ما هو السياق التاريخي لهجرة الجزائريين إلى بلاد الشام؟

جزائريو الشام.. لماذا هاجروا إليها؟ من هم أبرز شخصياتهم وماذا قدموا؟

تأسَّست الجزائر ككيان حديث في القرن الــ 16م ضمن سياق مواجهة المشاريع التوسُّعية الإيبيرية بدايةً ثم الأوروبية لاحقاً، وتحوَّل نشاط البحرية الجزائرية في غرب المتوسّط، وفي مناطق أبعد في فتراتٍ مُعيَّنة، إلى مصدر تهديدٍ للمصالح الأوروبية ولطموحاتها في احتكار التجارة من جهة، وإلى مصدر دخلٍ رئيسيٍّ لخزينة البلاد من جهة أخرى.

لم تتوقَّف الحملات الأوروبية على الجزائر طيلة القرون 16 و17 و18م لإخضاعها، ومع بداية القرن الــ 19م بدأ تراجع البحرية الجزائرية يظهر جليّاً، تاركاً الساحة لقوى بحرية كبرى جديدة وأكثر تطوراً، تراجعت معها قدرة البلاد على مواجهة الحملات المعادية، كما اتَّضح ذلك مثلاً في قصف مدينة الجزائر سنة 1816 من قبل الأسطول الهولندي الإنكليزي المشترك الذي انتهى بفرض توقيع معاهدة صلح بشروط قاسية، وصولاً إلى سقوط مدينة الجزائر في يد الحملة الفرنسية سنة 1830، كآخر حلقة من حلقات هذا الصراع الطويل الذي دام لأكثر من ثلاثة قرون.

تلك الحملة التي لم تكتف بـــ "تأديب" إيالة المغازي فحسب، بل تحوَّلت إلى استعمار استيطاني عنيف، صادر الأراضي وأباد قبائل برُمَّتها، وأصدر قوانين تعسفية تمييزية على غرار قانون الأهالي، وفكَّك بنيات المجتمع الجزائري التقليدية الاقتصادية والاجتماعية ففرض عليه الهجرة نحو باقي بلاد المغرب والمشرق، خصوصاً بلاد الشام.

تلك المحطات تتناولها هذه الورقة البحثية لتقصي ظروف وسياق هجرة الجزائريين إلى بلاد الشام خصوصاً. 

سوسيولوجيا الهجرة في الجزائر

  • الأمير خالد بن الهاشمي بن عبد القادر الجزائري
    الأمير خالد بن الهاشمي بن عبد القادر الجزائري

لم يتناول أحدٌ من علماء الاجتماع الهجرة، باعتبارها ظاهرة سوسيولوجية ذات أبعاد مركّبة، كما فعل عالم الاجتماع الجزائري عبد الملك صياد (1933-1998)، فمساهماته كانت الأكثر إنتاجاً وأصالةً خلال القرن العشرين حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (1)، وإن كانت دراساته قد انصبَّت بالدرجة الأولى على تحليل ظاهرة الهجرة نحو فرنسا، فإن المنهج الذي اتَّبعه، ووسائل البحث التي اعتمدها، تسري على هجرة الجزائريين إلى الشام أيضاً، وهو ما يحتاج إلى دراسة مستفيضة ومعمقة ليس هنا مجالها.

اهتم عبد الملك صياد بالهجرة من خلال دراسة تشمل مجتمع المهاجرين الأصلي، كما المجتمع الجديد المُهاجر إليه، ويكون بذلك قد تجاوز تناول الظاهرة باعتبارها تمركزاً إثنياً أو عرقياً (2)، فآثر أن يُحلِّل ظروف المهاجرين بالاعتماد على واقع مجتمعهم الأصلي؛ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، لذا فإنه عندما قسَّم الهجرة إلى ثلاث مراحل عُمْرِية (3)، اعتبر أن المهاجر في المرحلة الأولى منها، والتي حدَّدها زمنياً في القرن 19م، تحرَّك تنفيذاً لأوامر التنظيم القبلي (الجماعة  أو تجمعات عند المناطق الناطقة بالبربرية) الناظم للحياة الاجتماعية في الأرياف الجزائرية، البربرية منها والعربية، فيحافظ على ارتباطه العضوي ببنيته الاجتماعية التقليدية فيعمل فعلياً على ضمان ديمومتها واستمرار سطوتها على سلوكه ونمط عيشه. 

 

في هذه المرحلة من النصف الثاني للقرن 19م، كان الهاجس الرئيس للمهاجر هو الحفاظ على استمرار قيم جماعته الريفية وتقاليدها الزراعية التي واجهت تحوُّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية كبرى نتيجة اقتحام النمط الرأسمالي الاستيطاني لمجالاتها، ومعرفة السياق التاريخي لهذه التحوُّلات في المجتمع الزراعي الريفي ضرورية من أجل فهم الآليات الاجتماعية، التي وإن حاكت نظيرتها في المجتمع الرأسمالي لم تكن ناتجة من تطور داخلي لهذا المجتمع بقدر ما أقحمها الاستعمار بشكلٍ عنيف (4). هذا الدخول القسري للنمط الرأسمالي الاستيطاني بمضمونه الاقتصادي - الاجتماعي أدَّى بلا شك إلى إحداث خلل بالبنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التقليدية للريف الجزائري أصبحت معه الهجرة ضرورية كما يقول عبد المالك صياد، والهجرة (ترك الأرض)، كانت منبوذة في قيم المجتمع الريفي الزراعي الجزائري لولا حدوث هذا الخلل.

الدخول القسري للنمط الرأسمالي الاستيطاني بمضمونه الاقتصادي - الاجتماعي، أدَّى إلى إحداث خلل بالبنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التقليدية للريف الجزائري أصبحت معه الهجرة ضرورية".

هذا الرابط المتين بين المهاجرين وخصوصيات جماعتهم جعلتهم أمام رهان التعامل مع خصوصيات المجتمع الجديد، وهو ما حدَّد حتماً مصير وحركة المهاجرين وعلاقتهم بالمجتمع المُهاجر إليه، لناحية الاندماج التام أو التمايز، كما لناحية الوعي السياسي والثقافي بمصيرهم، كما سنرى في حال المهاجرين الجزائريين إلى بلاد الشام.     

من المغرب إلى المشرق... الهجرة الشاقة نحو بلاد الشام  

  • الطاهر الجزائري
    الطاهر الجزائري

بإمكاننا التأريخ لبداية الهجرة الجزائرية نحو المشرق والشام خصوصاً في سنة 1832 حسب ما ذهب إليه الأكاديمي الجزائري عمَّار هلال (5)، أي بعد سنتين من سقوط مدينة الجزائر، لكنها على ما يبدو لم تتحوَّل إلى ظاهرةٍ مثيرةٍ للاهتمام إلا مع نهاية القرن 19م، فيما اعتبر المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجرون في كتابه "الجزائريون المسلمون وفرنسا" أن أهم هجرات الجزائريين إلى بلاد الشام كانت في سنوات 1837، 1849، 1854، 1861، 1864، 1870، 1871، 1874، وصولاً إلى ما يُعرف بالهجرة التلمسانية في سنة 1911 (6).

لقد كانت هجرات ترتبط بتداعيات النظام السوسيو - اقتصادي  الذي فرضه الاستعمار الاستيطاني على المجتمع الريفي الجزائري، وتفكيكه المُمَنْهج والعنيف لبنياته التقليدية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مُمثَّلةً خصوصاً في القبيلة ونظامها الاجتماعي، وأنماط الإنتاج والملكية السائدة، والطرق الصوفية وزواياها.

كما تُجسِّد هذه الهجرات أيضاً الفشل الذريع للمقاومات الشعبية، التي لم تتوقَّف طيلة القرن 19م، في صدِّ التوسع الاستعماري، فكان واضحاً أن تزايد الهجرة كان يعقُب كل هزيمة للمقاومة، كما رأينا مثلاً مع هزيمة ثورة المقراني والشيخ الحداد، اللذين قادا القبائل الكتامية البربرية وغيرها من أتباع الطريقة الصوفية الرحمانية في سنة 1871، والثورات المختلفة لقبيلة أولاد سيد الشيخ العربية ومن حالفها من القبائل العربية والبربرية في ستينيات وثمانينيات القرن 19م، وآخرها ثورة الشيخ بوعمامة.

لكن أثر هزيمة الأمير عبد القادر الجزائري سنة 1847 كان بالتأكيد الأهم والأبرز، ليس لاتساع رقعة ثورته وطول مدتها (1832-1847) ولعدد وحجم القبائل والزوايا الصوفية التي تجنَّدت تحت لوائه فحسب، بل لأن الأمير الإدريسي حمل مشروعاً طموحاً مُميَّزاً عن باقي المقاومات المحلية وقاتل من أجله، وتمثَّل في تعبئة الجزائريين لبناء دولة حديثة ترث"الكيانية الجزائرية" وتُسقط النظام الاستعماري، ولما تمتَّع به من قدرات فكرية ودينية واجتماعية، فإن سلطته المعنوية على الجزائريين جعلت من استقراره في بلاد الشام عامل جذب لهم، وهو ما سنراه لاحقاً، وذكر هذه الأسباب لا يتنافى مع وجود هجرات محدودة للشام والحجاز للتجارة أو للحج أو لأسباب أخرى.

من الشواهد التي تدلِّل على القوة العددية التي كانت للجزائريين في الشام بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري، هي دوره في إنقاذ أرواح الكثير من المسيحيين في الفتنة الطائفية التي بدأت في جبل لبنان وامتدت إلى دمشق.

حمل غالبية الجزائريين الذين شدّوا الرحال إلى بلاد الشام معهم مآسيهم وذكرياتهم وارتباطهم بتنظيمهم القبلي والديني الذي رخَّص وبارك لهم هذه المغادرة إلى بلاد بعيدة (7)، مرفوقين بأزواجهم وأولادهم، في رضوخ واضحٍ للأمر الواقع باعتبار أن الهجرة مع كل العائلة تعني ضمنياً إبعاداً لنية الرجوع. ومن الطبيعي أنَّ غالبية العائلات المهاجرة، كانت تنتمي إلى الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً بالتحوُّلات التي أحدثها الاقتحام العنيف للنظام الرأسمالي الاستيطاني، وهم المزارعون ومُلاَّك الأراضي في السهول الخصبة في وسط وغرب الجزائر أو من سكان منطقة القبائل الجبلية.

ومع ذلك، تُسجِّل لنا التقارير الفرنسية وجوداً لافتاً لصغار التجار ولأصحاب الحرف؛ كالبناء والحدادة والخبازة والنجارة والنساجة وغيرها، وقد وصلت طلائعهم منذ سنة 1847 إلى مدينة دمشق، ثم لحقتهم موجات أخرى في سنوات 1857 و1871 في أعقاب هزيمة مقاومة المقراني، فمُنحت لهم أراض زراعية في ضواحيها، ليتشكل بعدها "تنظيمٌ اجتماعي" مُعيَّن للمهاجرين الجزائريين في الحواضر والأرياف الشامية قام على نزول أعيان القبائل وقادة المقاتلين في دمشق وضواحيها ، والمزارعين في قرى الجليل، وبعض أصحاب الحرف في حلب وبيروت وصيدا، أشرف عليه الأمير عبد القادر الجزائري الذي استفاد، مع عائلته وكبار قادة دولته المُجهَضَة، من امتيازات الضيافة التي منحتها له الإمبراطورية العثمانية في الشام.

وورد في أحد التقارير الفرنسية (8) أن ابني الأمير عبد القادر عليا وعبد الله كانا يُنسِّقان مع السلطات العثمانية من أجل منح مزيد من الأراضي للجزائريين في دمشق والجليل، وتسهيل انخراطهم في الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، كما حدث مع ابنه الأمير محمد الذي أصبح ضابطاً كبيراً في الجيش الإمبراطوري العثماني، يتحدَّث التقرير أيضاً عن نشاطات ابنه الآخر محيي الدين في إسطنبول في تنظيم صفوف المهاجرين الجزائريين.

ومن نافلة القول أن هجرة الجزائريين إلى بلاد الشام تختلف في طبيعتها وحجمها عن هجرتهم بعد استقرار الأمير فيها سنة 1856، بعد خروجه من سجنه في فرنسا، ولم تكن أول زيارة له إلى مدينة عشقها لأن ثراها يضم قبر شيخه ومُعلِّمه أحد أقطاب العرفان والتصوف الفلسفي الشيخ الأكبر ابن عربي، فقد زارها في رحلته للحج بين سنوات 1826 و1828.

وصل الأمير إلى سوريا ومعه 110 أشخاص بينهم 27 من عائلته، ثم تبعه 100 آخرون وصلوا إلى دمشق من بروسيا عبر البر(9)، ثم تزايدت أعداد أخرى انضمَّت إلى من كان قد وصل مبكراً واستقر في ريف دمشق أو حمص أو حوران.

وكان الشيخ أحمد بن سالم مِمَّن وصلوا قبله إلى دمشق وهو أحد أصحابه وكبار ولاة دولته، ومنها استدعى أبناء منطقته من قبيلة زواوة الكتامية للالتحاق به، استطاع ثمانون منهم أن يلتحقوا به فأنزلهم في ميناء بيروت، والتحق به آخرون أنزلهم في قرى الجليل، فتضاعفت أعداد المهاجرين نحو الشام وخصوصاً في دمشق وريفها بعد استقرار الأمير فيها.

وإذا كان من العسير إحصاء عدد الجزائريين في سوريا في تلك الفترة لكن الاعتماد على أرشيف المراسلات القنصلية الفرنسية في دمشق يعطينا فكرةً عن عددهم المهم وتأثيرهم الكبير، ففي رسالة وجَّهها القنصل الفرنسي إلى سفير بلاده في اسطنبول تحدَّث عن وجود أعداد كبيرة للمغاربة (ويقصد هنا الجزائريين)، وأشار إلى أن 1000 فارس منهم يساهمون إلى جانب الجيش العثماني في حراسة قافلة الحجيج من دمشق إلى المدينة (10).

ومن الشواهد التي تدلِّل على القوة العددية التي كانت للجزائريين في الشام بقيادة الأمير عبد القادر، هي دوره في إنقاذ أرواح الكثير من المسيحيين في الفتنة الطائفية التي بدأت في جبل لبنان وامتدت إلى دمشق، ولم يكن ذلك الدور، عكس ما يعتقد الكثيرون، بسبب مكانة الرجل الدينية والاجتماعية فحسب، بل كان تدخلُّه فاعلاً من خلال أوامره لألفٍ من فرسانه المسلحين لحماية العائلات المسيحية والرهبان والراهبات الذين استضافهم في الحي الذي سكنه المهاجرون الجزائريون، وأغلبهم من بربر قبيلة زواوة الكتامية، الذي عُرف بخان المغاربة أو باب السويقة.

ونقرأ في إحدى الروايات التاريخية حول تلك الفترة التي جمعها المؤرخ السوري الراحل سهيل زكار؛ أنه أرسل"عبد القادر رجاله المغاربة..واستحضر رهبان اللعازارية مع الراهبات وما عندهم من الصبيان والبنات، وأرسل كامل المغاربة الموجودين أفواجاً إلى حارة النصارى وأمرهم أن يستحضروا النصارى تحت الحفظ من دون أذية أو مضرة ما، فكل من حظي بيد المغاربة حفظ حياته،...وكانت المغاربة باذلة جهدها باستخلاص النصارى ومثله بين المهايني في حارة الميدان..."(11)، بل وتتحدَّث بعض المصادر عن حمايته لقوافل اللاجئين منهم على طريق دمشق - بيروت. 

وبلا أدنى شك فإن هيبة الأمير عبد القادر الإدريسي الجزائري الاجتماعية والدينية أهَّلته لنيل مكانة مرموقة وسط أهل الشام، فقد التف حوله أعيان دمشق وكبار تجارها وأشرافها، وجمع حوله التلاميذ والمريدين في أثناء الدروس التي كان يلقيها في المدرسة الجقمقية أو في المسجد الأموي. بل إن طلائع القوميين العرب في بلاد الشام فكَّرت في ترشيحه أميراً لدولة عربية مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية في حال تعرض بلاد الشام لخطر استيلاء دولة أوروبية كما ذكر المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري في كتابه "التكوين التاريخي للأمة العربية"، ومحسن الأمين في كتابه"أعيان الشيعة" عندما تحدَّث خلال ترجمته للسيد محمد الأمين على أن سبب نفيه من قبل السلطات العثمانية إلى طرابلس كان مشاركته في مؤتمر سري دعا إلى إنشاء دولة عربية يكون الأمير عبد القادر الجزائري حاكما لها.

ويؤكد محمد جابر آل صفا صاحب كتاب "تاريخ جبل عامل"، أن ممثلين عن شيعة جبل عامل شاركوا في مؤتمرٍ سري عُقد في دمشق من أجل إعلان دولة مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية وجعل عبد القادر الجزائري أميراً عليها، لكونه "رجل علم وأخلاق وسبق له أن أنشأ دولة عربية مستقلة في بلاد المغرب الأوسط"، كما كتب عادل الصلح في كتابه "سطور من الرسالة"(12)، لكن الأمير عبد القادر رفض هذا العرض فقد كان يرى في أي صدام مع الإمبراطورية العثمانية صراعاً يضعف موقفها أمام الدول الأوروبية المتربصة.               

تواصلت ظاهرة هجرة الجزائريين إلى بلاد الشام إلى غاية العقدين الأولين من القرن العشرين، في ظل سياقٍ سياسيٍ مختلف، تميَّز ببدايات التغيير السياسي في الامبراطورية العثمانية بوصول نخبة جديدة للحكم، واصطفاف حاد بين ألمانيا كحليف للإمبراطورية العثمانية وبين بريطانيا وفرنسا، كانت منطقة المغرب أحد مسارحه.

في أحد التقارير التي وردت للحاكم العام سنة 1909 تحدَّثت عن وصول أكثر من 17000 من مناطق الشرق الجزائري؛ قسنطينة، بجاية، سطيف وجبال الأوراس إلى بلاد الشام منهم مثلا 7000 في دمشق و300 في خرب الشياب في ريفها، و500 آخرون في حمص ومثلهم في كفر ناسج في ريف درعا، و500 في حوران و100 في طبريا و2000 في بلدة ديشوم في ريف صفد و3000 في الجليل و1000 في القدس وضواحيها وغيرها.

وفي سنة 1911 ظهرت هجرة لافتة جديدة للشباب الفارين من قانون التجنيد الإجباري للجزائريين نحو سوريا من مدينة تلمسان في غرب الجزائر عُرفت بـــ "الهجرة التلمسانية"، والتي جاءت في سياق هجمة فرنسية على المنطقة انتهت بسقوط المغرب الأقصى سنة 1912.

الإدارة الاستعمارية وظاهرة الهجرة إلى المشرق والشام

  • الأمير عبد القادر الجزائري
    الأمير عبد القادر الجزائري

لم تكن الهجرة إلى بلاد الشام منذ القرن 19م وصولاً إلى بداية القرن العشرين مُرخَّصة من الإدارة الاستعمارية، وقد درست كل أبعادها من خلال تكليفها لمختصين إعداد تقارير مُفصَّلةً عنها؛ تقارير لوسياني، فارنيي، مارسي...الخ، فيما انقسم موقف المستوطنين في تحليلهم لأبعاد الظاهرة وتداعياتها على مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية بين رأيين متناقضين. يشجع الأول الهجرة باعتبارها تساعدهم على استيطانٍ أوسع وأقوى بالاستيلاء على مزيدٍ من الأراضي وتُقوِّي موقعهم كجماعة ضغط (لوبي) مُؤثِّرةٍ في السياسة الفرنسية، فيما ذهب الرأي الثاني إلى أن للهجرة الجزائرية الكثيفة تداعيات سلبية على مصالحهم الاقتصادية باعتبارها تعني ضمنياً نقصان اليد العاملة الرخيصة، وهو الرأي الذي تبنَّته في النهاية الإدارة الفرنسية، وجسَّدته على أرض الواقع بمجموعة من القوانين والإجراءات التي هدفت بها ردع "الأهالي" عن الهجرة كإلغاء منح جوازات السفر، واستعمال القوة ضد جلب من لا يمتلك ترخيصاً منهم، ويبدو أن كل هذه الإجراءات القمعية لم تتمكن في النهاية من الحد من الظاهرة بل لعلَّها أعطت نتائج عكسية (13).

عمدت الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى كل الأساليب الدعائية من أجل حمل الجزائريين على العودة إلى أرضهم أو تحذيرهم من الهجرة إلى الأراضي العثمانية، وقد وصل بها الأمر أن استحضرت فتوى تُحرِّم الهجرة الجماعية للمسلمين.

كما أنَّ تشجيع العثمانيين لهجرة الجزائريين إلى بلاد الشام ومنحهم جنسيتها لهم فور وصولهم لم يكن يُنظر إليه بعين الرضا من الفرنسيين، ما تسبَّب في توتر العلاقات بينهم في فترات مختلفة من القرن19م وبداية القرن العشرين، وعمدت الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى كل الأساليب الدعائية من أجل حمل الجزائريين على العودة إلى أرضهم أو تحذيرهم من الهجرة إلى الأراضي العثمانية.

ووصل الأمر بها أن استحضرت فتوى تُحرِّم الهجرة الجماعية للمسلمين وحمل السلاح في وجه الكفرة ما داموا لم يتعرضوا للدين بالأذى وما دام المسلمون عاجزين عن إخراجهم بالقوة. أعدَّ هذه الفتوى أحد جواسيس فرنسا ويُدعى ليون روش، استطاع أن يُقنع كبار كبريات المرجعيات الدينية آنذاك في القيروان والقاهرة ومكة بتوقيعها، بعد أن تنكَّر في هيئة عربية، ونشرتها على أوسع نطاق ففرضتها على خطب الجمعة، وعلَّقتها على أبواب المساجد والزوايا والأسواق.  

واعتبرت تلك الدعاية أيضاً فكرة "الجامعة الإسلامية" التي انتشرت في المشرق، خطراً على المصالح الفرنسية في بلاد المغرب بما تعنيه من تأجيج لتعاطف المسلمين مع إخوانهم الجزائريين، وتشجيعهم على مقاومة العدو الغربي من أجل إعادة الجزائر إلى دار الإسلام.         

شخصيات جزائرية في سوريا 

  • الأمير محمد سعيد الجزائري
    الأمير محمد سعيد الجزائري

كما سبق وذكرنا، فإن ملاحظات عبد المالك صياد عن المهاجرين الجزائريين إلى فرنسا في القرن 19م، تنطبق بدرجة معينة على هجرتهم إلى المشرق وبالأخص إلى بلاد الشام، لجهة الارتباط العضوي للمهاجرين بالمنظومة القبلية الناظمة لحياتهم الاجتماعية في مجتمعهم الأصلي، ومن ثمَّ بتقاليدهم الزراعية وأعرافهم القبلية وطريقة معاشهم الريفية، وهذا ما تجسَّد جليّاً أولاً في محافظتهم على تميُّزهم، في عاداتهم المغربية في المأكل والملبس وغيرها، على الرغم من اندماجهم أيضاً في البيئة المشرقية الشامية، التي وإن اختلفت مع بيئتهم المغربية في بعض التفاصيل تشترك معها في نفس الفضاء الثقافي والحضاري، وثانياً في مستويات الوعي السياسي والثقافي بمصير بلادهم وارتباطهم الروحي بوطنهم، والذي رأينا نموذجاً عنه مع الأمير محيي الدين ابن الأمير عبد القادر الذي غادر الشام متوجَّهاً إلى تونس سنة 1870، ومنها وجَّه رسائل إلى زعماء القبائل العربية والبربرية وشيوخ الطرق الصوفية في الجزائر يحثّهم فيها على إعلان الثورة ضد الفرنسيين، داعياً إلى استغلال انشغال الفرنسيين بالحرب مع بروسيا (14).

التقى الأمير ذو الثقافة الواسعة والحظوة عند الإمبراطورية العثمانية، بالثائر الجزائري بن ناصر بن شهرة (15)، وتوجَّها من منطقة الجريد في الجنوب التونسي إلى الجنوب الشرقي الجزائري وبدآ في حشد المقاتلين الذين كان الكثير منهم من المهاجرين الجزائريين في تونس وطرابلس، وجمع السلاح وتعبئة الناس من أجل الانقضاض على الفرنسيين واستغلال فرصة هزائم الفرنسيين أمام بروسيا. وكان لمكانة محيي الدين كأحد أبناء الأمير عبد القادر وقع خاص على الناس ساهم في تأجيج الناس وتحميسهم إلى الانضمام للثورة (16).

لكن الثورة الشعبية فشلت في النهاية رغم ما شهدته من بطولات لأسباب يطول ذكرها، فرجع الأمير محيي الدين إلى دمشق من جديد بعد أن استقر مدة من الزمن في صيدا، وانتهى المطاف ببن شهرة منفياً إلى بلاد الشام أيضاً، ثم صيدا و بيروت ثم إلى جوار الأمير عبد القادر في دمشق إلى غاية وفاته بها (17).

ومن النماذج اللافتة مع ابنٍ آخر للأمير عبد القادر هو الأمير عبد المالك الجزائري، الذي استغل أيضاً سياق الحرب العالمية الأولى فحصل على مساعدات من التحالف العثماني الألماني ضد الفرنسيين وحلفائهم، وأشعل ثورة ضد الفرنسيين وسط القبائل البربرية في شمال المغرب الأقصى بين 1914-1924، ورغم تحقيقها لانتصارات كبرى في بدايتها إلا أنها هُزمت وانتهت بمقتله في ظروف معقَّدة.  

استنفدت المقاومات الشعبية الجزائرية في القرن 19م كل قواها وفشلت في النهاية في طرد الاستعمار، لكن الظروف والسياقات الدولية المستجدة ابتداءً من نهاية العقد الثاني للقرن العشرين خلقت وعياً جديداً في وسط المهاجرين الجزائريين في فرنسا شكَّل إرهاصاً لولادة الوطنية الجزائرية الحديثة، والتي وصلت بعد مسارٍ تراكمي طويل إلى نسف النظام الكولونيالي الفرنسي في البلاد. لكن مع ذلك فإن مساهمة المهاجرين الجزائريين في المشرق، وفي سوريا خاصة، في هذا المسار من بداياته كانت جليَّة، ومثَّل النضال الإصلاحي المعتدل للأمير خالد بن الهاشمي بن الأمير عبد القادر الجزائري التجسيد الحي لهذه المساهمة. 

شكّل مهاجرون جزائريون في بلاد الشام نموذجاً مختلفاً، حيث اندمجوا في البيئة الشامية، وساهموا في حياتها السياسية والثقافية والفقهية والاجتماعية وغيرها".

لكنَّ من المهاجرين الجزائريين في بلاد الشام من جسَّد نموذجاً مختلفاً عندما اندمج في البيئة الشامية، وأضحى يساهم في حياتها السياسية والثقافية والفقهية والاجتماعية وغيرها، فلم تكن مغربية الجزائريين، التي صبغت نمط عيشهم وأسماء خاناتهم وكنياتهم (تلقَّبت العديد من عائلاتهم بلقب الجزائري فيما لُقِّبت أخرى بالمغربي)، لتخفي حقيقة مشاركتهم المشارقة الشاميين لنفس الإطار الثقافي، بل لنفس الإطار السياسي باعتبارهم جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، فكان منهم على سبيل المثال الأمير عز الدين الذي شارك في الثورة السورية الكبرى 1925-1927 وقُتل فيها، ومنهم من أصبح جزءاً من الحياة السياسية في سوريا في فترات مختلفة كوزراء ومحافظين كمحمد المبارك ومختار الجزائري وجعفر الجزائري والعربي الدرقاوي بل وصل حفيد الأمير عبد القادر، الأمير محمد سعيد الجزائري إلى منصب رئيس الحكومة في سياق ما عُرف بــ "الثورة العربية الكبرى" في أعقاب خروج الجيش العثماني منها. وكان يُشرف على قوةٍ عسكريةٍ من المهاجرين الجزائريين لحماية دمشق (أو المغاربة كما تصفهم مصادر تلك الفترة)، أو كعسكريين برزوا في سوريا المستقلة وشارك بعضهم في حرب 1948، كاللواء عبد الرحمان خليفاوي الذي ينحدر من أصول بربرية في وسط الجزائر(18).

  • قصر الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق
    قصر الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق

أما في الحياة الثقافية والأدبية فأسَّس الأمير محيي الدين الجزائري سنة 1908 جمعية الإخاء العربي - العثماني التي هدفت، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات بين العرب والأتراك في ظل صعود النزعات القومية في الإمبراطورية العثمانية، إلى تأسيس المدارس وطبع الكتب والجرائد، وكان مصطفى بن التهامي صهر الأمير عبد القادر شاعراً وأديباً وأحد المُدرِّسين في الجامع الأموي، وكان سليم الجزائري، وهو إبن أخ الشيخ الطاهر الجزائري السوري المعروف، واحداً من أعضاء المنتدى الأدبي وهو أحد أهم المراكز الثقافية التي ضمَّت البوادر الأولى لظهور الحركة القومية العربية الحديثة التي اصطدمت بالإمبراطورية العثمانية في فخّ قاتل نصبته القوى الغربية. 

ومن أبرز النماذج أيضاً الشيخ الطاهر الجزائري، وهو إبن مهاجر جزائري تعود أصوله إلى أحد بطون قبيلة كتامة البربرية في ضواحي بجاية، حضر في صغره الدروس التي كان يلقيها الأمير عبد القادر، قاد حراكاً إصلاحياً ثقافياً وتعليمياً ودينياً وسياسياً كبيراً في بلاد الشام أساسه إنشاء المكتبات والنهوض باللغة العربية ونشر الأفكار الإصلاحية الإسلامية النهضوية، المتأثرة بتراث الشيخ محمد عبده تلميذ جمال الدين الأفغاني، والدعوة إلى مجابهة الاستعمار الغربي مع مطالبة السلطات العثمانية بتنفيذ إصلاحات سياسية في المشرق العربي، وأسَّس في 1906 لتحقيق هذه الأهداف "جمعية النهضة العربية".   

هاجر الجزائريون قسراً ابتداءً من القرن 19م بعد سقوط بلادهم في يد استعمارٍ استيطاني عنيف، وقد شدُّوا الرِّحال نحو بلاد الشام باعتبارها جزءاً من الإمبراطورية/الخلافة وأرضا للإسلام، وقد حافظوا على قدرٍ كبير من أعرافهم القبلية وتقاليدهم الريفية، وبقيت أرواحهم دائمة التعلُّق بمغربهم، فساهموا، كما غيرهم من المهاجرين في باقي بلاد المغرب (تونس والمغرب الأقصى) وأوروبا، في صناعة تاريخ بلادهم بتحريره بعد مسار تراكمي طويل وقاس دام لأكثر من قرن وثلاثين سنة.     

الهوامش

1 - Pierre Bourdieu, « L’ethnologue organique de la migration algérienne », Histoire & Politique, Marseille, n° 25, 2001, p. 69.

2 - Abdelmalek Sayad, « La double absence », Paris, 1999, du Seuil, p. 56.

3 - Abdelmalek Sayad , « Les trois âges de l’immigration algérienne en France », Actes de recherche en sciences sociales, n° 15, 1977, p. 59-79.

4 - Abdelmalek Sayad , « Une nouvelle perspective à prendre sur le phénomène migratoire : "L’immigration dans…" peut être pensée comme étant, initialement et essentiellement, "une émigration vers…" », Options Méditerranéennes, 1973,  n° 22, p. 53.

5 - عمّار هلال، الهجرة الجزائرية نحو بلاد الشام (1847-1918)، دار هومة، الجزائر 2007، ص12.

6 - Charles-Robert Ageron, « Les algériens musulmans et la France », tome 2, chapitre XXXIX, l’émigration des musulmans algériens et l’exode de Tlemcen, Puf , Paris, p1079-1092.  

7 - في سنة 1847 نصح أحد شيوخ الطرق الصوفية الناس بضرورة مغادرة البلاد نحو بلاد المسلمين للحفاظ على دينهم ودنياهم، انظر عمّار هلال، الهجرة الجزائرية نحو بلاد الشام (1847-1918)، دار هومة، الجزائر 2007، ص15.

8 -  التقرير الذي أعدَّه لوسياني للحاكم العام سنة 1889 والمتعلق بأسباب الهجرة الجزائرية إلى المشرق.

9 - عمّار هلال، الهجرة الجزائرية نحو بلاد الشام (1847-1918)، دار هومة، الجزائر 2007، ص19

10 - Rager Jean-Jacques, « Les musulmans algériens en France et dans les pays islamiques », Alger 1950, p44.من كتاب عمَّار هلال الذي سبق ذكره، 

11 - سهيل زكار، بلاد الشام في القرن 19م، دمشق 1982، ص248.

12 - سهيل الخالدي، الإشعاع المغربي في المشرق، دور الجالية الجزائرية في بلاد الشام، دار الأمة، الجزائر، 2016، ص133-134.

13 - عمار هلال، نفس المصدر، ص58-59.

14 - كانت الرسائل يُوقِّعها بن ناصر بن شهرة والأخرى الأمير محيي الدين بن عبد القادر، كما وردت في مقالة أحمد أبو زيد قصيبة، إبن ناصر بن شهرة أحد أبطال ثورة 1871م، مجلة الأصالة، عدد رقم6، 1972،  ص61، وهذ نماذج منها:

نص الرسالة الموقعة من بن ناصر بن شهرة في 6 شوال 1287ه الموافق ل30 ديسمبر 1870م:"إن مولانا الأمير محيي الدين بن الأمير الحاج عبد القادر قد جاء بأمر من السلطان حفظه الله، إنه يريد نصر الدين، وإن شاء الله سيذهب من هنا إلى الجزائر ليلتحق بأبيه الذي يحتاج إليه وهو في انتظاره، وإن الجيش الذي أرسله السلطان قد وصل إلى طرابلس، إذا كنتم مستعدين للاتصال بنا، إذا كنتم تحبونه حقا، فأرسلوا له وفدا من طرفكم وإلا فلا تلوموا إلا أنفسكم مما قد يقع..." 

نص الرسالة التي وقعها الأمير محيي الدين بن الأمير عبد القادر:" وما النصر إلا من عند الله، من طالب العون من القوي القاهر الأمير محيي الدين بن الأمير عبد القادر في سنة 1287ه، جئنا إلى هنا قصد الدفاع عن الدين وحماية الوطن، إننا نعلم أنكم ترغبون في الجهاد، إن الله قد سحق أعداءنا ولم يبق لهم لا وطن ولا جيش، كونوا مستعدين ليوم قدومنا نحوكم، وإنكم تعلمون أن الدين لا يسمح إلا للعاجزين عن القيام بالقتال، كل رجل صحيح يجب أن يشارك في الجهاد سواء بنفسه أو بماله، استعدوا إذا لرفع شأن الدين، وإني أعرف أن ذلك هو أملكم وأنكم كرماء، إن وقت الذهاب قد حان، ووقت تحرير رقابكم قد قرب، فاستعدوا والسلام"

15 - يحيى بوعزيز، موضوعات من تاريخ الجزائر والعرب، الجزء1، دار الهدى، الجزائر، 2009، ص381.

16 - أبو القاسم سعد الله، الحركة الوطنية الجزائرية، 1900-1930، الجزء الثاني، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1983، ص53.

17 - يحيى بوعزيز، ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين، دار البعث، الجزائر، 1980، ص180.

18 - سهيل الخالدي، الإشعاع المغربي في المشرق......، ص256.