محمود شقير.. التاريخ الفلسطيني ممزوج بالسوسيولوجيا

يمزج محمود شقير التاريخ بالسوسيولوجيا كما لو كان حكواتياً شعبياً لجهة اللغة المبسّطة، مكتفياً ببلاغة المعنى على حساب ما هو جمالي صرف، أو ما يمكن أن نسمّيه تدوين الشفوي بأقل طبقات السرد بلاغةً، تبعاً للوعي المعرفي للشخصيات.  

حصد محمود شقير (1941) قبل أيام "جائزة فلسطين العالمية للآداب" في نسختها الثالثة، التي تمنحها مؤسسات غربية غير حكومية، تقديراً لمنجزه الإبداعي الثري في الرواية والقصة، ولخصوصية تجربته في توثيق تاريخ القدس، المدينة التي حضرت في عناوين كتبه نحو 17 مرّة، وذلك بتنويعات سردية مختلفة. فهذه المدينة ليست مسقط رأس وحسب، وإنما هي هوية روحية كلما ابتعد عنها قسراً، ازدادت إشعاعاً في نصوصه في محاولة للحفاظ على إرثها ومواجهة عمليات تهويدها، وإذا ما غاب عنها تخييلياً يحضر في السيرة كما في كتابيه "تلك الأمكنة"، و"تلك الأزمنة" مستنطقاً الذاكرة في المقام الأول.

هكذا وثّق صاحب "مدينة الخسارات والرغبة" في متوالية سيرية تاريخ الفلسطينيين ومكابداتهم طوال قرنٍ كامل. إذ حاك نسيج روايته "فرس العائلة" بِنَوْلٍ يدويٍ كمن يزخرف فضاءً أسطورياً في تأريخ حياة بدو فلسطين، الذين انحدروا من مضاربهم وقراهم نحو القدس ومحيطها عبر أجيالٍ متعاقبة.  

3 أجيال لعشيرة مرّت بتحوّلات جذرية، تبعاً لتطوّر الأحوال في محيطها. يُقتل الجدّ الأكبر عبد الله على يد عشيرة أخرى عند بئر ماء، فيخلفه ابنه محمد، ثم حفيده منّان. سيبقى عبد الله ذكرى حاضرة بقوة، منذ أن عادت فرسه إلى مضارب العشيرة من دون فارسها، لكنها ستختفي لاحقاً، من دون أن تغادر أحلام نساء العشيرة، حتى إنّ أحد أبناء منّان يولد بأذني حصان. باحتضار محمد بعد عودته من الحج (احتضار الحقبة العثمانية)، يصبح منّان مختاراً للعشيرة بأمر من الضابط الإنكليزي آدمز.

هكذا تدخل حياة البدو عتبة أخرى مثقلة بالهموم والتحديّات الصعبة. يطوي منّان صفحة الأمس، حين يقرر الاستقرار في قرية قرب القدس تدعى رأس النبع. يتردد بعضهم، ويرفض آخرون الفكرة، لكنهم، في نهاية المطاف، سيغادرون البريّة، إيذاناً بانتهاء زمن رعوي لطالما مثّل وعاءً لذكرياتهم وقيمهم ومسراتهم وأحزانهم، لينخرطوا في بناء عالم ريفي مرتبط بالمدينة.

في هذه الرواية وسواها، يلجأ صاحب "خبز الآخرين" إلى سرد شفوي مطعّم بالمحكية البدويّة، يتلاءم مع مناخات عالمه الروائي، ويستنفر عشرات الشخصيات في تأثيث متواليته الحكائية، وإن تفرّدت صبحا في توثيق سيرة العائلة إلى لحظة غيبوبتها الأخيرة، في نهاية الرواية، حين تخاطب وضحاء بقولها "هالحين أجا دورك بالحكي".

شهرزاد البدوية لا تكف عن استحضار الزمن السعيد الآفل، في مواجهة القيم الجديدة التي أصابت سلالة منّان بمقتل. تتشابك المرويات باطراد، نظراً إلى الانتقال من المكان القصي المفتوح على الخلاء إلى المكان الضيّق، فتنشأ حكايات سرّية وراء الشبابيك والأبواب على عكس ما كان يحدث في البريّة، إذ سيشيع السرّ على الفور بين كل البيوت، وسننتبه إلى زخم الحضور الأنثوي، واختلاف حضور الجسد لجهة الشهوانية البدوية، أو لجهة التكتّم المديني، والريبة من الغرباء.

تحوّلات متواترة تطيح طمأنينة الأب، وهو يراقب انهيار القيم البدوية القديمة التي نشأت عليها عشيرته، بالتوازي مع الأحداث السياسية التي طرأت على البلاد، وتفتّح جيل جديد على مقاومة الانتداب البريطاني، ومشاريع الوكالة اليهودية، وهجرة اليهود إلى فلسطين، فتحضر أسماء شخصيات وطنية أدت أدواراً مؤثرة في الوعي الفلسطيني، مثل أمين الحسيني، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان، وخليل السكاكيني. تتجاور الحكايات الميثولوجية مع الوقائع الحياتية، كأنها حقائق مؤكدة غير قابلة للشك، إذ يفسّر المنام ما هو مفتقد في الواقع، في تناوب صميمي.

يطمئن منّان إلى ابنه يوسف المفقود منذ اندلاع الثورة، بمجرد أن يراه شقيقه محمد الصغير في منامه، وتتهيأ صبحا للموت بعد أن تلتقي زوجها محمد الأول في المنام الذي يبدي فيه شوقه إليها، فتطلب من ابنها أن يدفنها في مقبرة البريّة إلى جانب زوجها، فيما تصهل فرس العائلة في منامات أخرى. وحالما تغيب الفرس عنها تطاردها الكوابيس، وتتوقع مصيبة جديدة ستحلّ على أحد ما في سلالتها. تفكّك المكان الأول بأساطيره وأضرحته وغزواته وانكساراته، سترمّمه إحداثيات مدينة القدس بشوارعها وأسواقها وأماكنها الدينية، وتعددها الثقافي، وهو ما انعكس على سلوكيات البدو، الذين انخرطوا في مشروع التمدّن، وإن ظلت القيم البدوية حاضرة في وجدانهم الجمعي. نحن إذاً، إزاء مدوّنة ضخمة برواة متعددين، يتداخل في نسيجها الحكي الشفوي مع الوقائع التاريخية، كأن محمود شقير أراد أن يكتب "مائة عام من العزلة" فلسطينية، لكن من موقع مختلف.

ليست "النكبة" مجرد جملة اعتراضية في سياق الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، بل فضيحة مدوّية في ضمير العالم. ذلك أن ما حدث في فلسطين منذ احتلالها لم يندمل يوماً. لعل إعادة إنتاج صورة المذابح والتهجير ضرورة لإنعاش الذاكرة العالمية، بأن الفلسطيني قد اقتلع من أرضه زوراً، تحت ذرائع توراتية، فعدا هذه الفكرة، ليس لدى "إسرائيل" ما يبرر تلك الجريمة المستمرة إلى اليوم.

ينبّه الكاتب الفلسطيني محمود شقير إلى غياب السرد الفلسطيني المتعلّق بالقرية كمكان، ويجيب قائلاً: "إن محو مئات القرى الفلسطينية، ألغى النص المواكب لها، فنحن لا نستطيع الكتابة عن قرية لم تعد موجودة في الواقع. لنقل إن جوهر الصراع يكمن في الذاكرة وحدها، وهو ما تسعى له إسرائيل بكامل يقظتها، منذ أن نهب شارون، أثناء غزو بيروت، مركز الدراسات الفلسطينية، وإخفاء مئات الأشرطة المصوّرة عن فلسطين".  

في روايتيه "مديح لنساء العائلة"، و"ظلال العائلة" يستكمل محمود شقير تدوين وقائع ما حدث لعشيرة العبد اللات ما بعد النكبة إلى ثمانينيات القرن الماضي وما بعدها. كأن الراوي يجلس في مضافة، مستعيداً سيرة العائلة في تشظيها بين جغرافيات متباعدة كمحصلة للاحتلال الإسرائيلي للبلاد. يتأثر "محمد الأصغر" بدور الراوي في معظم فصول الرواية، تلبيةً لرغبة الأب في جمع شتات العائلة وتدوين سيرتها، يهجر العمل في المحكمة الشرعية، ويتزوج سناء المطلّقة ليعمل في فرقة مسرحية ثم مدقّقاً لغوياً في صحيفة.  وهو بذلك يخلخل قيماً بدوية راسخة، إيذاناً باقتحام قيم الحداثة منطقة "رأس النبع" في محيط مدينة القدس، لجهة الأزياء والأعراف والعلاقات، فيما تشاركه السرد أمه وشقيقاه عبر الرسائل أو الاعترافات، أو الذكريات، بعد أن تتوزعهم الجهات من بيروت إلى الكويت وصولاً إلى البرازيل.

بالتوازي مع ما هو عائلي، كان محمد الأصغر يسجّل في دفتر صغير تفاصيل ما تبوح به النساء الراغبات في الطلاق من أزواجهن خلال عمله كاتباً في المحكمة الشرعية. وإذا به يكتشف حجم الضيم الذي يثقل أرواح النساء في مجتمع بطريركي صارم: "كنت أربط بين ظلم النساء وضياع البلاد، وأقول لبعض الأصدقاء: لن نتمكّن من تحرير البلاد ما دمنا نظلم النساء"، يقول. هكذا تتكشّف مدينة القدس كأنثى أخرى مضطهدة من جانب سلطة الاحتلال في تحوّلاتها من الألفة إلى العنف.

يمزج محمود شقير التاريخ بالسوسيولوجيا كما لو كان حكواتياً شعبياً لجهة اللغة المبسّطة مكتفياً ببلاغة المعنى على حساب ما هو جمالي صرف، أو ما يمكن أن نسمّيه تدوين الشفوي بأقل طبقات السرد بلاغةً، تبعاً للوعي المعرفي للشخصيات.  

عاش محمود شقير طويلاً بين المنافي متنقّلاً بين بيروت وعمّان وبراغ، قبل أن يعود إلى القدس، وقد حاز جوائز أدبية رفيعة أبرزها "جائزة محمود درويش للحرية والإبداع" عام 2011، و"جائزة القدس للثقافة والإبداع" عام 2015، وتأتي "جائزة فلسطين العالمية للأدب" تتويجاً لمسيرته الإبداعية الطويلة.