لهذه الأسباب فشل فيلم "سنو وايت"

لماذا فشل فيلم "سنو وايت"؟ وما علاقة غزة بذلك؟

لم يكن الإخفاق التجاري لفيلم "سنو وايت" (2025) الأخير حدثاً عابراً في سجل "هوليوود". فالإنتاج الذي استنزف ميزانية هائلة تجاوزت ربع مليار دولار، وأتى محمّلاً بوعود "إعادة ابتكار" إحدى أشهر الحكايات الخيالية، انزلق سريعاً نحو الخسارة. إذ لم يتمكن من تحقيق عائدات تتناسب مع حجم الاستثمار ولا مع الانتظارات النقدية والجماهيرية. 

غير أنّ ما يميز هذا الفشل عن إخفاقات سابقة يكمن في أنّه تجاوز العوامل الفنية والتجارية التقليدية، ليتحوّل إلى مرآة لصراع أوسع: صراع السرديات السياسية على خشبة السينما العالمية. والرموز الفنية الحاملة لسرديات حربية ضد الاتجاه العريض لحركة الوعي العالمي لكل ما يجري في غزة، وتمظهر الإبادة بصورةٍ لا لبس فيها، والتي تدركها اليوم شرائح جديدة من الجمهور، أصبحت مستعدة - كما يبين نموذج الفيلم المذكور- لاتخاذ خطوات احتجاجية واضحة تعاقب تلك الرموز، وتنزع منها القدرة على تضليل الاختراق السياسي والثقافي من خلال السينما.

السينما كفضاء متداخل مع السياسة

  • الممثلة الإسرائيلية غال غادوت في لقطة من فيلم
    الممثلة الإسرائيلية غال غادوت في لقطة من فيلم "سنو وايت"

منذ بداياتها الأولى، كانت السينما تتجاوز دور صناعة الترفيه، لتحمل في مضامينها وظيفة صوغ الهوية الجماعية وتمرير الرسائل السياسية. ففي الحربين العالميتين، كانت الأفلام أداة دعائية بامتياز، ثمّ أصبحت خلال الحرب الباردة وسيلة لتعزيز صورة "العالم الحر" في مواجهة "المعسكر الشيوعي"، الذي كان يُصوّر في الدعاية السينمائية الغربية كمتجمع ديكتاتوري حديدي، بتضخيم معالم المركزية السلطوية وتمظهراتها الاجتماعية. 

اليوم، وفي زمن تتفجّر فيه الهويات والانقسامات، تعود السينما لتكون أكثر من أي وقت مضى ساحة للصراع الرمزي، حيث تتحدد ملامح النجاح أو الفشل ليس فقط عبر جودة النص والصورة، بل عبر ما يحمله العمل من مواقف صريحة أو ضمنية إزاء قضايا سياسية ملتهبة.

وبالعودة إلى فيلم "سنو وايت" الذي أدّت فيه الممثلة الإسرائيلية، والمجندة سابقة في جيش الاحتلال، غال غادوت، دور الملكة الشريرة، مثّل نموذجاً ساطعاً لهذه الحقيقة. 

إذ إن خلفية غادوت ومواقفها العلنية المؤيدة لجيش الاحتلال خلال العدوان على غزة، جعلت الفيلم ساحة اختبار بين روايتين: رواية "هوليوود" التي تسعى إلى إعادة إنتاج الكلاسيكيات برؤية "عصرية"؛ ورواية الجماهير التي تقرأ الفن أيضاً من خلال عدسة السياسة، فتربط بين صورة غال غادوت على الشاشة وبين موقعها في حرب الإبادة ضد غزة، وتحمّلها تالياً جزءاً من فاتورة الجرائم التي ترتبكها "إسرائيل".

كيف تساهم حرب الإبادة في غزة في تحديد الاستقبال الجماهيري للمنتج الفني؟

  • حرب الإبادة متواصلة في غزة
    حرب الإبادة متواصلة في غزة

إن أحداث غزة الجارية، وما تحمله من صور دامية وانقسام عالمي حاد، ألقت بظلالها على كل الفضاءات الإعلامية والثقافية، فلم يكن غريباً أن تتحوّل أيضاً إلى معيار خفي لتلقي فيلم "سنو وايت". 

فقد أصبحت غادوت، في المخيال العام، أكثر من ممثلة تؤدي دوراً شريراً، بل رمزاً للشر السياسي يتجاوز شخصيتها التمثيلية. هكذا أُعيدت قراءة الفيلم: ليس كقصة عن فتاة وملكة شريرة، بل كإسقاط سياسي على صراع قائم، فيه يُختزل الخير والشر بمعايير تتجاوز الحكاية الأصلية.

إنّ هذا التلقي يؤشر إلى تحوّل هام في علاقة الجمهور بالسينما. إذ يخرج المتفرج من عزلته عن السياسة حين دخوله صالة العرض، ويندمج أو يدمج صورة الصراع السياسي بالصراع السينمائي الذي يحتويه السيناريو، وهو أيضاً صراع خيرٍ وشر. هكذا ينخرط المشاهد بالمشهد محمّلاً بذاكرة الحرب مع "إسرائيل" وصور الدم، فلا يستطيع أن ينظر إلى الشاشة بحياديةٍ تامة. ذلك أن قسوة الحدث الحقيقي تطغى على صناعة حدثٍ فني. وهنا يتكشّف عمق المعنى: الفن ساحة حربٍ ضروس أيضاً، وشريك في إعادة إنتاج السيناريو الحقيقي الذي يحدث على الأرض، إن باتجاه الإبادة، أو بمواجهتها والاعتراض عليها.

البعد الصناعي والتجاري للفشل

  • إعادة رسم شخصية
    إعادة رسم شخصية "سنو وايت" ضمن خطاب "التمكين النسوي" كان مبالغاً فيه

مع ذلك، وكضرورة لشمولية قياس هذه التجربة، لا يمكن إنكار أنّ الفيلم عانى أيضاً من مشكلات فنية وإنتاجية واضحة. فقد وُجّهت انتقادات لاذعة إلى الاعتماد المفرط على المؤثرات البصرية، خاصة في مشاهد الأقزام الذين ظهروا بصور رقمية أثارت نفور النقاد والجمهور. كما أنّ التعديلات على النص الأصلي الكلاسيكي، وإعادة رسم شخصية "سنو وايت" ضمن خطاب "التمكين النسوي" المبالغ فيه، خلقت حالة من الاستقطاب حتى داخل المجتمعات الغربية. يضاف إلى ذلك الأداء التمثيلي الذي وُصف في بعض المراجعات بأنه باهت، وغياب الكيمياء بين الشخصيات الرئيسة.

لكن كل تلك العوامل لم تكن لتكفي وحدها لتفسير حجم الفشل. فما من فيلم ضخم يخلو من مكامن ضعف فنية، ومع ذلك ينجح إن وجد حاضنة جماهيرية متعاطفة. ما حدث هنا أنّ الحاضنة نفسها تآكلت تحت وطأة الانقسام حول ما يجري في غزة، فصار العمل أسيراً للسياق الخارجي أكثر من نصّه الداخلي، ومتأثراً باختيار غادوت بصورةٍ حاسمة، اعترفت هي نفسها بهذا التأثير لمحطة عبرية، قبل أن تعود بنشر نص على وسائل التواصل الاجتماعي لتخفيف هذا الاعتراف، ووضعه في سياقٍ أوسع، فني وسينمائي.

السينما كحرب رمزية

  • وُجّهت انتقادات لاذعة إلى الاعتماد المفرط على المؤثرات البصرية خاصة في مشاهد الأقزام
    وُجّهت انتقادات لاذعة إلى الاعتماد المفرط على المؤثرات البصرية خاصة في مشاهد الأقزام

يمكن القول إن فشل "سنو وايت" هو في جوهره انعكاس لصراع السرديات. فالسينما اليوم ليست محايدة؛ هي جزء من منظومة "القوة الناعمة" التي تسعى الدول والجماعات إلى استثمارها في تكريس روايتها عن الذات والآخر. حين يُقاطع جمهور واسع في أوروبا وأميركا اللاتينية، أو حتى في العالم العربي، فيلماً لأن بطلتَه تنتمي إلى طرفٍ سياسي يرتكب إبادة جماعية، فهذا يعني أنّ سلاح السردية بات يطغى على كل عناصر الفن الأخرى، أو أن حجم الحدث وفداحة الارتكاب، فرضا شروطهما على التلقي.

لقد تحوّلت "هوليوود"، بوعي أو من دونه، إلى ساحة معركة رمزية. فيها يُختبر معنى "التمثيل" ذاته: من يحق له أن يتصدر الشاشة؟ وأي موقف سياسي يضفي شرعية أو ينزعها عن العمل الفني؟ هذه الأسئلة لم تكن مطروحة سابقاً بهذه الحدّة، لكنها اليوم أصبحت جزءاً من البنية العميقة لصناعة السينما.

ولطالما دار النقاش حول "استقلالية الفن" عن السياسة في الفكر الجمالي الكلاسيكي. غير أنّ التجربة الراهنة تثبت أنّ هذه الاستقلالية باتت وهماً. فالفن لا يعيش في فراغ؛ بل يتغذى على البيئة السياسية والاجتماعية التي يُنتج ويُستقبل فيها. وحين تكون البيئة مشبعة بالانقسامات، فإن العمل الفني مهما حاول أن يتجرد، سيُقرأ وفق تلك الانقسامات.

من هنا، يصبح فشل "سنو وايت" درساً للباحثين في الثقافة السياسية، حيث لا يمكن فهم صناعة السينما المعاصرة من دون تحليل سياقاتها الجيوسياسية. إنّه فشل تقني وتجاري، لكنه في العمق انعكاس لصدام السرديات في النظام الدولي.

الدروس الاستراتيجية

  • السينما أصبحت جزءاً من ميدان
    السينما أصبحت جزءاً من ميدان "الحرب السردية" الذي يهيمن على العلاقات الدولية اليوم

بالنسبة لــ "هوليوود"، تحمل تجربة فيلم "سنو وايت" دلالات استراتيجية تتجاوز الفيلم نفسه، منها أن: الهوية السياسية للممثل أصبحت جزءاً من الاستثمار، حيث يرتبط اختيار ممثل بجدل سياسي قد يضاعف المخاطر على المشروع، حتى إن كان مشهوراً أو صاحب قاعدة جماهيرية عالمية سابقاً.

ثم أن الجمهور أكثر وعياً وارتباطاً بالسياسة، وقد جعلت شبكات التواصل أي موقف أو تغريدة عاملاً محدِّداً في الاستقبال الجماهيري.

وأيضاً أن القوة الناعمة ليست محايدة. ففي حين تسعى واشنطن عبر "هوليوود" لتسويق صورة معينة، فإنّ خصومها وأنصار قضايا مضادة يستثمرون أيضاً في تفكيك تلك الصورة عبر المقاطعة أو النقد المكثف.

ومن الدلالات كذلك أزمة السرد الغربي في إعادة إنتاج القصص الكلاسيكية بمرجعية "الصوابية السياسية"، لم تعد ضمانة للنجاح، بل قد تتحوّل إلى نقطة ضعف.

كما أن التحليل الأعمق يقودنا إلى ما هو أبعد من "هوليوود". فالسينما أصبحت جزءاً من ميدان "الحرب السردية" الذي يهيمن على العلاقات الدولية اليوم. وفي هذا الميدان، لا تُقاس القوة فقط بالصواريخ أو الاقتصاد، بل أيضاً بالقدرة على فرض رواية تُقنع الجماهير وتعيد تشكيل وعيها. وقد فشل "سنو وايت" لأنه لم يتمكن من الانفلات من هذه الحرب؛ إذ وجد نفسه في قلبها من دون أن يتنبه القائمون عليه إلى تعارض اختياراتهم مع تغير الوعي العالمي بالصراعات وبحدتها، وبموقف هذا الوعي الأخلاقي.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك