"لأنّ الكون لا يعجبني".. صلاح عبد الصبور وشهوة إصلاح العالم

كانت الرحلة الشعريّة كلّها، بالنسبة إليه، كما يحسّ، رحلة المعنى إلى الشاعر، لا رحلة الشاعر إلى المعنى. من هو صلاح عبد الصبور؟

أنهى الشاعر المصري صلاح عبد الصبور رحلته يوم 15 آب/أغسطس سنة 1981 (وُلد عام 1931). الرحلة الشعريّة كلّها بالنسبة إليه، على مدى 30 عاماً من العطاء في كتابة الشعر والمسرح الشعري والترجمة والتنظير، كانت كما يحسّ، هي رحلة المعنى إلى الشاعر، لا رحلة الشاعر إلى المعنى. 

وقول أحد الصوفيّين: "انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بنفوسهم، فقد وصلوا"، هو بالنسبة لعبد الصبور غاية العمل الفني، وهو ما حاول تحقيقه في منجزه المختلف، كواحد من روّاد الشعر العربي الجديد، إلى حدِّ تسميته نفسه بـــ "قصيدة مصر الحديثة"، وهو اللقب الذي أطلقه عليه حيدر توفيق بيضون عام 1993.

الكون لا يعجبني

ولد صلاح عبد الصبور في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، وتلقّى تعليمه في مدارسها الحكومية، إلى أن درس اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول، تلميذاً للشيخ أمين الخولي الذي ضمّه إلى جماعة "الأمناء" التي كوّنها، ثم إلى "الجمعية الأدبية". 

بعد تخرّجه، عُيّن عبد الصبور مدرّساً في وزارة التربية والتعليم، لكنه استقال كي يعمل في الصحافة، إذ عمل محرراً في مجلة "روز اليوسف"، ثم في جريدة "الأهرام"، حتى تمّ تعيينه عام 1961 في مجلس إدارة "الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر"، وشغل عدة مناصب بها في ما بعد. كما عمل مستشاراً ثقافياً للسفارة المصرية في الهند، وتمّ اختياره رئيساً لهيئة الكتّاب.

منذ دراسته في المرحلة الثانوية بدأ عبد الصبور يكتب الشعر، وكان ينشر قصائده في مجلتي "الثقافة" القاهرية و"الآداب" البيروتية، وله قراءات متنوّعة في الفلسفة والتاريخ والأساطير وعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا. 

هذه القراءات جعلت المصادر التي تأثّر بها كثيرة جداً، من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة العربي، مروراً بسير وأفكار بعض الصوفيين مثل الحلاج وبشر الحافي، وقد استخدمها كأقنعة لأفكاره وتصوّراته في بعض قصائده ومسرحياته. 

كذلك استفاد عبد الصبور من الشعر الرمزي في فرنسا وألمانيا، ولا سيما بودلير وريلكه، وامتد ذلك إلى الشعر الإنكليزي، عند جون كيتس وت. س. إليوت بصفة خاصة، وعند عمله مستشاراً ثقافياً في الهند، تعرّف إلى كنوز الفلسفات الهندية وثقافات الهند.

أنتج عبد الصبور خلال رحلته 6 دواوين أوّلها "الناس في بلادي" 1957، وكان أوّل ديوان في الشعر الحر (التفعيلة) يهزّ الحياة الأدبية المصرية، ولاحظ النقّاد والقرّاء فيه فرادة صوره، واستخدام المفردات اليومية الشائعة وثنائية السخرية والمأساة، وامتزاج الحس السياسي والفلسفي بموقف اجتماعي نقدي واضح. 

أما آخر دواوينه فكان "الإبحار في الذاكرة" 1977، وبين هذين الديوانين كتب عبد الصبور: "أقول لكم" 1961، "أحلام الفارس القديم" 1964، "تأملات في زمن جريح" 1970، "شجر الليل" 1973. كان الشعر، بالنسبة لعبد الصبور، وسيلة تفاهم مع العالم، من خلاله يتأمله، وعن طريقه يفكّر فيه وفي هموم الناس.

غير الشعر، كتب عبد الصبور 5 مسرحيات شعرية، هي: "مأساة الحلاج" 1964، "مسافر ليل" 1968، "الأميرة تنتظر" 1969، "ليلى والمجنون" 1971، و"بعد أن يموت الملك". إضافة إلى ترجمته مسرحيات لهنريك إبسن وت. س. إليوت. غير مقالاته ودراساته وكتاباته التنظيرية مثل "حياتي في الشعر"، الذي يقول فيه إنه يرى نفسه واحداً من هؤلاء الذين أصيبوا بشهوة لإصلاح العالم.

حضور "الحزن" كمفردة وكإحساس في شعره، دفع النقّاد إلى وصفه بالشاعر الحزين أو أكثر الشعراء حزناً، وقد ردّ على ذلك بالقول: "لستُ شاعراً حزيناً ولكني شاعرٌ متألم، وذلك لأنّ الكون لا يعجبني".

نظريته الشعرية

يرى عبد الصبور أنّ التجربة الشعرية تتمحور حول الإنسان وتؤرّخ للحياة الروحية له، وتعبّر عما يتدفّق في أعماقه من مشاعر وأفكار ورؤى، وتحاول رصد انتصاراته وانكساراته، وعلاقته بالكون والحياة.

ولادة القصيدة بالنسبة لعبد الصبور تبدأ بخاطرة تبزغ في الذهن، تشبه إلى حد كبير لوامع البرق، وهذه الخاطرة تسعى إلى أن "تقيّد وتقتنص، فإذا اقتنصت تشكّلت في كلمات، وقيّد وجودها المتشيّيء، واكتسبت حق الميلاد".

يمزج عبد الصبور بين التجربتين الشعرية والصوفية، ويوضح ذلك جلياً في كتابه "حياتي في الشعر". إذ يربط بين التجربتين من حيث التلقائية والاستناد إلى المكابدة الداخلية والكفاح الذاتي للوصول إلى حالة الصفاء العقلي والقلبي. ما يجعل التجربتين متداخلتين مع اختلاف الدافع والغاية، لكنهما تتحدان في المنبع، لذا يصبح كل من الحدس الصوفي وكذلك الشعري طريقة حياة وطريقة معرفة في آن، ونتصل عبره بالحقائق الجوهرية، ونشعر أننا أحرار قادرون بلا نهاية. إنه يرفع الإنسان إلى ما فوق الإنسان، وذلك عند تخطّي الزمن وحين نصبح حركة خالصة.

المرحلة الأولى من ولادة القصيدة، كما يسميها عبد الصبور، هي "الوارد"، ويتمثّل عنده في ما يرد إلى الذهن من مطلع القصيدة أو مقطع من مقاطعها، بغير ترتيب في ألفاظ منسّقة، ويقارب بين الوارد هنا والوارد عند المتصوفة "ما يرد على القلوب من الخواطر المحمودة... والواردات تكون وارد سرور ووارد حزن ووارد قبض ووارد بسط"، إلى غير ذلك من المعاني.

أما المرحلة الثانية في عملية الخلق الشعري فتتمثّل في القصيدة بوصفها "فعلاً"، وتلي مرحلة القصيدة كوارد، ويطلق عليها عبد الصبور مرحلة "التلوين والتمكين"، ويقول: "الشاعر هنا كالصوفي يرتقي من حال إلى حال، في جدلٍ حميمي حتى يصل إلى مرحلة التمكين، وهذه المرحلة مرحلة مكابدة وكفاح حتى تظهر القصيدة، وهذه المرحلة هي مرحلة القلق الذي يعانيه الشاعر وهو يحاول بلورة القصيدة وتشكيلها من خلال اللغة".

أما المرحلة الثالثة فتتمثّل في المرحلة النقدية، وهي مرحلة الوعي الكامل على ما أبدعه الشاعر، وذلك عندما يعود إلى حالته العادية قبل ورود الوارد عليه. هنا يقطع الشاعر الحوار بين ذاته الناظرة وذاته المنظور إليها، والأشياء ليبدأ المحاكمة. في هذه المرحلة قد يثبت الشاعر وقد يمحو ويقدّم ويؤخّر ليتمّ بذلك التشكيل النهائي للقصيدة.

يأتي تفسير عبد الصبور للوجدان الشعري من خلال الوجد الصوفي ليضفي على العمل الشعري بعداً أخلاقياً، يتمثّل في إحساس الشاعر بالمسؤولية عن إبداعه.

تجربة عبد الصبور الشعرية متفردة، لأنها تمزج الفكر بالشعر، والتصوّف بالفن، والوجد بالحدس، والواقع بالغيب، والذاتية بالموضوعية، من دون أن تفقد هذه التجربة تلقائيتها ووهجها. استحوذ على عبد الصبور، كما يقول علي مصطفى عشا، نموذج الشاعر الصوفي أو الشاعر القدّيس، والشاعر المفكّر، لأنّ الشعر عنده مزاج من الفكر والفن والتصوّف. كما تمحورت تجربته، على الصعيد النظري، حول محاور عديدة تبيّن شمولية التجربة الشعرية لديه، وقدرتها على التحوّل من الشخصي إلى الإنساني.

يبقى كلام عبد الصبور نفسه عن شعره هو الأشمل، إذ يقول: "إنّ أعظم الفضائل عندي هي الصدق والحرية والعدالة، وأخبث الرذائل هي الكذب والطغيان والظلم. إنّ شعري بوجه عام هو وثيقة تمجيد لهذه القيم وتنديد بأضدادها، لأنّ هذه القيم هي قلبي وجرحي وسكّيني معاً، إني لا أتألم من أجلها ولكني أنزف".

جدير بالذكر تأثير الشاعر الإنكليزي ت. س. إليوت بعبد الصبور الذي يقول عنه: إن ظلال قراءاته الأولى تلاشت عن ذاكرته الجمالية، ولم تبقَ سوى ظلال إليوت العظيم، الذي جمع بين الطابع الروحي السلبي لعالمنا المعاصر، وبين الطابع الروحي الإيجابي للعالم القديم. إذ كان شاعراً شغوفاً بفكرة (الزمن - التاريخ - الموروث الأدبي)، فدمج الماضي والحاضر في رمزية تكشف عن قيم اجتماعية وإنسانية عميقة، وفي هذا الدمج حلٌّ للصراع بين القديم والحديث.

المسرح الشعري

يتميّز المنجز الإبداعي لعبد الصبور بالانفتاح على التراث الإنساني عموماً، وليس العربي فقط، فهناك تأثير كبير لبودلير وبريخت وبرانديللو وإليوت على مسرحه الشعري، من حيث تقنية المسرح داخل المسرح، وما إلى ذلك، وصولاً إلى التراث الصوفي، وهو ما تجلّى في كيفية التعامل الدرامي معه في مسرحيته الشعرية الأولى "مأساة الحلاج".

نجاح مسرح عبد الصبور الشعري دفع بعض النقّاد إلى اعتباره أباً لهذا الفن، على الرغم من وجود منافسين له في تلك الفترة، مثل نجيب سرور وعبد الرحمن الشرقاوي ومن قبلهما أحمد شوقي.

وفقاً لدراسة الباحث مراد حسن عبد العال عباس بعنوان "المؤثّرات العربية والأجنبية في مسرح صلاح عبد الصبور"، فإنّ "مأساة الحلاج" رؤية وجودية لتجربة صوفية، أما مسرحيته الثانية "مسافر الليل" فتغلب عليها محاولة التجريد العبثي، فيما الثالثة "ليلى والمجنون" ينطلق عبد الصبور فيها في مجال الحب العذري من خلال دراما ملحمية، بينما يخوض في الرابعة "الأميرة تنتظر" في غمار الأدب الشعبي، ويمزج في الخامسة "بعد أن يموت الملك" العبث والأسطورة والحلم في شكل ملحمة كاملة.