مأزق "العلاقات الفرويدية" بين ضفتي الأطلسي

لا أحد في واشنطن يكترث بالصرخة الأوروبية. روبرت كاغان، وهو أحد منظّري المحافظين الجدد، قال عام 2014: "نحن أبناء المريخ وهم أبناء الزهرة".

  • مأزق
    العلاقات الأوروبية الأميركية علاقات فرويدية؟

لا نتصور أن ثمة توصيفاً أكثر دقة، وربما أكثر درامية، من توصيف الكاتب الألماني غانتر غراس للعلاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي، في محاضرة ألقاها عام 2009 في جامعة مونستر الألمانية، بـ"العلاقات الفرويدية". هنا أوديب، بقبعة الكاوبوي، لا يفقأ عينيه بعدما اكتشف ما فعله، عن جهل، بأمه، بل يجرّها عمداً بحصانه، وهي عارية القدمين. قهقاته تجلجل في أرجاء المعمورة.

مفكرون وساسة أوروبيون تحدثوا عن "عقدة النورماندي"، حيث الإنزال الأميركي لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي (عملية "نبتون" في 6 حزيران / يونيو 1944).

آخرون تحدثوا عن "عقدة مارشال"، ليلاحظوا أن الأميركيين "الذين قالوا إنهم يريدون مساعدتنا لغسل أنقاض الحرب الحرب العالمية الثانية، انما غسلوا أدمغتنا وحتى أرواحنا". بعد ذلك بسنوات، لاحظ أندريه مالرو أن القارة العجوز "فقدت روحها"!

هكذا يعود هيغل، وماركس، وديكارت، وشكسبير، وحتى أرسطو وفرجيل، الى قبورهم ليحل محلهم، في المسار الثقافي للقارة، الفيس بريسلي، وجون ترافولتا، وحتى مادونا والليدي غاغا !

الآن، باستطاعة المؤرخ الفرنسي ألكسي دو توكفيل، مؤلف "الديمقراطية في أميركا"  (1834) ، أن يردد، ما ورد في كتابه، من أن الأوروبيين هم من خلق أميركا "وقد نكون بحاجة اليها لإعادة خلقنا". ما حدث أن "المخلوق الأوروبي بات صنيعة أميركية".

 أما المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي فرأى أنه "لولا اللغة الإنكليزية لما كانت أميركا". هل كانت تطورت على ذلك النحو لو أخذت باللغة الإسبانية أو باللغة البرتغالية؟

غالبية الذي تطرقوا الى ولادة الولايات المتحدة رأوا أنفسهم يصفون ذلك بـ"الولادة الأخرى للبشرية". القلة أشارت الى أنه لولا المجوهرات التي تركها العرب في قصورهم الأندلسية لما تمكنت الملكة إيزابيلا من تمويل حملة كريستوف كولومبوس.

الرحالة الإيطالي استعان بخارطة العالم الجغرافي العربي الفذ الشريف الإدريسي (1100 ـ  1165 م ) . دورية "هيستوريا" HISTORIA  نشرت صورة عن الخريطة وعليها ملاحظات كولومبس. وكان الإدريسي، وفي كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" قد سبق نيكولاس كوبرنيكس (1473 ـ 1543)، بعدة قرون، في نظرية كروية الأرض، ليضع مجسماً من الفضة بوزن 56 كيلوغراماً لكوكبنا.

 حين زار الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي لبنان عام 1993، أجريت معه مقابلة لوكالة "أورينت برس"، نشرت في عدد من الصحف العربية ، منها المجلة اللبنانية "الموقف العربي" التي كانت تصدر في قبرص. قال لي إن الكاتب والناشط  إيلي ويزل، كـ"شخصية أحادية البعد" (البعد اليهودي) أغفل عن عمد، في كتابه Verbatim ، الذي هو عبارة عن حوار طويل مع الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، قول هذا الأخير في إحدى إجاباته: "إذا كانت الأسطورة الأوروبية تقول إن الكرة الأرضية تقف على قرن ثور، فهي تبدو، في الواقع، وكأنها تقف على قرن ثور هائج هو الثور الأميركي". في هذه الحال من يعمل لتدمير الكرة الأرضية؟

 الأميركيون وضعوا يدهم على الاقتصاد الأوروبي، حتى أن الكاتب  والسياسي الفرنسي جان ـ جاك سرفان ـ شرايبر دعا، في كتابه "التحدي الأميركي" (1967) الى التبعية الصناعية والتكنولوجية للولايات المتحدة لا الى محاكاتها، وبعدما أحصى أن من بين 500 شركة كبرى في أوروبا، هناك 340 شركة أميركية.

 لم يعد الإيطالي يدعو الى عشاء يتصدره طبق الباراميغيانا بل طبق الشيزبيرغر. ولم يعد الأوروبي يفاخر بأنه خريج أكسفورد، أو كامبريدج أو السوربون. حلمه العبور الى هارفارد ، أو يِل  أو ستانفورد، أو معهد ماساتشوتس للتكنولوجيا MIT.

لا عبقرية فوق العبقرية الأميركية

لا أحد في واشنطن يكترث بالصرخة الأوروبية. روبرت كاغان، وهو أحد منظّري المحافظين الجدد، قال، في محاضرة في جامعة بروكينغز، عام 2014: "نحن أبناء المريخ وهم أبناء الزهرة".

أسئلة متلاحقة حول مآل الهوية الأوروبية. الذوبان في الحالة الأميركية، حتى أنك لتمر في الحي اللاتيني في باريس، وحيث كنت ترى جان ـ بول سارتر، وسيمون دوبوفوار، وريمون آرون، لم تعد ترى هناك سوى الحطام الفلسفي. لا عبقرية فوق العبقرية الأميركية، ولو كانت "عبقرية الهوت دوغ!".

 أين هو الاتحاد الأوروبي، في هذه الحال؟ منذ البداية، كان هناك من يضع شعاراً للاتحاد "حماية الثقافة الأوروبية من الاضمحلال". الفكرة ظهرت عقب سقوط القسطنطينية بيد السلطان العثماني محمد الثاني الفاتح عام 1453.

فكرة الاتحاد الأوروبي

عام 1464 طرح جورج بوديراد، ملك هوسيتي في بوهيميا، مشروع إنشاء "اتحاد بين الأمم الأوروبية، والمسيحية" ضد الأتراك. وفي عام 1728، دعا "فيلسوف التنوير أبوت شارل دو سان بيار Abbot Charles De Saint Pierre  إلى إنشاء رابطة أوروبية من 18 دولة "ذات سيادة"، بخزينة مشتركة وبلا حدود، على غرار الولايات المتحدة الأميركية ليدعم ذلك كل من المركيز دو لافاييت الذي قاتل الى جانب الأميركيين في حرب الاستقلال، وتاريوش كوسيوسكو الذي يعتبر بطلاً وطنياً في بولندا وليتوانيا وبيلاروسيا وحتى في أميركا التي آزرها، بدوره، في تلك الحرب.

 تمثّلاً بالولايات المتحدة، قدم جاسترزوفسكي، في كتابه "السلام الأبدي"، عام 1831 (77 مقالة) مفهوماً متكاملاً حول "الولايات المتحدة الأوروبية"، لإحداث ديناميكية سوسيوسياسية، وسوسيوثقافية، ولكن كمنظمة لا كـ"سوبر دولة".

 وفي عام 1848، وفي مؤتمر اكس لاشابيل، طرح الملك الكسندر الأول، باعتباره من أنصار مبدأ "الأممية"، فكرة الاتحاد الأوروبي، حتى أن الأديب الفرنسي فيكتور هوغو، صاحب رائعة "البؤساء" قال، في كلمة ألقاها في "المؤتمر الدولي للسلام"،بدعوة من السياسي الإيطالي (الماسوني) جوزيبي مازيني، عام 1849: "سيأتي يوم تشكل فيه جميع الدول في قارتنا جماعة أخوية أوروبية". والمثير قوله أيضاً "إنه ذلك اليوم الذي ستكون فيه الولايات المتحدة الأوروبية وجهاً لوجه مع الولايات المتحدة الأميركية".

هوغو كان متفائلاً بذلك. زرع شجرة في منطقة إقامته في جزيرة غيرنزي، معتبراً أنه "عندما تنضج هذه الشجرة ستظهر الولايات المتحدة الأوروبية". حتى يومنا هذا، لا تزال الشجرة تنمو في حدائق "ميزون دو هوت فيل" Maison de haute ville  .

الاتحاد الأوروبي ينمو أفقياً، ولكن مع ذلك التماهي الملتبس، أيديولوجياً واستراتيجياً، مع حلف شمال الأطلسي.

الانصهار في الماكينة الأميركية

التوجس من "الانصهار في الماكينة الأميركية" تبلور في القرن العشرين، خصوصاً لدى الساسة والمفكرين اليساريين.

في 16 أيلول / سبتمبر 1993، قال الملياردير الأميركي جورج سوروس، نجم وول ستريت": "من هذه القاعة يدار العالم".

وبالرغم من أن بريطانيا، كإمبراطورية لم تكن تغيب عنها الشمس، فهي سقطت، بأمر من الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور (بطل النورماندي)، على ضفاف السويس خريف 1956، فقد اختارت أن تضطلع بدور الظل للولايات المتحدة.

 هذا الأمر لم يمنع سوروس من القول لرئيس الوزراء البريطاني جون ميجور إنه بحركة من إصبعه يخلع الجنيه الاسترليني عن عرشه كما لو أنه يخلع الملكة اليزابيت عن عرشها، ليوصف سوروس بـ"الرجل الذي كسر بنك انكلترا". وبقيت بريطانيا ظلاً لمستعمرتها السابقة.

تشرشل: الولايات المتحدة الأوروبية 

لعل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل استشعر أن مؤتمر يالطا كرّس، وبوجوده بين فرنكلين روزفلت وجوزيف ستالين، تنائية القطب (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) لتتوزع القارة على المعسكرين. من هنا كانت دعوته المستغربة ـ كبريطاني ـ الى لإقامة "الولايات المتحدة الأوروبية".

كم يبدو التاريخ ساخراً، أو مثيراً للسخرية، حين يقترح وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال (في عهد هاري ترومان) إنشاء "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب". وبالفعل، عقدت في 18 نيسان / أبريل 1951، "المعاهدة المؤسسة للمجموعة الأوروبية للفحم والصلب" وضمت فرنسا، إيطاليا، ألمانيا الغربية، بلجيكا، هولندا، ولوكسمبورغ. وكانت نواة الاتحاد الأوروبي.

شارل ديغول ثابر على التأكيد أن الغاية من الاتحاد تشكيل بنية فلسفية  واستراتيجية للقارة، بحيث لا تضيع أو تتفكك بفعل التقلبات المزاجية أو الفوضوية للتاريخ. وكان دين أتشيسون قد قال، غداة إسقاط قنبلة هيروشيما النووية، "من هنا يبدأ التاريخ". ولكن بعد أقل من ربع قرن، أطلق فرنسيس فوكوياما نظريته حول "نهاية التاريخ". علّق أوليفييه روا في صحيفة "لوموند" الفرنسية على ذلك بقوله: "كما لو أن أميركا تعلن موت العالم".

وحين طلبت بريطانيا، عام 1963، الانضمام الى "معاهدة الفحم والصلب"، رفض ديغول "لأن بريطانيا ليست أوروبية بما فيه الكفاية". لا بل أن وزير العدل في حكومته آلان بيرفيت نقل عنه قوله إن بريطانيا بمثابة "القنبلة في الخاصرة"، حتى اذا ما خرج ديغول من الإليزيه، دخلت بريطانيا في المعاهدة (1969)، لتخرج من الاتحاد الأوروبي عام 2020. 

وإذ خشي فاليري جيسكارـ ديستان من انتقال "العدوى الإنكليزية" الى دول أخرى، مستعيداً "نبوءة الجنرال"، ما يزعزع الاتحاد، تفادى استخدام كلمة "القنبلة"، ليسأل ما اذا كان خروج بريطانيا "خروج الشوكة من الخاصرة".

لا دور لأوروبا سوى دور القهرمانة. حين أطلق فرنسوا ميتران دعوته لعقد مؤتمر حول أزمة الشرق الأوسط في مدينة البندقية (الإيطالية)، سارع توماس فريدمان الى كتابة مقال في "صحيفة نيويورك تايمز" مستعملاً، كعنوان، عنوان الرواية الشهيرة للألماني توماس فريدمان "موت في البندقية". لم تتجرأ أي دولة على المشاركة، كما لو أن ما حصل إعلان أخير بوفاة الدور الأوروبي.

وكان حلم جاك لانغ، وزير الثقافة الفرنسي السابق ومدير معهد العالم العربي، إعادة إحياء "التلاقح بين الثقافة الأوروبية والثقافة العربية، كسبيل لإعادة الروح الى القارة الأوروبية، والى القارة العربية"، قبل أن يعلن، في حديث لمجلة "لير" الثقافية أن أميركا تصرّ على ما يمكن وصفه بـ"الصورة الفرويدية" للمشهد، وحيث أوديب الأميركي، ودائماً بقبعة، أو ببندقية الكاوبوي، يجر أمه (أوروبا) بحصانه، وهي عارية القدمين.

ذاك الاختراق الأميركي المتعدد الوجوه للقارة العجوز أدى، في نظر العديد من المفكرين الألمان والفرنسيين، بوجه خاص، الى تفكيك الشخصية السوسيولوجية لمجتمعات القارة. هذا ما يفضي، جدلياً، الى حدوث اختلال في "الروح الأوروبية" التي تتلاشى أكثر في "الروح الأميركية". من هنا سؤال مجلة Esprit الفرنسية ما إذا كانت هناك روح أميركية؟

رؤساء أوروبيون لأميركا

 هنا التبعية أم الاندثار. ربما من أطرف ما كتب حول ضرورة "الاندماج مع الشخصية الأميركية"، ما ورد في كتاب جان فرنسوا ريفل "هاجس (أو وسواس) العداء لأميركا"، قوله إن جميع الرؤساء الأميركيين (باستثناء باراك أوباما في وقت لاحق) هم من أصول أوروبية، ما يعني أن الأوروبيين هم من يقودون الأميركيين لا العكس.

هذا الرأي لا يعجب الأميركيين الذين يؤكدون على "أميركية أميركا". أحد الأمثلة في طريقة تفكير الرئيس الخامس للولايات المتحدة جيمس مونرو، عبر "مبدأ مونرو" عام 1823، الذي كان يخشى انتقال "الطاعون الأوروبي" الى العالم الجديد، ما حمل الكاتب الساخر مارك توين على التعليق قائلاً: "وكان رئيسنا العزيز يريد تجفيف المحيط الأطلسي كي يقطع أي صلة لنا بالضفة الأخرى من المحيط".

الآذان والعيون الأميركية مقفلة في وجه الأوروبيين الذين يعتبرون أنه لولا أن قاموا، بدور العربة الأميركية، لما كان باستطاعة الولايات المتحدة أن تنتشر، لا استراتيجياً، ولا ثقافياً، في أصقاع الدنيا. ولكن أول شيء فعله الأميركون أنهم أزالوا أي وجود للأوروبيين في المناطق التي يحطون فيها. الدور هنا هو القهرمانة في غرفة الملك.

هذا منذ مؤتمر يالطا (شباط / فبراير 1945) إذ وصف جوزيف ستالين ونستون تشرشل الذي شارك في المؤتمر بـ "الروح القدس"، فقد بدا واضحاً أن دور رئيس الوزراء البريطاني اقتصر على "مباركة"الثنائية الأميركيةـ السوفياتية، لتندلع، بعد سنوات قليلة، الحرب الباردة، وتزداد حدة الولاء لكل من طرفي تلك الثنائية.

أميركا تدجّن الدول

في مذكراته، سأل أندريه غروميكو، وزير الخارجية السوفياتي ثم رئيس مجلس السوفيات الأعلى لاحقاً، ما اذا كانت أميركا "كثور هائج" (تماماً كما وصفها ميتران) "احترفت تدجين الدول، كما الثيران، داخل الحظيرة المكهربة. في هذه الحال، كيف لها أن تتحمل محاولة أي دولة أخرى أن تتعامل معها وفق المعادلة النيتشوية "المطرقة مقابل المطرقة"؟

لا مجال للـ"لا" في حضرة الإمبراطورية. دونالد ترامب لم يجد مبرراً لبقاء حلف شمال الأطلسي. لكن وزير دفاعه الجنرال جيمس ماتيس قال له: "لكن أوروبا، يا سيدي الرئيس، ذراعنا الثالثة".

إيمانويل ماكرون ليس قطعاً من إنتاج رينيه ديكارت، وإنما من نتاج البارون دو روتشيلد الذي يشكو ورثته، بالثقافة الأخطبوطية أيضاً، من الصراع مع المؤسسات المالية والمصرفية  الأميركية العملاقة. منافسه على الاليزيه جان ـ لوك ميلنشون (زعيم حزب "فرنسا الأبية" رأى فيه المثال في الزبائنية السياسية والمالية. ألم يقل لـ"الايكونوميست" إن الأطلسي أصيب بالسكتة الدماغية. كما دعا الى إنشاء قوة أوروبية مستتقلة، ليفاجأ العالم بأن انقلاباً حدث في رأس رجل الإليزيه، المزايدة على البريطانيين في التبعية العمياء للولايات المتحدة.

العبودية لأميركا

لا باس أن نستخدم المصطلح الذي كان يستخدمه جورج مارشيه، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي، في وصفه لعلاقة بعض الساسة أو بعض الأنظمة، بالولايات المتحدة: العبودية لأميركا". وفي كلام أخير له، حذّر ميلنشون من "أن تُدفن عظامنا مع عظام الضحايا في أوكرانيا". 

هذا ما يحدث للاقتصاد، وللسياسة، وحتى للثقافة وللإعلام في أوروبا. غالبية المفكرين والأدباء والإعلاميين باتوا جزءاً من الأرمادا الأميركية.

آني أرنو، التي حازت جائزة نوبل للآداب العام الفائت، تصدرت غلاف مجلة L'OBS ـ عدد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2022، استخدمت كلمات في توصيف فلاديمير بوتين لا تليق حتى بأولاد الأزقة.

 الانحطاط الثقافي كرديف "عضوي "للانحطاط السوسيولوجي، بحسب عالم الاجتماع بيار بورديو، لكأنه تنبأ قبل رحيله عام 2022، بـ"التقاطع التراجيدي بين أزمة الوعي وأزمة اللاوعي" لدى المثقف الأوروبي أمام التسونامي الأميركي. بالحرف الواحد خشي من "انحسار البعد الإبداعي" لدى المثقف الأوروبي الذي يفترض أن يكون قد ترعرع داخل ذلك المخزون الفلسفي، والفكري، والتاريخي، المترامي.

أساقفة التفاهة    

 مرة أخرى، إيمانويل ماكرون ينقلب على إيمانويل ماكرون. مواقف مدوية لدى زيارته الأخيرة للصين. قناة "فوكس نيوز "ذهبت في سخريتها الى أبعد الحدود قائلة: "هناك داخل الادارة من راهن، وبسذاجة منقطعة النظير، على أن يغسل الرئيس الفرنسي دماغ (الرئيس الصيني) شي جين بينغ، فإذا به يعود من الصين، وهو يتكلم... بالصينية".

قد تكون مواقف ماكرون انعكاساً للأسئلة الكثيرة التي تطرح في الظل "أي اقتصاد أوروبي، بل أي دول أوروبية بعدما تضع الحرب أوزارها؟". منذ أشهر، وبعدما انتزع جو بايدن من يد الفرنسيين صفقة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية الى أستراليا (وهي صفقة القرن)، وتشكيله الحلف الثلاثي (أوكوس) مع كل من بريطانيا وأستراليا، أجمع المستشارون الاقتصاديون في الإليزيه على أن "نتلقف الهدية ـ الصدمة الأميركية بالاتجاه الى طريق الحرير". هذا ما نقلته صحيفة "ليزيكو"، مشيرة الى الخطوات التي اتخذتها إيطاليا بتوقيع مذكرة تفاهم مع الصين حول مشروع "الحزام والطريق".

في باريس هناك مجموعة من المفكرين الذين يطلق عليهم "أدمغة الزوايا". هؤلاء الذين لا يجتذبهم الضوء، ولا الضوضاء، يصفون أساقفة السلطة بـ"أساقفة التفاهة"، ويحذرون من الانسياق الميكانيكي وراء "الهيستيريا الأميركية"، ليذكّروا بأن الأميركيين "يحترفون إذلالنا". هذا ما حدث في أفغانستان، حيث لم تبلغ إدارة الرئيس جو بايدن الحلفاء الأوروبيين الذين حاربوا الى جانبها هناك على مدى 20 عاماً، بالانسحاب. تركوا العسكريين الحلفاء في العراء بين "ذئاب طالبان".

أبعد من ذلك. أدمغة الظل يرون إذا استمرت الحرب الأوكرانية، بالاستنزاف المنهجي للإمكانات الاقتصادية، فإن القارة العجوز قد تتحول الى حطام اقتصادي، أقرب ما يكون الى الحطام الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، ومن دون أن يستطيع الأميركيون، أو يريدوا، أن يطلقوا مشروع "مارشال2". العكس هو الذي يحصل. الكونغرس ماضٍ في سنّ التشريعات التي تؤمن الدعم والحماية للشركات الكبرى، في حين تبدو الشركات الأوروبية، كحلقة أضعف، في مهب الريح.

الخشية من العلاقات الصينية الأوروبية

لا سبيل سوى "كبح جماح حصان أوديب" بالاتجاه الى الصين. دومينيك دو فيلبان، رئس الحكومة الفرنسية السابق لا يخشى فقط من "تعريتنا اقتصادياً بل سوسيولوجياً أيضاً"،من خلال تصوير الأميركيين للتنين بالتخطيط لابتلاع أوروبا.

ما يكتبه، أو ما يقوله أنصار "اللوبي الصيني" في القارة الأوروبية يختزل بأن الصينيين لا يحاولون أن يفرضوا أسلوب حياة على المجتمعات التي يتعاونون معها، كما أن اللغة الصينية لا تتناغم مع التشكيل السيكولوجي للشخصية الأوروبية. لا تهديد للغة، ولا تهديد للهوية، لا بل إن الصينيين أكثر قابلية لتبني أسلوب الحياة في أوروبا.

هل يمكن الرهان على انفجار "العلاقات الفرويدية" بين ضفتي الأطلسي؟ الاجابة تأتي من خبراء في معهد "بيونس انسايدر". هؤلاء يعتقدون أن عالم ما بعد حرب أوكرانيا سيكون مختلفاً عن عالم ما قبل حرب أوكرانيا.

ما يثير الذهول هنا أن السناتور الأميركي الجمهوري البارز ماركو روبيو، وتعقيباً على تصريحات ماكرون، دعا للانسحاب من أوكرانيا، وترك الأوروبيين يواجهون الروس بمفردهم، كما لو أن الأوروبيين هم من أشعلوا الحرب ولمصلحتهم، في الصراع على قيادة العالم، وليس الأميركيون!

فوراً، ضجت مواقع التواصل ضد روبيو، وضد الأميركيين بشكل عام، حتى في بلدان أوروبا الشرقية. إذ استعاد كثيرون التعبير الذي استخدمه المناوئون لسياسات واشنطن في أميركا اللاتينية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وهو "اليانكي البشع". أبدت مغنية الأوبرا البولندية تيريزا كوبياك خشيتها من أن "يبيعنا جو بايدن لفلاديمير بوتين مثلما باعنا فرنكلين روزفلت لجوزيف ستالين في يالطا بأقل بكثير من ثلاثين من الفضة".

نستعيد في هذا السياق كلام الفيتنامي نام ثانه نغوين، الأستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا (لوس انجلس)، من "أن القادة السياسيين والعسكريين في الولايات المتحدة يشعرون بالانتشاء حين يملأون ذاكرتهم ومذكراتهم بالجثث". 

هو الذي وصف، في أعماله، ومنها رواية "المتعاطف" التي حازت جائزة "البوليترز": كيف داس الجنود، بأحذيتهم الثقيلة، الأطفال الذين بقوا على قيد الحياة في سايغون، وهم في الطريق الى القواعد الجوية للعودة، في لحظات أبوكاليبتية، الى ثكناتهم في الولايات المتحدة. هذا إذا عدنا الى الفيلم الشهير لفرنسيس فورد كوبولا عن الحرب في الهند الصينية "Apocalypse now"، أي "القيامة الآن".

إثارة "صراع الحضارات"

بعد إثارة مفكرين غربيين من "الجنس الأبيض"، وعلى هامش الحرب الحالية، مسألة الصراع بين الحضارة السلافية والحضارة الأنكلوسكسونية، يرى أولئك الخبراء أن التغيير الذي يمكن أن يحصل لا يقتصر على العلاقات والمعادلات الاستراتيجية، بل سيتعدى ذلك الى المسارات الحضارية لدى الأمم.

صمويل هانتنغتون، وفي نظريته حول "صدام الحضارات"، اختزل ذلك بالصدام بين الحضارة اليهومسيحية والحضارة الكونفوإسلامية. هل نكون أمام الصدام بين الحضارة اليهوأميركية والحضارة الكونفوأوروبية؟ ماذا عن الهند؟ ثمة رئيس وزراء بريطاني من أصل هندي (لنلاحظ كيف يتبدل مجرى التاريخ؟) الأميركيون قد يقولون بـ "الحضارة الأنكلوساكسونية الهندوسية".

العالم الأنثروبولوجي كلود ليفي ـ شتراوس قال "قد يكون هناك آدم أميركي وآدم أفريقي أو آسيوي، ولكن لا آدم أميركي وآخر أوروبي. حتى أن التداخل، وليس فقط التناغم، في الإيقاع الفلسفي يتجلى في إحلال نيتشه محل أفلاطون في كل من أميركا وأوروبا. اذاً، السوبرمان الأميركي هو السوبرمان الأوروبي الذي ينتهك ثقافات الأمم وثروات الأمم، الى أزمنة الأمم.

هذا ما يرتطم بأفكار الأميركي ديفيد ستولينسكي الذي يعتبر أن "أميركا انقلاب على كل ما هو أوروبي". جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، قال في خطاب الوداع، "لدى أوروبا سلة من الاهتمامات لا تمثل لنا سوى القليل".

مثلما وقع من ملايين السنين زلزال جيولوجي جعل المحيط الأطلسي يفصل بين الضفتين، هل يقع زلزال استراتيجي يضع الضفتين وجهاً لوجه؟ هذا ما توقعه فيكتور هوغو. لا نتصور أن أوديب يستطيع أن يترك حصانه يجر أمه عارية القدمين الى الأبد...

 المراجع

•  ديفيد ستولينسكي، "الاتحاد الأوروبي ـ ساسة وسياسات". 

•  هنري فورد، "اليهودي العالمي ... أكبر مشكلة في العالم".

•  جان ـ فرنسوا ريفل، "الوسواس الأميركي".

•  مذكرات أندريه غروميكو.

•  كلود ليفي ـ شتراوس، "الفكر المتوحش".