مترجم لاسلو كراسناهوركاي للعربية يكتب عن روايته "كآبة المقاومة"
في جعبة "كراسناهوركاي" الأدبية إحدى عشرة رواية وأربع قصص طويلة ومجموعتا قصص قصيرة وخمس قصص قصيرة غيرها نُشرت فرادى، فضلاً عن عدد كبير من المقالات.
-
لاسلو كراسناهوركاي ... أنشودة الخراب العميم
حال من يقرأ أعمال الأديب المجري لاسلو كراسناهوركاي أشبه بحال من يشاهد فيلماً من أفلام الرعب: يهوله ما يراه، لكنه لا يستطيع تركه فيستزيد ويستزيد فيزداد غرقاً في لجّة ذلك الهول. على أن ما من رعب لدى كراسناهوركاي وما من أمرٍ مهول في حد ذاته بل هو الفساد العام الشامل، الخراب الذي يتخلل الأشياء والبشر جميعاً في مسيرة ظافرة لا رادّ لها، مسيرة تكاد تكون وصفاً دقيقاً لها تلك الصفحات الأخيرة من رواية "كآبة المقاومة" عندما يصوّر زحف الخراب في الجسد بعد الموت مستخدماً مفردات عمليات الكيمياء الحيوية، تلك العمليات التي تظل جارية كقدر محتوم إلى أن تتلف الأنسجة كلها وتتحلل فتغدو تراباً.
فمنذ الصفحات الأولى، ينشأ في ذهن القارئ شعورٌ طاغٍ بكارثة وشيكة، بشرٍّ مستطير، بحتميةٍ لا سبيل إلى ردّها. ثم لا يلبث هذا الشعور أن يترسخ عنده مع مضيّه في القراءة فيرى فساداً خبيثاً يلف كل ناحية من نواحي النفوس والحوادث والدوافع البشرية، بل حتى الطبيعة نفسها. هذا لأن كراسناهوركاي ينطلق من موضوعة أن الثقافة الرفيعة ما عادت مهيمنة في زماننا هذا إذ حل محلها ما يسميه "ثقافة الجمهور التي صرنا الآن نسميها ثقافة"، وذلك تحت وطأة قوى السوق. لقد صارت آليات الهيمنة عاريةً، واضحة، غير متخفية تحت أي لبوس كاذب؛ وصارت المعلومات متاحة يسهل الوصول إليها، لكن عالماً من "ثقافة" كاذبة صار يغلف ذلك كله بحيث لا نبصر ما تراه أعيننا، أو ما تستطيع رؤيته. ومن جوانب تلك الثقافة الكاذبة، بحسب كراسناهوركاي، عالم وسائل التواصل الاجتماعي الذي يقدم إلى الناس صورة عن الواقع لا علاقة لها بالواقع الحقيقي.
يقول "كراسناهوركاي" في واحدة من مقابلاته الصحافية: "موجودٌ هو ذلك الفرد المعزول الذي يبدع أعماله بروح تلك الثقافة الرفيعة؛ لكنه يرجو، حتى هو نفسه، أن يظهر اسمه في القائمة القصيرة للمرشحين من أجل نيل جائزة من الجوائز. على أن هذا لا يعني شيئاً فقد بدأ عصر جديد، بدأ بالفعل. لا معنى لأن تصدمنا حقيقة أن الشباب، وحتى من لم يعودوا شباباً، لا يعلمون من هو زيوس، بل حتى لا يعرفون حقاً كيف يقرأون ويكتبون؛ مع أن ثمة لمحة من أمل لا تزال باقية فقد يظن بعض المولعين بموسيقى البوب أن زيوس اسمٌ لفرقة موسيقية".
إزاء "ثقافة الجمهور" هذه (لعل من الممكن تسميتها "الثقافة الجماهيرية")، لا يتردد كراسناهوركاي في اعتبار الثقافة الحقيقية، أي تلك التي يدعوها "الثقافة الرفيعة"، ثقافة نخبوية. وهو يقول في هذا الصدد: "قبل أن تدعوني نخبوياً، اتركوني أدعو نفسي كذلك... أنا نخبويٌّ مصرٌّ على نخبويتي".
من هنا تكون قراءة كراسناهوركاي غير يسيرة على الإطلاق، حتى ليبدو كأنه غير مهتم أبداً بأن يقرأه من لا يكون مستعداً لبذل الجهد في قراءته: أسلوبه الكتابي صعب، وجمله طويلة، بل طويلة جداً، ومجرى الحوادث فاتر أكثر الأحيان، وما من أمرٍ مثير أو جذاب أو مرح إلا فيما ندر، وجوٌّ من كآبة ثقيلٌ على النفس يجعل القارئ يغرق فيه كأن رمالاً متحركة تمتصه إلى عماء باطنها. سردٌ كابوسي متواصل ووصفٌ لقبحٍ مهولٍ مستشرٍ طاغٍ لا يستطيع المرء أن يحدد فيه أمراً قبيحاً بعينه يشير إليه بإصبعه ويفرده عن غيره، فالبشر بشرٌ عاديون والأماكن عادية أيضاً والحوادث تكاد تكون كلها عادية، لكنك تحس الخراب يتنامى ويحيط بك من كل ناحية، حتى تضيق نفسك ويصير الجو كله كابوساً ثقيلاً، بل باهظ الثقل. ولعل هذا هو أبرز ما يميز عالم كراسناهوركاي الروائي: القدرة على نقل ذلك الإحساس بالخراب الشامل العميم الذي يتخلل كل شيء ويفسده، ذلك الإحساس بأن ثمة كارثة مهولة وشيكة لا سبيل إلى اتقائها ولا إلى الفرار منها.
وُلد لاسلو كراسناهوركاي في أسرة مثقفة وعاش في المجر زمن الحكم الشيوعي، لكن كتاباته (بحسب قوله) ما كانت انتقاداً موجهاً إلى ذلك النظام بعينه بل إلى نظام المجتمع الحديث كله، فهو يرى أن ثمة فظاظة وحشيةً تنتشر و"تأكل" كل ما بقي غير فظّ في المجتمع. إنها فظاظة "قوى السوق" العارية الوقحة غير العابئة بأن تتخفى خلف أي ستار.
وجدير بالذكر أنه نشر روايته المهمة "Satantango" سنة 1985 لكنها لم تترجم إلى الإنجليزية إلا في سنة 2012 (صدرت ترجمتها العربية تحت عنوان "تانغو الخراب")، كما تأخرت ترجمة روايته "كآبة المقاومة" نحو تسع سنوات بعد صدورها بالمجرية سنة 1989. إلا أنه لم يلبث أن فاز بجائزة مان بوكر الدولية سنة 2015 ، فكان أول أديب مجري يحظى بها. وبعد عشر سنوات من ذلك، نال جائزة نوبل للآداب فأتت تتويجاً لمسيرة حافلة بجوائز كثيرة بلغ عددها حتى الآن نحو تسع عشرة جائزة.
في جعبة "كراسناهوركاي" الأدبية إحدى عشرة رواية وأربع قصص طويلة ومجموعتا قصص قصيرة وخمس قصص قصيرة غيرها نُشرت فرادى، فضلاً عن عدد كبير من المقالات. وقد صنع مواطنُه المخرج السينمائي الشهير بيلا تار خمسة أفلام مقتبسة عن أعماله، وذلك بين عامي 1988 و2011؛ كما جرى إنتاج عملين أوبراليين استناداً إلى رواياته (واحد في بودابست والآخر في برلين).
لا بد أخيراً من إشارة سريعة إلى أمرين قد يتوقف القارئ العربي عندهما. الأمر الأول هو أن لازلو كراسناهوركاي ليس يهودياً كما قال البعض. فحقيقة الأمر هي أن بعض أسلاف والده كانوا يهوداً قبل أن تتحول العائلة إلى المسيحية، لكن والدته لم تكن ذات أصل يهودي. إلا أن ثمة من تلقف هذه المعلومة كي يجعل منه "كاتباً يهودياً"، فقد كتبت نشرة "الحوليات اليهودية" أن الأسرة كانت غير قادرة على المجاهرة بدينها نتيجة "معاداة اليهودية" في ظل النظام الشيوعي، ثم لم تتأخر عن إلحاق الرجل بقائمة الأدباء اليهود الذين نالوا جائزة نوبل. إن الكاتب نفسه شخص غير متدين وغير مهتم بأي انتماء ديني ولم يتحدث في هذا الأمر إلا مرة واحدة، عندما ذكر أن والده قال له عندما كان في الحادية عشرة من عمره إن له أصولاً يهودية قديمة. والأمر الثاني هو أن رواية "كآبة المقاومة" لا علاقة لها أبداً بمفهوم المقاومة من حيث هي مقاومة احتلال أو ظلم أو قمع؛ والواقع أن المرء يحار في سبب اختيار الكاتب هذه العبارة عنواناً لروايته، اللهم إلا إن كان المقصود بها أن لا سبيل إلى مقاومة غزو الخراب وفساد أرواح الناس والأشياء.