مذكرات وزير إعلام عبد الناصر (2 - 2)

يرجع فائق تراجع العلاقات المصرية - الأفريقية إلى الحملة الشديدة التى جرت على كل إرث عبد الناصر في عهد خلفه السادات، فجعلت الأفارقة يعدّونها حملة موجّهة أيضاً لسياسته الأفريقية.

  • محمد فايق: مهندس العلاقات المصرية -الأفريقية
    محمد فائق: مهندس العلاقات المصرية -الأفريقية

يروي فائق قصته مع السجن في كتابه "مسيرة تحرّر: مذكرات محمد فائق" التي بدأت في أيار/ مايو 1971 عندما وُضع تحت الإقامة الجبرية في منزله، في فصل بعنوان: "عشرة أعوام في سجون السادات" ثم أودع في ثم سجن أبو زعبل، وسجن القلعة، ثم السجن الحربي، وسجن ملحق مزرعة طرة.

وكانت فترة سجنه 10 سنوات بعدما رفض أن يكتب التماساً يعتذر فيه للسادات، ويطلب منه العفو في منتصف مدة سجنه بعد أكثر من خمسة أعوام في سجن ملحق بمزرعة طرة. وقد تلقى حينها عرضاً من الرئيس أنور السادات نقله إليه اللواء مصطفى كامل، رئيس جهاز أمن الدولة، للإفراج عنه مقابل "ورقة صغيرة" يكتب عليها اعتذاراً.

عرض السادات تضمن تأمين جانب معيشي "ستكون فيه مرتاحاً مالياً إلى أبعد مما تتصور". كان ذلك في اليوم السابق لأول أيام عيد الأضحى عام 1976. ويقول فائق: "بدا العرض صادماً ووجدته مهيناً".

 وكان رد فائق واضحاً جداً: لم أخطئ في حق أحد حتى أعتذر.. ولن أعتذر عن جريمة لم أرتكبها. وقال في حينه: "لو كتبت هذه الورقة، فإنني سأفقد نفسي إلى الأبد، أما إذا كتب الله لي أن أعيش، فسوف أخرج من السجن وأجد نفسي". وكان أن تركوه يكمل 10 سنوات بتمامها، وقد دخل السجن في عمر 42 وخرج وهو في 52 عام 1981. ويذكر فائق هنا أنه حين جرّدوه من ملابسه في السجن للكشف الطبي ، تذكر باتريس لومومبا رئيس وزراء الكونغو وقد أمسك به أعداؤه، وقبل أن يقتلوه جرّدوه من ملابسه واستمروا يضربونه بكعوب البنادق حتى فارق الحياة، وهو لا ينبس بكلمة ولا يستعطف ولا يستغيث. 

بعد فترة وجيزة من خروجه، وبسبب صلابته وإصراره، اعتقلوه ودخل المعتقل لمدة 3 أشهر مع 1500 شخصية وطنية أخرى  في أيلول/ سبتمبر 1981، وبقي إلى أن أفرج عنهم الرئيس مبارك عقب مصرع السادات. ويقول فائق: إنه لا يعرف لماذا تم اعتقاله مرة ثانية؟

ورغم معاناة السجن، تجنّب ما يمكن أن يوصف بأمراض السجن، فلم يتوقف فايق عن العطاء فقرأ كثيراً وألّف كتاباً من أهم كتبه وهو كتاب عن دور مصر في أفريقيا وحركة التحرر الوطني بعنوان "عبد الناصر والثورة الأفريقية".. كتبه على أوراق البفرة الصغيرة الرقيقة المخصصة للفّ السجائر.. وقد شغل نفسه بالسجن بالنجارة والزراعة وتعلم صناعة المخبوزات الإفرنجية.

من الأمور غير المشهورة عن فائق أنه لعب دوراً كبيراً في عودة العلاقات العربية مع مصر حسب رغبة الرئيس مبارك،ونجح في ذلك مع سوريا وليبيا والجزائر وياسر عرفات، وفي السنوات الخمس الأولى من حكم مبارك كان يأنس لرأيه ويقدّره، وعرض عليه (وكان معه شعراوي جمعة) وزارة الإعلام، فقال له "تعيين أي أحد من رجال عبد الناصر سوف يفتح عليك النيران"، الرئيس مبارك قال له أيضاً "أنا ناصري يا محمد، لكن لا أستطيع أن أقول ذلك علناً".

يرجع فائق تراجع العلاقات المصرية - الأفريقية إلى الحملة الشديدة التي جرت على كل إرث عبد الناصر في عهد خلفه السادات فجعلت الأفارقة يعدّونها حملة موجّهة أيضاً لسياسته الأفريقية،ورغم اعتباره أن مصر صحّحت بوصلتها الأفريقية منذ عام 2013 فقد اقترح إرسال أفضل عناصر الخارجية المصرية إلى العواصم الأفريقية، والاهتمام بتطوير العلاقات الشخصية برؤساء الدول الأفريقية، وتسيير رحلات طيران لكل دول أفريقيا، مع تأكيد أن تكون كل تلك الإجراءات جزءاً من استراتيجية متكاملة.

إن "مسيرة تحرّر: مذكرات محمد فائق"  لا تحصر نفسها في الأمور السياسية، بل نجد فيها أحاديث عن الكثير من الشخصيات العظيمة والمؤثرة التي التقى بها: زعماء حركة التحرر الوطني العالمية، وزعماء حركة عدم الانحياز، مثل أنديرا غاندي، وكوامي نكروما، والسيدة باندرانيكا، وفيدل كاسترو ورئيس الوزراء الصيني الأسبق شواين والمناضل تشي جيفارا.

ويتحدث فائق عن لقائه بشعراء المقاومة الفلسطينية وهو لقب أطلقته عليهم مصر وقد شكَّلوا ظاهرة مُهمة بعد أن جاء محمود درويش إلى مصر . وكان قد سبقه إليها سميح القاسم وتوفيق زياد.

اهتم فائق بوصول شاعر فلسطين محمود درويش إلى القاهرة.  ورحَّب الرئيس عبد الناصر بحضوره في أي وقت. وقد أشار إلى أهمية كتاب "محمود درويش في مصر"  لسيد محمود الصادر عن منشورات المتوسط - إيطاليا.. وقد أصدر فائق قراراً وزارياً بتعيين محمود درويش مستشاراً ثقافياً لإذاعة "صوت العرب". وكان لجوء درويش إلى القاهرة وخروجه من الأراضي المحتلة سبباً لنجاح مشروعه الشعري من دون اعتقال أو مضايقات. 

ويروي فائق في مذكراته كيف جاءت أم كلثوم إلى مكتبه وهو وزير إعلام عندما تنحَّى عبد الناصر لتطلب مناشدته من خلال الإذاعة للعودة. وكان معها مُناشدة كتبها لها الشاعر صالح جودت ولحَّنها رياض السُنباطي. ويضيف فائق: لم تكن أم كلثوم وحدها من الفنانين الكِبار في تلك الأيام، فقد كان معها  في مجال الموسيقى والغناء محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، محمد فوزي، ليلى مراد، شادية، سعاد محمد، صباح، كارم محمود، عبد المطلب، وفايزة أحمد. ومن الملحنين: كمال الطويل، بليغ حمدي، محمد الموجي، رياض السُنباطي، ومحمد القصبجي. ويحكي لقاءاته بهم.

يقول فائق عن تقييمه الشخصي للتجربة الناصرية،إن قيام ثورة 1952 كان أمراً لا بد منه، لأسباب عديدة، على رأسها الاحتلال البريطاني.

ويتحدث عن ثورة 25 كانون الثاني/ يناير فيقول "إن مصر خسرت بسببها أشياء كثيرة، لكنها كانت ضرورية بسبب التجمد الذي أصاب عملية الإصلاح السياسي، ويؤكد أنها جعلت لقضية حقوق الإنسان أهمية خاصة. فعندما شارك في عضوية اللجنة المكلّفة بتقصّي حقائق ما جرى في الأيام الأولى للثورة، وكان وقتها عضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان ومسؤول مكتب الشكاوى، وهو أحد أهم أجهزة المجلس، أصدر تقريراً يطالب الدولة بالتعويض وجبر الضرر للمواطنين الذين تجاوز بحقهم موظفو تنفيذ القانون. وبالفعل، صرفت الدولة تعويضات مالية ومعاشاً استثنائياً لأسر الشهداء، وخصّص وزير المالية 5 مليارات جنيه لتعويض المواطنين الذين تضررت ممتلكاتهم.

يتوقف فائق عند ثورة 30 حزيران/ يونيو، وكان ما زال يشغل رئاسة المجلس القومي لحقوق الإنسان والتي استقال منها لاحقاً، ويقول بأنه "نجح في رد الاعتبار لشخصيات ظلمت، وتجاهل المسيئين"، لأن الرجل الكبير لا يحمل ضغينة لأحد.