كيف تشكل "BBC"الأحداث بلغة خادعة؟

تعتبر غزة أكبر سجن مفتوح في العالم ففيه يتكدس أكثر من مليوني إنسان في مساحة لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربّعاً، بلا ممرات للهروب، ولا حتى أمل في الانعتاق.

  • حرب السرديات: حين تصبح الكلمة سلاحاً
    حرب السرديات: حين تصبح الكلمة سلاحاً

اتخاذ موقف مهني في الصحافة قد يكون ضرورة، وهذا ما جسّده الكاتب والصحافي التونسي بسام بونني باستقالته من BBC احتجاجاً على انحيازها في تغطية العدوان على غزة. لم يكن قراره مجرّد ردّ فعل، بل امتداداً لرؤيته حول التلاعب الإعلامي، وهو ما تناوله في كتابه "عبارات الطوفان: حرب الكلمات والسرديات"، حيث كشف كيف يُعاد تشكيل الأحداث بلغة خادعة تحوّل الضحية إلى متهم والمستعمر إلى "صاحب حقّ تاريخي".

الكتاب، الصادر عن منشورات نيرفانا، يأتي بتقديم من الدكتور مصطفى البرغوثي، السياسي والطبيب الفلسطيني المعروف، وأحد أبرز الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. البرغوثي، الذي عاش تفاصيل الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي عن قرب، يرى أنّ هذا العمل ليس مجرّد توثيق للأحداث، بل معركة قائمة بذاتها، حيث لا تقلّ أهمية السيطرة على السرد عن السيطرة على الأرض.

منذ عقود، لم تكن الحرب في فلسطين تُخاض فقط بالرصاص والقذائف، بل بالكلمات والمصطلحات. تكفي مقارنة بسيطة بين التغطية الإعلامية الغربية للقضية الفلسطينية وبين ما يحدث فعلياً على الأرض، لنجد أنّ ثمّة فجوة هائلة بين الواقع والرواية الإعلامية المهيمنة. "إسرائيل" لا تترك شيئاً للصدفة؛ كلّ مصطلح، كلّ تصريح، كلّ مشهد يُعاد تدويره ليخدم خطابها الرسمي. هكذا يتحوّل "الاحتلال" إلى مجرّد "نزاع"، و"التطهير العرقي" إلى "إعادة تموضع ديموغرافي"، والمجازر إلى "أعمال دفاعية".

غزة: السجن المفتوح وسردية الاحتلال

يفتتح بونني كتابه بمشهد مأساوي من غزة، حيث يُنتشل الأطفال من تحت الأنقاض، بينما يُعاد تشكيل الحقيقة ليُطلب من الفلسطيني تبرير موته، في معركة سردية لا تقلّ شراسة عن الحرب نفسها.

يروي بسام بونني حكاية غزة كما لم تروَ من قبل، متجرّداً من الزوايا العاطفية التي كثيراً ما تُغرق القضية في بحر من الشعارات، ومتشبّثاً بالوثائق والشهادات الرسمية التي تعرّي الواقع. فالحقيقة، كما يعرضها الكتاب، أكثر قسوة من أيّ سردية إنشائية. في كلّ تقرير حقوقي، من هيومن رايتس ووتش إلى تقارير الأمم المتحدة، تتكرّر عبارات مثل "العقوبات الجماعية"، "التجويع كأداة حرب"، و"إدارة السكان بالقوة"، في وصف ما يحدث داخل القطاع منذ أكثر من سبعة عشر عاماً.

لكن بونني لا يتوقّف عند التوثيق الحقوقي، بل يتتبّع جذور الكارثة، حيث يكشف كيف تحوّل قطاع غزة، الذي كان يوماً ما ملتقى حضارات ومستعمرة تجارية، إلى أكثر بقاع العالم عزلةً. فمنذ سقوط الحكم العثماني، كانت غزة دائماً قطعة الأرض التي يراد التخلّص منها: البريطانيون وضعوها تحت انتداب فاتر، المصريون حكموها من دون استثمار حقيقي، ثم جاء الاحتلال الإسرائيلي بعد 1967 ليحوّلها إلى ساحة تجارب لمختلف أدوات الحصار والقمع، من الضربات العسكرية إلى التجويع الاقتصادي.

يدحض الكتاب الرواية الإسرائيلية التي تُسوّق "الانسحاب من غزة" عام 2005 بوصفه خطوة نحو السلام، ويعرض الأدلة التي تكشف أنّ ما جرى لم يكن سوى إعادة هيكلة للاحتلال. إذ لم تغادر "إسرائيل" القطاع، بل حوّلته إلى مختبر للتحكّم السكاني، تحاصره من البر والبحر والجو، وتتحكّم بكلّ شيء: من الكهرباء والمياه إلى الغذاء والدواء. هكذا باتت غزة، كما تصفها المنظّمات الدولية، "أكبر سجن مفتوح في العالم ـــــ "سجن يتكدّس فيه أكثر من مليوني إنسان في مساحة لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربّعاً، بلا ممرات للهروب، ولا حتى أمل في الانعتاق.
الضفة الغربية: عندما يصبح الاحتلال سياسة أمر واقع

في الضفة الغربية، يفتح بونني نافذة على وجه آخر من وجوه الاحتلال، حيث لا يحتاج القمع إلى قصف مكثّف أو حصار خانق، بل يكفيه التوسّع الاستيطاني وفرض واقع جديد على الأرض. فكما يكشف الكتاب، لا تحتاج "إسرائيل" إلى إعلان ضمّ رسمي للضفة، لأنها ببساطة تفعل ذلك بشكل يومي عبر توسيع المستوطنات، وهدم المنازل، وتجريف الأراضي، وتهجير الفلسطينيين، في خرق واضح للقانون الدولي، من دون أن يترتّب على ذلك أيّ عواقب.

يتناول بونني كيف أصبحت "جريمة الحرب"، كما تصفها الأمم المتحدة، سياسة ممنهجة لـ "إسرائيل"، حيث يتضاعف عدد المستوطنات بشكل مستمر، ما يجعل أيّ حلّ سياسيّ ممكن مجرّد وهم. فحين يتحدّث الساسة عن "حلّ الدولتين"، تكون الجرّافات الإسرائيلية قد استبقتهم بتحويل الضفة إلى كتل متناثرة من المعازل الفلسطينية غير القابلة للحياة. إنها ليست حرباً تقليدية، بل عملية إعادة هندسة ديموغرافية، حيث يُجبر الفلسطيني على الرحيل من دون الحاجة إلى طرده بقرار رسمي.

في فصل "Do You Condemn Hamas?"، يتناول بونني واحدة من أكثر أدوات السردية الإسرائيلية خطورة: الابتزاز الأخلاقي. إذ يكشف كيف يتمّ تكرار هذا السؤال، ليس بدافع معرفة موقف الفلسطينيين من حماس، بل كاختبار ولاء ضمنيّ يُفرض عليهم. فبمجرّد رفضك الإدانة، يتمّ تصنيفك كمتواطئ مع "الإرهاب"، وإن أدنت، فأنت تساهم في إعادة صياغة الصراع وفق المنظور الإسرائيلي الذي يجعل الفلسطيني هو المسؤول الأول عن عنفه، بينما تمرّ الجرائم الإسرائيلية من دون حساب.

بونني لا يتهرّب من الأسئلة الصعبة، بل يواجهها بوضوح. فهو لا يقدّم تبريراً لكلّ أفعال المقاومة، لكنه يضعها في سياقها التاريخي والسياسي، مؤكداً أنّ "إسرائيل" تستخدم مصطلح "الإرهاب" ليس كمفهوم قانوني، بل كسلاح سياسي، يُستخدم حصرياً ضدّ الفلسطينيين، بينما تُصنّف كلّ أفعال "الجيش" الإسرائيلي، حتى المجازر، ضمن "حقّ الدفاع عن النفس".

يرى بونني أنّ هذه الازدواجية في المعايير ليست عشوائية، بل هي جزء من هندسة الخطاب الغربي، حيث يصبح أيّ تعبير عن التضامن مع الفلسطينيين تهمة تجرّ صاحبها إلى الملاحقة، بينما يظلّ القتل الإسرائيلي أمراً روتينياً لا يُثير حتى استفساراً إعلامياً جاداً. في النهاية، المشكلة ليست فقط في أفعال "إسرائيل"، بل في منظومة دولية تغضّ الطرف عنها، وتعيد إنتاج خطاب يجعل الضحية هي من يجب أن تبرّر وجودها، بدلاً من مساءلة الجاني عن جرائمه.

يكشف بونني، عبر تحليل دقيق، كيف استغلّت "إسرائيل" هذا الحصار لإعادة تعريف المفاهيم الأساسية في الصراع. فلم يعد القصف "عدواناً"، بل "إجراءً أمنيّاً"، ولم يعد قتل الأطفال "جريمة حرب"، بل "أضراراً جانبية"، بينما بات الفلسطيني، المحاصر والمجوّع، هو من يُطالب بتبرير أيّ محاولة للنجاة أو المقاومة.

يكشف بونني كيف تعيد المؤسسات الإعلامية الكبرى صياغة الأحداث بمصطلحات تخدم القوى المهيمنة، ممّا يجعل الضحية متهماً والمحتل مدافعاً عن نفسه. يرى أنّ الصراع الفلسطيني لا يتعلّق فقط بالأرض، بل بالسرديات واللغة والتاريخ، حيث تستغلّ "إسرائيل" هيمنة الخطاب العالمي لاختزال القضية في "نزاع الشرق الأوسط"، متجاهلة جذورها الاستعمارية.

يدعو عبارات الطوفان إلى تفكيك هذا الخطاب لا بالشعارات، بل بتحليل بنيته اللغوية، مؤكداً أنّ التلاعب بالكلمات قد يكون مدمّراً بقدر القنابل. يختم الكتاب بالتذكير بإنسانية الفلسطينيين، الذين تُختزل معاناتهم في أرقام القتلى، متسائلاً: إذا كانت الحروب تُخاض بالسرديات كما تُخاض بالسلاح، فمن يملك الكلمة الأخيرة.

اخترنا لك