ماذا لو كان غسان كنفاني بيننا؟

ماذا لو كان ورأى أن "الإنسان في نهاية المطاف قضية"، كما قال في "عائد إلى حيفا"؟ وكيف تكون فلسطين هي التي تعطي المعنى والقيمة لداعميها، وليس العكس؟

ماذا لو كان بيننا؟ سؤالٌ لم يُفارق ذهني منذ يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، الذي سطّرت فيه المقاومة الفلسطينية أجمل معاني الانتصار والقوة لشعبٍ طال أمد ظلمه، ورسمت لوحة القهر لــ "الجيش الذي لا يُقهر". غيّرت المقاومة الفلسطينية، قيادةً وشعباً، وجه العالم ووضعته أمام حقيقة من المستحيل تجاهلها، وهي أن ما قبل 7 أكتوبر ليس كما بعده. فعلى الرغم من المجازر التي تلحقُ بالفلسطينيين من كل حدب وصوب، فإن صورة الهزيمة، التي رسمها ذلك اليوم للعدو الإسرائيلي وداعميه، لا تزال واضحة وضوح الشمس.

ماذا لو كان بيننا ورأى كيف دقّ أهل غزة جدران الخزان الأكبر في العالم؟ بعد أن تساءل في رواية "رجال في الشمس" عن عدم دق 3 رجال جدران خزان صغير كانوا يحاولون الهرب من خلاله. ماذا لو رأى كيف جعل الفلسطينييون، كباراً وصغاراً، صوتهم واضحاً ومسموعاً للعالم كله. فما حدث في غزة ليس وليد اللحظة، وليس نتيجة حماسة وعاطفة جياشتين، بل هو تراكم لمعاناة طويلة تنوعت فيها أساليب الوحشية الإسرائيلية بين قتل ونهب وتدنيس للمقدسات الدينية وحصار بري وجوي وبحري، يجعل غزة مدينة لا يمكن لأحد عدّها وجهة له.

ماذا لو كان بيننا ورأى كيف عادت القضية الفلسطينية لتكون سيدة الساحات وأم القضايا؟ فبعد مسار عالمي قرر منذ زمن طويل تناسي القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مجرد نقاش يتم فيه تبادل وجهات النظر، فرضت فلسطين نفسها بقوة لتجرد كل إنسان وتكشف حقيقة إنسانيته، فانكشفت حقيقة عالم غربي يُحاضرُ في حقوق الإنسان والقانون الدولي وحماية المدنيين، لكنه قرر دعم قتل الأطفال والنساء والشيوخ في غزة، عبر استخدام آلة القتل الأكثر وحشية في العالم.

ماذا لو كان ورأى أن "الإنسان في نهاية المطاف قضية"، كما قال في رواية "عائد إلى حيفا"؟ وكيف تكون فلسطين هي التي تعطي المعنى والقيمة لداعميها، وليس العكس؟ وأن تكون القضية الفلسطينية هي الأوضح والأعمق والتجسيد الأقوى للحق الفلسطيني في وجه الباطل.

ماذا لو كان بيننا ورأى كيف بقي أطفال فلسطين، كما وصفهم دوماً، أقوياء لا يعرفون للاستسلام معنى؟ بحيث قرروا الخروج من تحت الركام ليجدوا الشمس التي لا يمكن إيجادها في غرفة مغلقة. في فلسطين يكبر الأطفال قبل أوانهم ليصبحوا رجالاً في العاشرة من أعمارهم، ويصبح صمودهم درساً في الإيمان بالمقاومة، بصفتها السبيل الوحيد إلى تحرير بلادهم. فعلى مدار شهر نراهم كل يوم يحدثوننا عن الأمل والقوة ويدعوننا إلى الصمود والصبر.

أضحت روايات غسان كنفاني واقعاً نراه كل يوم، فمن "أم سعد"، إلى "ما تبقى لكم" و"أرض البرتقال الحزين"، وصولاً إلى "عالم ليس لنا"، تعاون الفلسطينيون وغسان كنفاني على تثبيت واقع نقلته تلك الروايات منذ أعوام من خلال شخصيات بسيطة في أسلوب عيشها، لكنها عميقة إلى درجة قادرة على تشكيل مضمون "الأدب الفلسطيني المقاوم". 

يُعَدّ كنفاني علامة فارقة في عالم الأدب العربي، بصورة عامة، والفلسطيني، بصورة خاصة. فمن خلال إيمانه بضرورة التحرر من القمع وتحرير العقول، استطاع في وقت قصير إنتاج أدب مُلهم يضع الجميع في اتجاه فلسطين كونها البوصلة وأحد أبرز مظاهر الصراع العالمي.

فمن خلال الأدب والدراسات والمقالات والمسرحيات التي قدمها، استطاع رمز الوعي والمقاومة وصاحب الطاقة الاستثنائية ترسيخ قوة الكلمة في وجه عدو يحشد دلائل زائفة لإظهار قوته، إلا أنه يبقى ضعيفاً وهشاً.

كان غسان كنفاني من أوائل الذين اعتمدوا على مبدأ "اعرف عدوك" من خلال تقديمه دراسة مفصلة عن الأدب الصهيوني، الأمر الذي دفع الإسرائيليين إلى عدّه خطراً على خطتهم في محو آثار التراث والتاريخ الفلسطيني بهدف إثبات خرافتهم بشأن فلسطين. وتناول كثيرٌ من الدراسات والمقالات أدب كنفاني، بحيث رأى فيه رونشتاين، وهو أحد الصحافيين الإسرائيليين، شخصية مركزية في "الصراع"، فكان قرار اغتياله على يد الموساد عام 1972. 

لو كان بيننا، لشهد على حصاد ثمار ما زرعه داخل الفلسطيني، فهو موجود في كل شخص منهم، لأنه منهم، تقاسم معهم المعاناة والألم نفسيهما، وقرر أن يكون قلمه وكلمته سلاحاً في وجه الإحتلال. لو كان بيننا لرأى كيف أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من حلم تحرير فلسطين، وأن تكون كلها من البحر حتى النهر ملك شعب واحد مغروس فيها كغرس أشجار الزيتون.

لو كان بيننا، لرأى كيف "حُُلقت أكتاف الرجال لحمل البنادق"، بحيث باتت المقاومة كما كانت دائماً الوسيلة الشرعية الوحيدة التي يعترف بها الفدائيون لاستعادة الأرض. لو كان بيننا لكتب بقلمه عن أجمل الحكايا في غزة.

لو كان بيننا لرأى كيف بات العدو الإسرائيلي يخشى الكلمة أكثر من أي وقت مضى، ويحاول جاهداً كمّ الأفواه وإخفاء الحقيقة عبر سلسلة اعتقالات في عدة مناطق داخل فلسطين المحتلة لكل من يدعم غزة بكلمة، ومن خلال داعميه في الدول الغربية التي تقيد حرية الرأي والتعبير عبر مواقع التواصل الإجتماعي، وتمنع وصول المنشورات بشأن القضية الفلسطينية واصفةً إياها بــ "الإرهاب". 

حمّلَنا غسان كنفاني المسؤولية عندما قال "لك شيءٌ في هذا العالم فقم". لنا أرضٌ وتاريخٌ وتراث ٌوحقٌ تنتظر كلها أن ندافع عنها، ولنا شعبٌ يتعرض لأوسع عملية إبادة وتهجير عرقيين ينتظر منا أن نكون صوته. من هنا تبرز أهمية الاستمرار في الحديث عن فلسطين والكتابة عنها ونشر المجازر التي يقوم بها العدو الإسرائيلي أمام مرأى العالم كله، لتكون مرجع الأجيال المقبلة، ومصدر قوة وإيمان لا يهتزان.