ليس موضوعاً ثابتاً أو حقيقة واقعة.. كيف يشكل الاختلاف هوياتنا؟

لم ينته النقاش يوماً حول الهوية والصراعات الناشئة عن اختلافها. فأي دور يؤديه الاختلاف في تشكيل هوياتنا؟ وهل هناك هويات ثابتة لا تتبدل؟

غير بعيد من الصواب القول إن "مجتمع الهويات هو حقيقة عصرنا"، والعبارة تستدعي تلقائياً كتاب الأديب اللبناني الفرنكوفوني، أمين معلوف "الهويات القاتلة" (1998)، حيث يتحدث عن هوية واحدة لا تتجزأ، تتشكّل من عناصر متعددة وفق معايير تختلف بين فرد وآخر [1]، ويشير إلى تعقيد أواليات الهوية: فبعضها يدعو إلى الابتسام أحياناً، ويكون تراجيدياً في أغلب الأحيان [2]. والكلام يدور عن هوية وانتماءات، والهوية لا تُعطى مرة واحدة وإلى الأبد، فهي تتحوّل وتتشكّل في مجرى حياة الفرد [3].

 وبشكل عام، يمكن تعريف الهوية بأنها السنن (الشيفرة، الكود) التي يمكن للفرد من طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي من طريقها يتعرّف إليه الآخرون باعتباره منتمياً إلى تلك الجماعة. وهي شيفرة، تتجمّع عناصرها العرقيّة على مدار تاريخ الجماعة (التاريخ) من خلال تراثها الإبداعي (الثقافة) وطابع حياتها (الواقع الاجتماعي). 

إضافة إلى الشيفرة، تتجلّى الهوية كذلك من خلال تعبیرات خارجية شائعة مثل: الرموز، الألحان، العادات، التي تنحصر قيمتها في أنها عناصر معلنة تجاه الجماعات الأخرى، وهي أيضاً التي تميّز أصحاب هويّة ما مشتركة عن سائر الهويّات الأخرى.

ولكن الملامح الحقيقية للهويّة، هي تلك التي تنتقل بالوراثة داخل الجماعة، وتظل محتفظة بوجودها وحيويتها بينهم مثل: الأساطير، والقيم والتراث الثقافي. وتحدّد الهوية الشعور العميق الوجودي الأساسي للإنسان، والشعور العميق الخاص بانتمائه.

مفهوم الهوية في الفلسفة

  • فضّل بيتر جيتش الكلام عن
    فضّل بيتر جيتش الكلام عن "هوية نسبيّة" تجمع بين متشابهين

انطلق مفهوم الهوية في الفلسفة من قضية التماثل، تماثل شيء مع شيء آخر أو تماثل الشيء مع نفسه، ببقاء خصائصه على ما هي عليه ودوامها. وتالياً، راج مفهوم "اللاتغيّر" أو الثبات عبر الزمن، ومن ثم ناقش الفلاسفة الهوية من زوايا أخرى، منها مسألة التغيّر، أي ما يلحق بالأفراد والأمم من تغيّرات في عاداتها وتقاليدها، أي ثقافاتها بتبدّل الظروف المادية والسياسية والاجتماعية، رغم احتفاظها بخصائص أولية. 

وفضّل المنطقي المعاصر بيتر جيتش (1916- 2013)، أحد تلامذة برتراند راسل، الكلام عن "هوية نسبيّة" تجمع بين متشابهين، ومن المستحيل أن يكونا متشابهين تماماً. كذلك تكلّم المنطقيّ لودفيغ فتجنشتين (1889- 1951) كاتب "التحقيقات الفلسفية" (1953) عن "تناقض الهوية" بقوله إن الزعم بالتماثل التام بين شيئين هو نوع من الهراء أو "التزييف العلمي"، والقول إن الشيء نفسه هو ذلك الشيء يساوي أننا لم نقل شيئاً له معنى على الإطلاق [4]. 

وقد كشفت فلسفات التاريخ أن جماعات البشر اكتسبت "هوياتها" أثناء تطويرها في وقت واحد للغاتها وعناصر ثقافتها وأساليبها في العمل، وأن الهوية بالمعنى التاريخي والاجتماعي والإنساني لا تعني ولا تسعى للتماثل الكيفي، وهو المعنى الذي نصبته الفلسفة [5].

تُعرّف الهوية في السياق الفلسفي، أنها كل ما يجعل من الفرد مميّزاً ومتفرّداً في حد ذاته، ومميّزاً ومتفرّداً عن الآخرين، وتتشكّل هوية الفرد بفعل التفاعلات الاجتماعية مع البيئة المحيطة والآخرين، إضافة إلى التأثيرات الثقافية. وقد كان لمختلف الفلاسفة آراء بخصوص ماهية الهوية ومفهومها. 

عرّف الفيلسوف الفارابي (توفي في العام 950) الهوية بأنها: "الشّيء وعينيّته وتشخّصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له، كلٌّ واحدٌ، وقولنا: إنه هو إشارة إلى هويته، وخصوصيته ووجوده المنفرد له، الذي لا يقع فيه إشراك"[6]، بمعنى أنها تُمثّل ما يجعل الشيء متفرّداً في وجوده، ومختلفاً عن الأشياء الأخرى.

بدوره وصف المفكّر اللبناني علي حرب (1941) الهوية على أنها "صيغة مركّبة"، تجمع بين التعدّد والتعارض، وتجمع بين الاعتدال والالتباس في آنٍ واحد، كما رأى أنها تجمع بين الروابط، والعلاقات، والأهواء، والميول أيضاً. بيّن في كتابه "حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية" (2004)، أنّ الهوية ليست هاجساً مخيفاً يجب أن ننهج تجاهه سياسة الاحتراز، أو أن نقف ضدها كحرّاس للقيّم. بل هي إمكان منفتح يعطي قابلية للتطويع والتحويل لما يتلاءم معنا. وفي صميمية عملية التحويل هذه والتطويع، يمكن للهوية أن تتجدّد وتتمدّد، فالهوية ليست شيئاً ثابتاً، بل هي إبداع مستمر للذات والمجتمع.

تجاوز الهوية

  • اعتبر سارتر أنّ البشر يمتلكون هوية ولكنهم يتجاوزونها
    اعتبر سارتر أنّ البشر يمتلكون هوية ولكنهم يتجاوزونها

أما الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980) فقد اعتبر أنّ البشر يمتلكون هوية، ولكنهم يتجاوزونها، وتتمثّل هوية الأفراد بما لديهم من قيمٍ، ومشاعر، وأفكار، إضافة إلى تجاربهم وظروفهم. ويربط كاتب "الوجود والعدم" (1943) بين الهوية والحرية، ويمكن تلخيص رؤيته على النحو التالي: للبشر هوية ولكنهم يتجاوزونها. نُعرّف بأفكارنا ومشاعرنا وقيمنا، ونُعرّف بظروفنا ومجمل تجربتنا. ومع ذلك، نحن في الوقت نفسه نعي هذه التجربة، ونكون، بالتالي، على مسافة منها. لدينا أسئلة، ومعضلات، ولحظات من القلق الوجودي والأخلاقي التي تجعلنا ندرك نقصنا وقصورنا. هناك نقص جوهري داخل الحاضر يشلّ أفكارنا وأفعالنا. 

لا شيء يمكن أن يحدّد لنا تماماً معنى العالم أو اتجاه حياتنا. ومع ذلك، نحن قادرون على تجاوز كل ما نحن عليه وتصوّر المستقبل الذي سيمنح معنى للحاضر. من خلال الفعل الحرّ من أجل غاية غير موجودة بعد، نوجّه أنفسنا إلى هذا الهدف ونجعله حقيقياً بالنسبة لنا. بهذه الطريقة نفهم العالم ونعطي معنى لحياتنا من خلال التزاماتنا النشطة. 

الإنسان ليس هوية حاضرة جامدة ولا هدفاً مستقبلياً غير ملموس. نحن نتشكّل من خلال علاقة قمنا باختيارها بحرية بين هوية حالية وغاية. تتضمّن الشخصية بالضرورة كلاًّ من الحقائق التي تحدّدنا والحركة وراء هذه الحقائق إلى ما نسعى إلى أن نصبح عليه. فهي تنطوي على الجوهر والوجود، وحيازة الذات والتجرّد منها، والاستبطان والنشوة، الحاضر والمستقبل، الحقيقي والمثالي، الدلالي والشرطي. أنها تنطوي على ما هو حقيقي، وما يمكن أن يكون. في فهم سارتر، نحن نشكّل هويتنا الشخصية من خلال قبول من نحن وحرية التحرّك وراء هذا [7].

الهوية الشخصية في الفلسفة

من الجوانب المهمة في موضوع الهوية في الفلسفة، الهوية الشخصية، وتُعرف الهوية الشخصية على أنها تلك الفكرة، أو وجهة النظر، التي يشكّلها الفرد عن نفسه طوال حياته، وتتضمّن الهوية الشخصية عدداً من الجوانب، تشمل الجوانب التي يملك الإنسان فيها القدرة على التصرّف والتحكّم بمحض إرادته، مثل القرارات التي يتخذها، والخيارات التي ينتقيها، والنشاطات التي يقرّر القيام بها، في حين أنّ هناك جوانب لا يملك فيها الإنسان القدرة على التحكّم واختيارها، مثل البيئة التي يولد فيها، أو العرق الذي ينتمي إليه. 

أما الطرائق التي يتم من خلالها إظهار الهوية الشخصية والتعبير عنها فهي تتمثّل بطريقتين، أولهما الكشف عن بعض أجزاء الهوية الشخصية للعالم الخارجي والآخرين من خلال التواصل والتفاعل مع الناس، أو التعبير عن الهوية الشخصية من خلال نمط الملابس وشكلها، أما الطريقة الثانية، فهي قيام الفرد بإخفاء بعض أجزاء هويته الشخصية، والاحتفاظ بها لنفسه، من دون الكشف عنها للآخرين.

الذات عينها كآخر 

  • يرى ريكور أن ما يجعل من الهوية الإنسانية مؤقتة هو أن الإنسان يكون على صلة بغيريّات مختلفة ومتنوّعة
    يرى ريكور أن ما يجعل من الهوية الإنسانية مؤقتة هو أن الإنسان يكون على صلة بغيريّات مختلفة ومتنوّعة

انتهج الفيلسوف الفرنسي بول ريكور  (1913- 2005) مقاربة هيرمنوطيقية (تأويلية) للعلاقة بين الآنية (الذاتية) والغيرية، تكشف ما تنطوي عليه من مفارقات في الوقت نفسه، فالغيرية متعددة الدلالات، فهو يرى إلى "عمل الآخرية في قلب الذاتية"[8]. 

يفسّر ريكور ما يعنيه في كتابه "الذات عينها كآخر" (1990) بهذا العنوان قائلاً: "إن غيرية مختلفة أو على الأقل، ليست فقط للمقارنة يوحي بها عنواننا، إنها آخريّة يمكن أن تكون مكوّنة للذاتية نفسها، الذات عينها كآخر يوحي منذ البداية بأن ذاتية الذات عينها تحتوي ضمناً الغيرية إلى درجة حميمة، حتى إنه لا يعود من الممكن التفكير في الواحدة دون الأخرى"، أو في لغة هيغل (1770-1831) "تدخل الواحدة في الأخرى"[9].  

ولعل مما يجعل من الهوية الإنسانية مؤقتة، في زعم ريكور، هو أن الإنسان لا يكون على صلة بغيريّة وحسب، وإنما بغيريّات مختلفة ومتنوّعة. فبمجرد أن أحاول أن أعيش جيداً (استهداف الحياة الجيدة) فإني سأصطدم حتماً بصعوبات شتى (استهداف الحياة الجيدة مع الآخر ومن أجله داخل مؤسسات عادلة)، ذلك أنه فعلاً ما عندما يكون "تفاعلاً"، فإن ذلك لا يشكّل قدرتي على العناية بالآخر فحسب، وإنما أيضاً مناسبة لتعنيفه بدءاً من عنف اللغة وصولاً إلى حدود التعذيب الجسدي أو حتى القتل [10]. 

تدفعنا مثل هذه النزاعات إلى طلب معايير أخلاقية، غير أن صرامة الأخلاق لا تقضي على هذه الصعوبات وإنما هي تعمل على بيان موقعها، لكأنّ احتواء الذات الإنسانية على تباين بين الانفتاح على اللامتناهي (الإنسان الخطّاء)، واستهداف الحياة الخيّرة مع الآخر ومن أجله داخل مؤسسات عادلة (الذات عينها كآخر) يجعل من الوجود الإنساني ملتبساً، ولا يبقى أمام الإنسان من وسيلة إلا أن يبحث عن الحكم الملائم ضمن "الحكمة العملية" [11] بما يخوّل له - ربما إقامة علاقة اعتراف متبادل مع الآخر لا تنهض بالضرورة على الصراع، كما لوّح بذلك هيغل، وإنما على ما يسمّيه ريكور في كتابه "سيرة الاعتراف"، الاعتراف المخفّف الذي يتحقّق عبر العطاء والتضامن وثقافة التبادل، وهو ما يمكن أن يحد من مختلف الصراعات بين الذاتية وبين الثقافية [12].

الغريب بوصفه محدّداً للهوية

  • لاحظت كريستيفا أن الحركات الفلسفية والدينية هي التي تجاوزت التعريف السياسي للإنسان ومنحته حقوقاً مساوية لحقوق المواطنين
    لاحظت كريستيفا أن الحركات الفلسفية والدينية هي التي تجاوزت التعريف السياسي للإنسان ومنحته حقوقاً مساوية لحقوق المواطنين

المسألة الرئيسية التي تقضّ مضجع الفيلسوفة الفرنسية، ذات الأصول البلغارية، جوليا كريستيفا (1941)، صاحبة "غرباء عن أنفسنا" (1988)، هي "كيف نعيش مع الاختلاف؟"، فهي ترفض التعريف الماهوي للهوية ككيان بديهي معطى قبلياً، أو أنه عقلاني بالمطلق أو أنه مُطابق لنفسه وليس عرضة للتغيير خلال الزمان والمكان، ومن خلال التحوّلات الاجتماعية والثقافية والتاريخية [13]. وقد أكدت الطبيعة المتغيّرة للهوية وكونها مجالاً غير موحّد، ما قادها إلى فتح الباب واسعاً لاستكشاف الهويات الثقافية لمجموعات ومجتمعات وأمم ودول قومية مختلفة [14]. 

ورأت أنّ الأجنبي (أو الغريب) بمثابة محدّد رئيس لتعرّف الهوية، فقدّرت أنه "ليس الضحية الرومانسية لكسل عائلتنا، ولا الدخيل المسؤول عن كل شرور المدينة. ولا هو الاكتشاف، ولا الخصم المباشر الذي يتعيّن القضاء عليه من أجل إحلال السلام داخل المجموعة. فعلى نحو مفارق، الغريب يسكننا: إنه الوجه الخفي لهويتنا، المساحة التي تدمّر ملاذنا، الزمن الذي يتضرّر فيه الانسجام والتعاطف. ومن خلال التعرّف إليه في أنفسنا، فإننا ننقذ أنفسنا من كرهه في حد ذاته". 

يبدأ الأجنبي عندما ينشأ وعي بالاختلاف، وينتهي عندما نتعرّف جميعاً إلى أنفسنا كأجانب ومتمردين على الروابط والمجتمعات. وتشير كريستيفا إلى أن الهوية علامة استفهام: مؤلمة أو مُفرحة. وهذا البعد عندها، من شأن الميتافيزيقيا أو الفلسفة.

في الواقع، من دون مجموعة اجتماعية مبنية على سلطة وتملك القدرة على التشريع، لن يكون هناك هذا الجانب الخارجي، الذي غالباً ما يُختبر على أنه غير مُحبّذ أو على الأقل إشكالياً، يمثّله الغريب (الأجنبي) ويعاني من جرائه.

وقد لاحظت كريستيفا أن الحركات الفلسفية (الرواقية اليونانية واللاتينية مع رؤاها الكوزموبوليتانية) والدينية (المسيحية الأصلية أو الأوليّة)، هي التي تجاوزت التعريف السياسي للإنسان، ومنحته حقوقاً مساوية لحقوق المواطنين. لكن، لا يمكن ممارستها إلا في المدينة السماوية، أو داخل مدينة روحية. هذا الحل المطلق لعشّاق الغرابة من قبل ديانات معينة يصطدم بحدود الدين الخاصة وعقيدته. 

يلجأ المتعصبون إلى تعيين الغرباء الجدد، أولئك الذين ليسوا جزءاً من عقيدتهم، في سبيل ممارسة مزيد من النبذ ​​أو الاضطهاد. تظهر السلطة السياسية بعد ذلك كضمانة، قبل أن يتم الاستيلاء على أوالياتها، في لحظة معينة، باسم المصلحة المهيمنة لهذه المجموعة الاجتماعية وهذه السلطة السياسية. بعد ذلك تلجأ في نهاية المطاف إلى مقولة العالمية الأخلاقية أو الدينية، وستحاول من خلال حقوق الإنسان الحفاظ على الحقوق القليلة التي يرى المواطنون أنها مناسبة لمنحها لغير المواطنين.

لكن لماذا يؤثّر عدم انتماء الغريب إلى جماعتي (عشيرة، عائلة، قبيلة، أمة) في هويتي؟ نظراً لأن الهوية مكوّن غير مؤكد، ذات صلابة نسبيّة وهشة، وبالتالي، فإن عضوية المجموعة (أو الجماعة) هي التي تطمئن عندما لا تكون الهوية قد تشكّلت نهائياً. تقوم الجماعة ببناء وإيواء المعنى، والبعد التأسيسي والاقتصادي (الاستفادة من الخيرات من أجل المعاش) للكائن المتكلّم. الجماعة جزء من لغتي، من قيمي، من ثقافتي التاريخية، الجماعة هي الموطن، (الكلمة اليونانية "ethos" تعني في الأصل "الموطن" habitat). فالكائن المتكلم الذي أكونه يسكن مع أسلافه (الموتى يسكنوننا)، وتقاليدهم، ولغتهم هي ما تُشكّل أخلاقياتي، وفقاً لكريستيفا.

 يطرح الأجنبي الباحث عن بلد غير موجود، علامة استفهام مزعجة ليس على هوية المجموعة وإدارتها السياسية فحسب، ولكن على هوية الشخص، وبشكل أكثر جوهرية على الكائن نفسه الذي أورثته لنا الميتافيزيقيا. وإذا أجبرنا ذلك على الاختيار بين توتر الهوية والجماعة، والأسرة، والتفكيك وإعادة البناء، فإن الأجنبي يفتح بشكل أكبر مسألة التجاوز (التعالي) التي لا مفرّ منها: هذه الرغبة في المعنى دائماً في مكان آخر، أعلى وأسرع وأقوى، والتي تفصل وتنقّي وتصالح. 

دعونا لا نبقي الأجنبي (الغريب) ثابتاً ومستقراً في حالته، سواء كان نبوئيّاً أو بربرياً: مصدر تساؤل يضيء لنا مسائل كثيرة، ولكنه أيضاً مصدر تعصّب مميت. دعونا نرحّب به في تفرّده، ومآزقه هي مآزقنا، فهي تهمّنا، ويمكن مشاركتها.

 وفي شأن الهوية الوطنية الفرنسية فإنها تشهد تحوّلاً سريعاً. ففي نهاية القرن العشرين، كان مقدّراً للجميع أن يظلوا على حالهم زائداً الآخر: من دون نسيان ثقافتهم الأصلية، ولكن من طريق جعلها ليست قريبة من ثقافة الآخرين فحسب، بل تتناوب معها أيضاً. والبحث عن تجانس جديد أمر غير محتمل، وربما غير مرغوب فيه.

نحن منقادون، للمرة الأولى في التاريخ، للعيش مع الاختلافات، من خلال الاعتماد على قواعدنا الأخلاقية الشخصية، من دون أن تتمكّن أيّ مجموعة تتبنّى خصوصياتنا من تجاوزها. مجتمع متناقض آخذ في الظهور، مكوّن من غرباء يقبلون بعضهم البعض بقدر ما يتعرّفون إلى أنفسهم على أنهم غرباء [15].

هوية قائمة على الكثرة

  • نظر موران إلى الهوية الإنسانية كهوية قائمة على الكثرة
    نظر موران إلى الهوية الإنسانية كهوية قائمة على الكثرة

بدوره، طرح الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران (1921)، السؤال عن الهوية، انطلاقاً من مفارقات الوجود الإنساني، المتوّزع بين البناء والهدم وقدرة الإنسان اللامتناهية على الإبداع والتسامي من جهة، وعلى التحطيم والعنف من جهة أخرى. لذا نظر موران إلى الهوية الإنسانية كهوية قائمة على الكثرة: كثرة تتجلّى في كون الإنسان كائناً صانعاً وكائناً اقتصادياً وكائن المعرفة وكائن الانفعالات والرغبة، وهو الكائن الخيّر والأكثر شروراً. لذلك، وجب تعيين هويته كهوية مركّبة، فنحن هنا أمام واقع إنساني مرکّب، منفتح على الفوضى والأزمات واللايقين [16].

 الهوية المركّبة هذه نتاج لترابط أبعاد ثلاثة هي التي تشكّل حقيقة الوجود الإنساني: البعد البيولوجي والبعد الاجتماعي والبعد الثقافي، مع تأكيد الترابط والتلازم بينها. وهي جميعاً تتضافر مع ما تحمله من خصوصية في سبيل تشكيل الهوية التي تأخذ بدورها 3 حدود: الفرد والمجتمع والنوع. فالفرد يحمل داخل خصوصيته الفردية البيولوجية المتوارثة كامل البعد الثقافي المميّز للنوع الإنساني، كما كامل الخصائص القيميّة والاجتماعية المميّزة للمجتمع الذي ينتمي إليه [17].

 وقد ذهب الباحث الفرنسي، أستاذ العلوم السياسية، جان فرنسوا بايار (1950)، إلى عد الكلام عن "هوية طبيعية" محض وهم [18]، فكلّ هوية هي "بناء" (إنشاء) وغالباً حديثة العهد. إذ لا يوجد إلا "استراتيجيات هوياتية"، ينخرط فيها بعقلانية فاعلون معروفون، وتُقاد بأحلام أو كوابيس هوياتية، ننحاز إليها أحياناً لأنها تغوينا أو ترعبنا.

 لذا، يدعو بايار إلى إعادة ابتداع النموذج الديمقراطي الكوني بإزاء حروب الهوية في أفريقيا وآسيا والهند والشرق الأوسط، التي تتغذى مما يُسمى "هوية ثقافية" وترغب في مطابقتها مع "هوية سياسية".

في المقام الأخير، نختم بما انتهى إليه المفكّر المصري الراحل حسن حنفي (1935- 2021)، فالهوية عنده، ليست موضوعاً ثابتاً أو حقيقة واقعة، بل هي إمكانية حركيّة تتفاعل، فهي قائمة على الحرية، لأنها إحساس بالذات، والذات حرة. والحرية قائمة على الهوية لأنها تعبير عنها. والحرية تحرُرّ، أي: أنها إمكانيّة لأن يكون الإنسان حُراً. الهوية إمكانيّة على إمكانيّة [19]. الهوية إذاً ليست شيئاً معطى، بل هي شيء يخلق باستمرار. 

مراجع ومصادر

 
[1]  أمين معلوف، الهويات القاتلة، (دمشق، دار ورد للطباعة والنشر، 1999)، ترجمة د. نبيل محسن. ص 7.
[2]  المصدر السابق نفسه، ص 18.
[3]  المصدر السابق نفسه، ص 25.
[4]  نقلاً عن سامي خشبة، مصطلحات الفكر الحديث (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006)، الجزء الثاني، مادة هوية. ص 368.
[5]  سامي خشبة، المصدر نفسه. ص 369.
[6]  الفارابي، التعليقات. نقلاً عن محمد عابد الجابري: الموسوعة الفلسفيْة العربية، المجلد (بيروت: مركز الانماء العربي، 1986). ص 21.
[7]  من مقالة ستيفان وانغ (Stephen Wang) عن سارتر، " الهوية والحرية في الوجود والعدم"، ترجمة يوسف أيوب. موقع حكمة، 29/ 8/ 2019.
[8]  بول ريكور، الذات عينها كآخر (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005). ترجمة د. جورج زيناتي. ص 589.
[9]  نقلاً عن د. خالد البحري، "فكرة المنهاج وتأويلية الهوية"، ضمن كتابه: روح التفكّر الفلسفي، دروب خلق الذات ومقاومة الأزمات (تونس، دار نقوش عربية، 2022). ص 117.
[10]  ريكور، الذات عينها كآخر، مصدر مذكور، ص 424.
[11]  ريكور، الذات عينها، مصدر مذكور، ص 358.
[12]  نقلاً عن د. خالد البحري، روح التفكّر الفلسفي، مصدر مذكور، ص 130.
[13]  نقلاً عن أزراج عمر، "عن سياسات الغرابة وأخلاقيات التحليل النفسي"، ضمن كتاب: من أين جاءت ما بعد البنيوية؟ ومقاربات أخرى، ترجمة فادي أبو ديب (الأردن، فضاءات للنشر والتوزيع، 2019)، ط 1. ص 121.
[14]   المصدر نفسه ص 122. 
[15]  Julia Kristeva, Discours Prononcée au Collège des Bernardins, 1 octobre 2014. 17ème édition du cycle de conférences « Droit, Liberté et Foi » : « L'ÉTRANGER ».  son livre: Etrangers a nous-mêmes  (Pais, 1988). (Essais).
[16]   إدغار موران، النهج: انسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة د. هناء صبحي، (الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، - كلمة، 2009 ). ص.52.
[17]  المصدر نفسه، 54
[18]JEAN-FRANÇOIS BAYART,  L'Illusion identitaire (Paris, Ed. Fayard, 1996).
[19]  د. حسن حنفي، الهوية (2012)، (القاهرة، مؤسسة هنداوي، طبعة 2023). ص 12.