلاميذ المبادئ الأساسية في ذلك. بالإضافة إلى وجود كثير من المناهج في العالم التي تختلف وتتفق مع المناهج المذكورة في تفاصيل كثيرة مثل طريقة دالكروز، وطريقة جوردون، وطريقة أونيل، وطريقة كوروين.

لم تتخذ الجهات العربية المعنية بالتعليم منهجيات واضحة ومحددة في شأن التربية الموسيقية، مع لحظ تراجع أولوية التعليم الموسيقي والفني في مدارسنا نتيجة التخلف الإداري عند جزء لا بأس به من طاقم القائمين على التعليم والثقافة في الدول العربية، الأمر الذي جعل عبء التعليم الموسيقي ملقى على عاتق الأسرة في الدرجة الأولى.

وهنا لا بد من التذكير دائماً بأن الهوية والانتماء هما الأساس الذي قامت عليه كل المناهج العالمية المذكورة أعلاه. وهذا يضعنا مباشرة أمام المبدأ التعليمي الرائع الذي تحدث عنه سوزوكي، والمتمثل بالتركيز على فكرة الموسيقى الأم وربطها بفكرة اللغة الأم. فاللغة الأم لغة تفكير وتطوير الدماغ البشري تسمح له بترجمة كل الأفكار التي تُقدَم له بلغة أخرى وإدماجها في البنية المعرفية لكل شخص.

ويعلم المتخصصون بعيوب اللغة والكلام (SLP) أهمية التشويش والفوضى اللغوية في مرحلة تطور اللغة عند الطفل من عامين إلى 5 أعوام، إذ يؤثر ذلك في كل المناحي التطورية العقلية والنفسية والتواصلية. وهذا بالضبط ما يحدث في مجال الموسيقى الأم، ويلاحظه أساتذة الموسيقى في عصرنا، بحيث يأتي طالب الموسيقى بهوية موسيقية مشوشة، تائهاً في عالم البدع الهجينة والشاذة والمؤذية، ورافضاً للموسيقى العربية التي تشكل بوابته الأساسية لأي موسيقى في العالم.

قد يكون من الصعب أن نصنع فناناً مبدعاً في المنزل، لأن ذلك له أسباب وشروط كثيرة. لكن من السهل أن نصنع موسيقياً، ونحن قادرون على محو الأمية الموسيقية.