كيف عاش أشهر أدباء روسيا على حافة الفقر؟

"اليوم تناولت زجاجة من الحليب والحساء من دون خبز. الوضع سيّئ".. كيف عاش أشهر أدباء روسيا على حافة الفقر؟

نقرأ أعمالهم الأدبية التي قدّر لها أن تترجم إلى جميع اللغات الحية في العالم، ونعرف عن حياتهم الأدبية وأفكارهم، وعن أمورهم العاطفية وإخفاقاتهم أو نجاحاتهم في الحب..لكن نادراً ما تُذكر الأوضاع المالية لهؤلاء الأدباء الكلاسيكيين المشهورين في روسيا القيصرية. إذ لم تكن المبالغ التي يتقاضونها عن أعمالهم مصدر دخل موثوق، فنجاح الكاتب لا يعتمد على شعبيته بالدرجة الأولى، بل على العلاقة مع الناشر ومدى إنصافه. لذلك قد لا نجد ثرياً بين هؤلاء الكتّاب، وإن وُجد فالثروة لم تكن نتيجة النجاح الأدبي. 

المال في حياة ألكسندر بوشكين وأنطون تشيخوف وفيودور دوستويفسكي وإيفان بونين، شكّل موضوع دراسة للباحثة الأدبية مارغريتا كوفينيفا، على موقع "كولتورا" التابع لوزارة الثقافة الروسية، أضاءت عليه عبر رسائل الأدباء الروس الأكثر شهرة إلى أصدقائهم وأقاربهم. 

ألكسندر بوشكين: ديون وميسر

  • رسلم لبوشكين وزوجته ناتاليا غونتشاروفا
    رسم لبوشكين وزوجته ناتاليا غونتشاروفا

كان موقف بوشكين من المال متناقضاً، إذ كان يحب الرفاهية ويريد إعالة أسرته، من ناحية، إلا أنه كان يردد "أنا لا أحب المال كثيراً، لكنني أحترمه باعتباره الوسيلة الوحيدة للاستقلالية بشكل لائق"، من ناحية أخرى.

كان بوشكين يشكو في رسائله من الصعوبات المالية، ويطلب المساعدة من المعارف والأصدقاء، ثم يشكو من سرعة نفاد الأموال: "كان بين يدي مؤخراً، مبلغ محترم، لكنه اختفى، ولن يكون لدي أي مال حتى تشرين الأول/أكتوبر" (من رسالة إلى بافيل ناشوكين، 1834).

ويقول في رسالة إلى زوجته ناتاليا عام 1833: "لم أكن في النادي، كانوا يهمون بطردي لأنني نسيت تجديد بطاقتي. سيتعيّن عليك دفع غرامة قدرها 300 روبل، لكنني على استعداد لبيع النادي الإنكليزي كلّه مقابل 200 روبل".

بعد زواج بوشكين، زادت نفقاته. كان عليه أن يعيل أسرته وأطفاله. أنفق الأموال أيضاً على المناسبات الاجتماعية لزوجته ناتاليا غونتشاروفا. في رسائل إلى صديقه بافيل ناشوكين، أشار الشاعر إلى أنه يحصل على الأموال من العمل الأدبي "لكن ليس لدي وقت فراغ، تنقصني الحياة الفردية الحرّة اللازمة للكتابة. أنا أدور تحت الأضواء وزوجتي في أبهى حالاتها، وكل هذا يتطلّب المال. والمال يأتيني عبر العمل، والعمل يتطلّب العزلة".

كان بوشكين مديناً بالكثير من المال وكان يرسل بانتظام رسائل اعتذار للمدينين. وجّه إحداها إلى صديقه إيفان ياكوفليف، سنة 1836 قال فيها: "أنا مذنب جداً تجاهك لدرجة أنني لا أستطيع تقديم أعذار. جاء المال وتسرّب من بين أصابعي... وبقيت ديوني في رقبتي. أمور مزعجة للغاية جعلتني معسراً، وأضطر إلى أن أطلب منك تأجيلاً آخر حتى الخريف". إلا أن زيادة نفقات الأسرة لم تمنع الشاعر من أن يعيش حياة الإسراف. لعب الميسر ونادراً ما حالفه الحظ فخسر مبالغ طائلة. 

خلّف بوشكين بعد وفاته ديوناً كبيرة، قارب مجموعها 100 ألف روبل (كان الروبل آنذاك يعادل سعر كيلوغرامين من اللحم). في العام 1834 كتب الشاعر لزوجته: "في ما يتعلق بالمال، أنا مذنب تماماً أمامك. كان لدي مال واختفى. ولكن ماذا أفعل؟ لقد شعرت بالمرارة لدرجة أنني كنت بحاجة إلى تسلية نفسي بشيء ما". 

فيودور دوستويفسكي: من العوز إلى الروليت

احتل الحديث عن المال حيزاً كبيراً من رسائل فيودور دوستويفسكي إلى شقيقه ميخائيل. كان عليه، كما أشار في كثير من الأحيان، أن يقدّم تنازلات، أن يكتب بسرعة، وأن ينحّي الأفكار الكبيرة جانباً ويكتب نصوصاً أكثر شعبية كي يجني المال في أسرع وقت ممكن.

وذكر دوستويفسكي أيضاً أنه اضطر لاستئجار مسكن بسعر أرخص مما يريد. لكن ميخائيل كان يدعمه باستمرار. يقول سنة 1864: "شكراً جزيلاً على المبلغ. لقد كان ضرورياً للغاية. تكتب أنك سترسل المبلغ نفسه خلال أسبوع (أي 100 روبل). أرسله رجاءً، فهو ضروري جداً". 

ألقي القبض على فيودور دوستويفسكي مع "المفكّرين الأحرار" سنة 1849. بعد السجن، نُفي إلى سيبيريا للأشغال الشاقة، ثم إلى منفى سيميبالاتينسك، حيث سُمح له أن يعيش خارج المعتقل فاستأجر شقة وكان في حاجة ماسة إلى المال. ولم يتمكّن من مغادرة منفاه إلا في 1859، حين تراكمت ديونه، يقول: "...أنا مدين لك بـ 700 روبل، لكنّي الآن، من دون كسرة خبز، سأطلب منك المساعدة لمدة من الزمن، وأعلم أنك غير مرتاح".

بعد عودته، اضطر دوستويفسكي إلى الخضوع للناشرين والموافقة على شروط اعتبرها غير مقبولة. كان يعتقد أن الناشرين يخفضون أجور أعماله، لأنه بعد الأشغال الشاقة في رأيهم، كان مستعداً للعمل مقابل أي مبلغ مالي. إلا أن الكاتب، وبعد وصوله إلى النجاح، ابتلى بالميسر لعشر سنوات، حيث أنفق مبالغ كبيرة على لعبة الروليت ولم يستطع التوقّف.

في رسائله إلى زوجته آنا، سنة 1867، نجده يطلب المغفرة: "آنا، عزيزتي، حبيبتي، زوجتي، سامحيني، لا تنعتيني بالوغد. لقد ارتكبت جريمة، فقدت كل ما أرسلته لي، كل شيء، كل شيء حتى آخر قرش. تسلّمته بالأمس وفقدته بالأمس".

إيفان بونين: المال للمحتاجين

عمل إيفان بونين مطلع حياته المهنية في إحدى الصحف، إلى جانب عمله في الترجمة والتدقيق اللغوي. كان يتقاضى أجراً ضئيلاً، لكنه كان يكره أن يطلب شيئاً من رب العمل، ولم يلجأ إليه إلا في الحالات القاهرة.

تحدّث عن الصعوبات التي يواجهها في رسالة إلى أخيه يولي سنة 1891: "سروالي قديم، وحذائي ممزق. ستقول إن ذلك غير مهم. نعم، كنت لأعتبره تافهاً من قبل، لكنه الآن دليل على مدى فقري.. إلى أي مدى سأضطر إلى الانحناء. الحاجة تؤذي أفضل أفكاري ومشاعري (على سبيل المثال، اليوم تناولت زجاجة من الحليب والحساء من دون خبز، ولم أدخن طوال اليوم. الوضع سيّئ)". 

كان على بونين أن يساوم على أتعابه مع المحرّرين والناشرين. في رسالة إلى فيكتور ميروليوبوف، الذي رأس تحرير "مجلة للجميع" العلمية والأدبية الشعبية، طلب المؤلف تقييم عمله بكرامة (1901).

مطلع عشرينيات القرن الماضي، هاجر الكاتب وزوجته قسراً إلى فرنسا، وفي عام 1933، حصل على جائزة نوبل في الأدب "للمهارة العالية التي طوّر بها تقاليد النثر الكلاسيكي الروسي". لم يساعده المبلغ الكبير إلا لمدة من الوقت، حيث وزّع جزءاً كبيراً من الجائزة على المحتاجين من المهاجرين الروس في باريس. وأشار بونين إلى أنه بعد حصوله على الجائزة "تلقّى في وقت قصير 2000 رسالة تطلب المال".

أنطون تشيخوف: المال لتحقيق الهدف

تعامل أنطون تشيخوف مع المال باعتباره ضرورة ولم يبد اهتمامه به. كان دخله وسيلة لتحقيق أهدافه ليعيش الحياة التي يريدها. وعندما واجه الكاتب صعوبات مؤقتة، كتب عنها بروح الدعابة، ساخراً من نفسه ومن الظروف المحيطة، يقول في رسالة لأهله سنة 1887: "المال ينفد. عليّ أن أعيش مثل طفيلي. أعيش في كل مكان على حساب الآخرين. بدأت أشبه سكارى نيجني نوفغورود الذين يأكلون طعام الآخرين، لكنهم يتألقون مظهرين الثقة بالنفس".

ويقول في رسالة إلى أليكسي بليشيف سنة 1888: "ليس لدي مال، سأعيش على الكفاف، لكني لن أجرؤ على أن استلف، لأنني سأكون بحاجة إلى سلفة في الصيف".

ويضيف في رسالة أخرى: "شعرت بالحرج والخجل لأنني أجبرتك على التحدّث عن الأجر. أنا حقاً بحاجة إلى المال، لكني لا أستطيع تحمّل الحديث عنه، خاصة مع الأشخاص الطيبين. لا عليك، فلتذهب الأموال إلى الجحيم". 

اشتكى أنطون تشيخوف من المبالغ الضئيلة التي تصله عن أعماله الأدبية وانتقد نظام الدفع بأكمله، لكنه كان يكره مناقشة القضايا المادية مع الناشرين واعتبرها مصدر إحراج. يقول في رسالة إلى شقيقه ألكسندر سنة 1887: "أنا بحاجة ماسة إلى المال. ستعرض مسرحيتي هذا الأسبوع في ساراتوف، لكنني لن أحصل على قرش واحد، لأنني لم أسجّل كعضو في جمعية الدراما بعد. الاشتراك يكلّف 15 روبلاً ولا أملكه".

بعد تحسن أوضاعه المالية، يُذكر أنطون تشيخوف في جميع الأماكن التي إقامته بإحسانه الكبير، عبر إنفاقه المال على الفقراء، وبناء المدارس والمصحات للمعدمين في روسيا القيصرية.