ما وراء كلام أمّ الشهيدات الثلاث.. فلسفة الموت والحياة

نعم، يدّخر الله بعض الأشخاص ليكونوا مشاعل النور لنا في خضم العتمة، مشاعل الجمال في لحظات الجلال.

 في كتابه المجيد، يوضّح لنا الله العزيز فلسفة الموت والحياة: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ والْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (سورة الملك، الآية 2). ويستمرّ الإنسان في السعي، آملاً في حياته أن ينجح في الاختبار الإلهي له.

منذ أن بدأت المجازر الإسرائيلية في غزة والضفة اتسعت القنطرة، وأضحت الأرض أكثر قرباً من السماء، وبات الغيب أكثر حضوراً، وفتح على مصراعيه باب عالم الملك على عالم الملكوت، وما كنّا نعدّه من الماضي أو المستقبل بات حاضراً ماثلاً أمام أعيننا.

بدقائق معدودة، نقلتنا أم الشهيدات الثلاث، هدى حجازي، من حال إلى حال، من خوفنا عليها إلى خوفنا على أنفسنا، من دعائنا لها إلى دعائنا لأنفسنا بالثبات والنجاح في الاختبار.

هذه السيّدة التي شغلت بالنا وفكرنا لأسبوع مضى ونحن نفكّر كيف كانت أماً لثلاثة طفلات، وبلحظة واحدة خسرتهم جميعاً، إلى جانب خسارتها أمها، كنّا نفكّر في حالها وكيفية تلطّف الله بها والحكمة من بقائها في قيد الحياة بعدهن.

قبل أيام خرجت حجازي عبر الشاشة لتشرح لنا، فرَوَتْ حال بناتها قبيل استشهادهن، وحدّثتنا عن شدّة تعلّقهن بقريتهن وحبّهن لها، وكيف كنّ ينتظرن بشغف العودة إلى ديارهن بعد نزوح لفترة نتيجة القصف الصهيوني لجنوبي لبنان، وكيف وضّبن بحفاوة حقائبهن وألعابهن.

وتتساءل الأمّ بعد سردها كيفيّة استشهادهن في إثر صاروخ إسرائيلي على سيارتهن: "إذا خسر الإنسان كرامته فما الجدوى من حياته؟ ما قيمة الحياة من دون عز؟". وإذ تؤكّد "أن لا شيء أغلى من الولد"، توضح أن الإنسان يشكو همّه إلى أمه أو ابنته، لكنها خسرتهن معاً، وبين "أمّ البنين" وأمّ البنات تذكّرنا في نهاية المقابلة بذاك القول "بأبي أنت".

جلّنا لا يعرف شيئاً عن السيدة زينب قبل الطفّ، جلّنا تعرف إليها في مدرسة الجمال: "ما رأيت إلّا جميلاً"، بعد استشهاد أكثر أحبائها في واقعة عاشوراء.

نعم، يدّخر الله بعض الأشخاص ليكونوا مشاعل النور لنا في خضم العتمة، مشاعل الجمال في لحظات الجلال.

يدخر الله زين العابدين بمرضه حماية لقيمه بعد كربلاء. يدخر موسى في اليمّ لتكون نهاية فرعون على يديه. يدخر يوسف في البئر ليروي قحط مصر وسيناء، ويدخر عيسى في السماء ليعود إلينا مع حفيد خاتم الأنبياء. واليوم، أجاب الله عن أسئلتنا بشأن بقاء تلك السيدة حيّة بعد شهادة الأم والبنات..

لسنا أرحم من السماء، لا أحد ألطف من الله، الله يصطفي من عباده من يشاء!

أُصبنا بالذهول ونحن نستمع إلى كلامها، ونحن نتأمّل هذا المقام الآمن والسكينة التي باركها الله بها. 

عندما يأخذ الله حتى يرضى يذهلنا بأياديه. مباركة أنت أيتها السيّدة في أحضان الله الجميل، القويّ، الجبّار. مبارك فكرك وتلك الطمأنينة التي تجعلك تبتسمين بوداعة ناضرة ناظرة إلى وجهه. مبارك فوزك العظيم بالاختبار الإلهي. ومباركة لنا مدرسة الهدى التي ترتلينها علينا بإيقاع الرحمة: "فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ". {آل عمران/146}