ما هي المنظمة السرية التي تحكم سياسة أميركا؟

يؤكد المؤلف أن الكيان الإسرائيلي هو الأكثر فهماً لنيات صناع القرار في الولايات المتحدة الأميركية ومشاريعهم الاستراتيجية، وهو يعمل على ذلك من خلال نخبة متخصصة متنوعة الأدوار والمهام، وبعضها في مركز صنع القرار.

  • الرولباور الأميركي في القرن الحادي والعشرين
    الرولباور الأميركي في القرن الحادي والعشرين

من نافلة القول إنه لا يمكن تصور دور بلا قوة، ولا قوة بلا دور، فكلاهما مكمل للآخر، إذ إن الدور هو القدرة على توظيف القوة توظيفاً ينتج مكانة يتحقق من خلالها نفوذ وتأثير في الاتجاهات والمجالات كافة، وبجميع المستويات. وما تقدم يتوقف على إدراك صانع القرار الاستراتيجي بحسب المكانة الحاصلة من حجم القوة والدور.

وبما يخص القوة والدور للولايات المتحدة تحديداً، فهما لم يكونا وليدي الصدفة، وهنا يكمن سر النفوذ الأميركي في اتباع استراتيجية المؤسسين التي ما زالت ثوابتها المدخلات لكل مخرجات السياسة الأميركية لتحقيق الهيمنة والنفوذ، والأساس الذي تعتمد عليه جميع الرؤى والأفكار للذين توالوا على السلطة في أميركا. ومن هنا تتضح أهمية البناء المؤسساتي المتراكم.

وكما يعبّر مؤلف الكتاب، فإن "الولايات المتحدة الأميركية تعد الدولة العظمى الأكثر تأثيراً في السياسة الدولية في عالمنا المعاصر، نتيجة لما تملكه من مدخلات القوة والتأثير التي أهّلتها لأن تمارس دور الهيمنة والتأثير في العلاقات الدولية.

وباتت بذلك ضابط الإيقاع العالمي، إذ امتلكت مثلث القوة القائم على القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، ومارست التأثير من هذا المنطلق، ما أثر في التراتبية الدولية وآلية توزيع القوة والأدوار للقوى الدولية الأخرى، ومن ثم التأثير في طبيعة وتوجهات النظام السياسي الدولي"، مع العلم بأن تحولات العقود الأخيرة هزت بقوة أسس هذا النظام الأحادي لمصلحة نظام تعددي نقيض بدأت ركائزه بالتبلور والتمكين على كل المستويات.

في هذا الكتاب، وضمن فصول ومباحث عديدة، يعالج المؤلف العلاقة بين الدور والقوة من خلال التأصيل النظري لمفهومي القوة والدور والرؤية الأميركية لممارسة الدور والقوة في ضوء المدارس الفكرية (المدرسة الواقعية والمدرسة الليبرالية)، وممارسة الدور والقوة للولايات المتحدة من زاويتي التطور والمحددات (في البيئتين الداخلية والخارجية)، إذ تشمل محددات البيئة الداخلية مؤسسة الرئاسة، ووزارتي الخارجية والدفاع، ومجلس الأمن القومي، والكونغرس، ووكالة المخابرات المركزية، والبنك الفيدرالي، وكذلك الأحزاب السياسية (الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي)، وجماعات المصالح، ومراكز الأبحاث والخبراء، والإعلام وصناعة الرأي العام، والرأي العام، والمجمع الصناعي العسكري، وشركات النفط، والعامل الديني، فيما تشمل محددات البيئة الخارجية حماية أمن "إسرائيل"، والسيطرة على موارد الطاقة، والحرب على "الإرهاب". 

وفي هذا السياق، فقد عرف مفهوم القوة تطوراً ملحوظاً في مجال العلاقات الدولية من حيث عناصره وتجلياته، إذ تعمل الدول، في سعيها للحفاظ على مصالحها، إلى اتباع أحد أنماط القوة الآتية:

 -القوة الصلبة Hard power ، عبر استغلال الدول قدراتها على الإرغام بالاعتماد على عناصر ملموسة، مثل القوة العسكرية أو الثقل الاقتصادي.

- القوة الناعمة Soft power، وتعني قدرة الدول على الإقناع والجذب لوضع أجندتها السياسية بطريقة تشكل التفضيلات التي يعبر عنها الآخرون أو قدرة الدول على تنظيم موقف بطريقة تجعل الدول الأخرى تختار أو تحدد مصالح تتناسب مع مصالحها بالاعتماد على عناصر غير ملموسة، مثل الثقافة أو المعرفة أو الأيديولوجيا أو المؤسسات، ولكن أيضاً التهديد باستعمال القوة والابتزاز والإرشاء.

- القوة الذكية Smart power، أي مزاوجة الدول بين القوتين الصلبة والناعمة، بالاعتماد على عناصر ملموسة وأخرى غير ملموسة، كالأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والقانونية والثقافية، عبر اختيار الأداة المناسبة أو المجموعة المناسبة من الأدوات لكل موقف.

لكن ما زالت محددات القوة الصلبة في أغلب الدراسات الدولية مهمة في تحديد قوة الدول في النظام الدولي، فيما تعد القوة الناعمة والذكية والإلكترونية بمنزلة أدوات من الممكن توظيفها من قبل الدول التي تمتلك مقومات القوة الصلبة في عالمٍ متسمٍ بالصراع والتنافس الدولي، وهذا يعني أن القوة الناعمة والذكية ما هي إلا وسائل تستخدمها القوة الصلبة لتحقيق مصالحها، فليس من فصلٍ أو ترجيح بين القوتين الصلبة والناعمة، فكلاهما مكمل للآخر لغرض تحقيق أهداف الدولة.

ولا تزال القوة، لمن يمتلكها بمستوياتها المختلفة، هي الفاعل الدولي، ولا يمكن لنا تصورها بلا دور، فهناك علاقة جدلية بين الدور والقوة؛ ومن يتمكن منهما ويوظفهما توظيفاً سليماً يتمكن من تحقيق غاياته ومصالحه، ويصبح الفاعل والمؤثر في السياسة الدولية والمحلية - الإقليمية.

لذلك، أصبح من الضروري الاهتمام بمتابعة التوصيات السياسية للدول العظمى، فتبلور النظام الدولي في ظل التحولات التي شهدتها البيئة الدولية في القرن العشرين وتغير معادلة التوازن الدولي مرتبطان بدرجة كبيرة بطبيعة الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة والسياسات التي تتبناها في ظل نظام أحادي القطبية، إذ إن النظام الدولي الحالي يستند إلى هيمنة القطب الواحد والتفرد الأميركي بالقرار الدولي وممارسة التأثير باستخدام القوة المتعددة الأشكال والمستويات.

ويتابع المؤلف: "لقد كان من مبررات استخدام الولايات المتحدة للقوة اعتبارها مظهراً من مظاهر السيادة الكاملة، وذلك من خلال الدفاع عن حقوق الإنسان، وتحقيق الأمن والسلم الدوليين، ونشر مبادئ الديمقراطية، والقضاء على نظم الاستبداد والإرهاب في الشرق الأوسط. وبذلك، استطاعت الولايات المتحدة الأميركية بهذه الذرائع أن تتحكم في واقع القوة على مستوى العلاقات الدولية وتوظفها من أجل تحقيق نفوذها ومصالحها وأهدافها".

ويعتقد المؤلف أن الفاعل الدولي الرئيس المؤثر في السياسة الدولية هو من يملك أميركا ويمتلك مساحات واسعة في العالم، وكل دول العالم منفعلة ومتأثرة به، فالعالم لا تقوده أميركا الدولة، إنما تقوده المنظمة الدولية السرية الحاكمة، والدول الأكثر معرفة بما ورائية السياسة الأميركية هي الأكثر تفوقاً في رسم سياساتها المحلية والإقليمية والدولية.

ويؤكد المؤلف أن الكيان الإسرائيلي هو الأكثر فهماً لنيات صناع القرار في الولايات المتحدة الأميركية ومشاريعهم الاستراتيجية، وهو يعمل على ذلك من خلال نخبة متخصصة متنوعة الأدوار والمهام، وبعضها في مركز صنع القرار، أي أنهم أعضاء رئيسيون في المنظمة الدولية السرية الحاكمة، والبعض الآخر قريب من صانع القرار، ومنهم أعضاء رئيسيون في مراكز الدراسات التي تسهم في صناعة القرار، وهي ما يطلق عليها "المطابخ السياسية".

كل هؤلاء يعملون على فهم استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية التي تنتجها المنظمة الدولية السرية الحاكمة للسنوات المقبلة، من ثم يتم تحويل هذه الاستراتيجية إلى المتخصصين وصناع القرار في الكيان الإسرائيلي لصناعة مشاريع وتوأمتها مع المشاريع الأميركية، فتسير في ظل المشاريع الأميركية، وتؤدي في الوقت نفسه دور المدافع عن المشاريع الأميركية، فتكون شريكاً للولايات المتحدة التي ستدافع عن "إسرائيل"؛ شريكها الذي يؤدي دوراً في تحقيق أهدافها.

وبذلك، تكون "إسرائيل" قد حققت حماية من قبل الولايات المتحدة من جهة. ومن جهة أخرى، حققت أهدافاً سياسية واقتصادية وأمنية في آنٍ واحد، إذ إن أحد أهم أسباب دفاع الولايات المتحدة عن وجود "إسرائيل" ودعمها المطلق يأتي ضمن تحقيق توجهات صانع القرار الأميركي في المنطقة، فوجود الكيان الإسرائيلي يحقق أهداف صناع القرار الذين هم فوق الدولة الأميركية، وما الدولة الأميركية إلا دولة مملوكة لمجموعة جعلت من الولايات المتحدة، كدولة، مشروعاً لتحقيق الهيمنة على العالم، وهي تسير بخطى حثيثة لتحقيق ذلك من خلال الحكومة العالمية التي أسست دعائمها.

وقد قطعت أشواطاً مهمة في ذلك، إذ أرست قواعدها وأحكمت سيطرتها إلى درجة عالية، من خلال تأسيسها مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة والمحكمة الدولية ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي والعملة الواحدة، وإلى آخره من المنظمات الدولية.

وبما أن أميركا هي الواجهة الرسمية لمنظمة النخبة الدولية السرية الحاكمة، وهي رأس الحربة في سياسة النخبة التي تعتبر الدولة الأميركية أهم وأعظم أدواتها التي تسعى من خلالها إلى تنفيذ حكومتها العالمية، فبعدما تحكم سيطرتها السياسية والاقتصادية والعسكرية تنتقل إلى ما مهدت وما زالت تمهد إليه، وبخطى حثيثة، ألا وهو مشروع تغيير ثقافات الشعوب والترويج للديمقراطية والإيمان بالثقافة الأميركية وتصديرها.

كذلك، تعمل هذه المنظمة على تغليب رؤية دينية خاصة على الأديان كافة تحت عنوان توحيد الأديان الإبراهيمية بدينٍ واحدٍ ينسجم مع مشروع الهيمنة والسيطرة الشاملة ثقافياً ودينياً وسياسياً.

وفي هذا الإطار، يتوقف المؤلف عند محددات خارجية خاصة، يمكن تسميتها بثوابت السياسة الخارجية الأميركية، بغض النظر عن أن الإدارة ديمقراطية أو جمهورية، ومنها: حماية أمن "إسرائيل"، والسيطرة على موارد الطاقة، والحرب على "الإرهاب". 

بالنسبة إلى "إسرائيل" تحديداً، يمكن القول إن الرؤية الأميركية لإسرائيل كانت، وما زالت، تمثل قاعدة استراتيجية ومحدداً أساساً لا يمكن فصله عن الاستراتيجية الأميركية، لأن عناصر التخطيط الاستراتيجي لكلا الدولتين متداخلة ومترابطة إلى حد الوحدة؛ فالولايات المتحدة الأميركية تؤمن تماماً بالرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية، وأن أمن "إسرائيل" وسلامتها هو الذي يضمن استقرار المنطقة واستقرار المصالح الأميركية فيها (كما تؤكد سياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المتواطئة تجاه الحرب الإسرائيلية الضارية على قطاع غزة، ورفض "إسرائيل" كل المواقف والاحتجاجات العالمية والقرارات الدولية الداعية إلى وقف إطلاق النار).

وأخيراً، يخلص المؤلف إلى أن الولايات المتحدة استطاعت -بذريعة استخدام القوة كونها مظهراً من مظاهر السيادة الكاملة، ومن خلال "شعارات" الدفاع عن حقوق الإنسان، وتحقيق الأمن والسلم الدوليين، ونشر مبادئ الديمقراطية، والقضاء على الدكتاتوريات في العالم الثالث - أن تتحكم في واقع القوة على مستوى العلاقات الدولية وتوظفها من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف السياسية والجغرافية والاقتصادية؛ وبالتالي أصبحت لعبة القوة من صميم اختصاص هذه الدولة، ولا ينازعها في ذلك أحد، بحيث استطاعت أن تفرض قاعدة الانتصار الكامل مع إلغاء الأطراف المفاوضة؛ وهذه قاعدة تزعمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها من خلال ممارستهم مجموعة من الأدوار التي تخالف قواعد القانون الدولي.