ممدوح عدوان يهدينا مجدّداً نسخة من "حيونة الإنسان"
رحل ممدوح عدوان ولم يتخلَّ عن سيارته الحمراء المتهالكة، تاركاً شوارع دمشق للسيّارات الفخمة التي يقودها بقوة دفع الكراسي الوثيرة للمناصب، أنصاف وأرباع مثقّفين، أفرزتهم الكارثة التي سبق وحذّر مبدعنا الراحل، من قرب قدوم غيومها الحالكة.
طوى ممدوح عدوان (1941- 2004) عقدين من الغياب، لكن اسمه لم يغب، فنحن جميعاً نحتاج إليه في مواقف كثيرة، نستلّه من الأرشيف كلما شعرنا بتراكم الخسارات، فلكلٍّ منّا حصته في مائدة هذا المثقّف المتمرّد بهوياته المتعدّدة. ذلك الذي سلك درب "القشق" بكامل وعورته غير آبه بفاتورة الحساب. أين ما توجّهنا في بستانه سنجد ثماراً يانعة (90 كتاباً في الشعر والترجمة والمسرح).
في هذه اللحظة العاصفة سيداهمنا الكتاب الذي أنهى به حياته، نقصد "حيونة الإنسان" (2003)، وطبعاته المتتالية التي تجاوزت حتى الآن 15 طبعة، بوصفه بياناً شاملاً في فحص وتشريح وفضح تاريخ الطغيان والعبودية والإذلال، ومعجماً نفيساً، في توصيف الكارثة المقبلة، كما لو أنه يستعرض شريطاً عن وقائع مؤجّلة لا يحتاج الكشف عنها إلى عدسة مكبّرة، أو خبراء موارد بشرية في الوحشية والسفاهة والتشبيح.
حيونة الإنسان
هنا يكشف عدوان بمبضع جرّاح عن تطوّر مراتب البهيمية، والعسف، والتنمّر، والطعنات التي نالها الكائن الهشّ، في وضح النهار، عبر خلطة عجائبية من النصوص المتجاورة المستلّة من مرجعيات مختلفة في توثيق المصير العبثي والمؤلم للكائن البشري، سواء كان ضحيةً أم جلّاداً، لتكتمل العبثية بتبادل الأدوار بينهما، في ما يمكن تسميته "صناعة الوحش"، فالمسألة كما يقول في تبرير عنوان كتابه: "هي أنني أرى أنّ عالم القمع، المنظَّم منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر، هو عالم لا يصلح للإنسان، ولا لنمو إنسانيته. بل هو عالم يعمل على حيونة الإنسان".
هكذا، يرسم خريطة متكاملة لتضاريس العسف، وانتهاك الكرامة، وتشريح آليات الطغيان، بما يشبه نسخة عصرية من "طبائع الاستبداد". إذ يستدرج على مراحل معجم الجحيم في توصيف "القامع والمقموع"، و "السلبطة"، و"الحاشية"، و"أصل العنف"، و"الطاغية"، و"الديكتاتور"، مغلقاً أضلاع المثلّث الذي بدأه بكتابه "دفاعاً عن الجنون"، وترجمته الفذّة لكتاب "تاريخ التعذيب" لمؤلفه برنهاردت ج. هروود.
في هذه الانطولوجيا السوداء يستنفر ممدوح عدوان في تجوال طليق، نصوصاً رصدت صعود الطغيان إلى درجة "تشويه الإنسان وتزويره"، ويجد في صورة "العسكري الأسود" التي رسمها يوسف إدريس، مثالاً حيوياً عن تبادل الأدوار بين "القامع والمقموع"، أو بين الجلاد والضحية، والابتكارات المذهلة في الطاعة والإخضاع والترويض، وكيفية تحوّل الذئب إلى كلب حراسة، ويفكّك صاحب "تلويحة الأيدي المتعبة" شخصية "المتنمّر" الذي كان شخصاً مذعوراً، لكن بفعل الصلاحيات الممنوحة له من السلطة يتحوّل إلى وحش، أو "متسلبط"، أو "بلطجي" يفرض إرهابه الشخصي على الآخرين بوصفه "جلّاداً متجوّلاً"، بإمكانه اتهامك "بالخيانة والعمالة، أو بالكفر والإلحاد".
ففي "مجتمع المقموعين"، ينشأ "غيتو" يقوم على "ازدواجية النفي أو الإلغاء للآخر نفسيّاً" بقصد ترميم ذاته المشوّهة لمواجهة هزيمته الشخصيّة، ولو برّر سلوكياته بشعارات برّاقة لإخفاء "الكراهية العمياء للفئات الأخرى".
عشيرة نحل بمذاق حارق
في رثائه للشاعر الراحل، اختزل محمود درويش صورته بقوله: "مثل عازف يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ.. لم أقل لك أن واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارقة".
ستنتابنا الحيرة في تذوّق موجودات المائدة. ذلك أنّ الميراث الذي تركه صاحب "يألفونك فانفر" ينطوي على روح متمرّدة وعصيان أصيل، وبسالة استثنائية "اكتشفت أنني كنت أكتب - دون كيشوت - طوال حياتي، قوة التصدّي الفردية لعالم ينهار، لأنّ القيم فيه تنهار، والاكتشاف الأخطر هو إلى أيّ حدّ كنت أنا أيضاً دون كيشوت، حين أنبري لمعالجة عطب عصري بالكلمات".
من ضفة أخرى يحضر ممدوح عدوان المسرحي الذي أنجز نحو 25 نصّاً تتأرجح بين مسرحة الجوع والتاريخ كما في "سفر برلك"، والمقتبسة مثل "هاملت يستيقظ متأخراً"، و"الفارسة والشاعر"، ومونودراما الممثل الواحد كما في "حال الدنيا"، و "الزبّال"، إضافة إلى أعمال درامية مثل" الزير سالم"، و"المتنبي"، و"دكان الدنيا".
الصراخ سلاحي الوحيد
في روايته "أعدائي" سيشتبك ممدوح عدوان مع مناخات "حيونة الإنسان" لجهة هتك طبقات العبودية بقوله: "نحن لا نتعوّد يا أبي، إلا إذا مات فينا شيء. تصوّر حجم ما مات فينا، حتى تعوّدنا كل ما يجري حولنا؟".
هكذا اعتمد عدوان النبرة العالية والسخط في كل ما كتبه مدفوعاً بمقولة "الصراخ سلاحي الوحيد، سأشحذه وأتقن استخدامه حتى يشقّ حنجرتي".
سيستدرك متأخّراً أنّ المنبرية قادت شعره إلى زاوية حرجة تحت وطأة التحوّلات الدراماتيكية في المنطقة، متلمّساً فضاءات حميمية لطالما أهملها في مشاريعه الشعرية السابقة ملتفتاً إلى الداخل وملامسته عن كثب، بفحص ما هو قريب ومرئي ومفتقد، فالحنين إلى الموجودات التي لم يعرها انتباهاً، في أوقاتٍ أخرى، تأخذ حصتها من اهتمامات الشاعر.
ها هو ممدوح عدوان يجرّب الايقاعات الداخلية لقصيدة النثر في ديوانه "حياة متناثرة" كمحاولة لزجّ الشاعر في فرن الحياة. يقول: "أين أذهب بباقات الأحلام الذابلة، والأناشيد المعلّقة مع البامياء والثوم؟/ ماذا أفعل بهذه الشعارات المعلّبة التي انتهت مدتها؟/ وأين أجد ظلي الذي كان يتمدّد بأريحية، أمامي على الرمضاء، وكان يقتفي خطواتي، ويتسلل ورائي، ككلب الصيد؟، وأمة مضجرة، ليس فيها وطن لنخونه".
جردة حساب أخيرة
-
ممدوح عدوان
إطلالة أخيرة على مسوّدات قصائد ممدوح عدوان التي صدرت بعد رحيله بعنوان "قفزة في العراء" تحيل إلى مقارعته الموت في إثر إصابته بمرض السرطان ككائن يتجوّل في الغرفة، إذ أدرك أنّ جسده سينطفئ قريباً، فقام بجردة حساب مع حياته الصاخبة، وهي تذوي بالتدريج "سأموت بلا صخب، وبلا استئذان، كأنني اليوم حبوتُ، وسأشيّع نفسي دون أذان، دون عويل أو صوت".
لكن هذا الاستسلام للموت ينطوي على مبارزة ينتصر فيها الشاعر تارةً، ويخسرها طوراً، وفقاً لجرعة الألم، وقوة الحياة، وهما يتناوبان على الجسد المنهك: "آن أن نرجع للبيت، هذا الليل أقبل مثل الطواغيت، وهذا البرد ينسل إلى نقي العظام"، و"آن لي أن أقول وداعاً، وآن الرحيل"، و"إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع، تركنا فوقها منسف أحلام... نحن أكملنا مدار العمر فرساناً، وقد متنا شباباً".
هامش
سيارة فولكسفاغن حمراء منقّطة بالأسود على هيئة دعسوقة، لطالما عبرت شوارع دمشق كماركة مسجّلة لصاحبها ممدوح عدوان. منذ فترة التقطت إحداهنّ صورة تذكارية إلى جانب السيارة فأعادت سيرتها مجدّداً كذكرى عصية على النسيان.
السيارة التي تحمل الرقم (143840) لم تغادر رصيف أحد شوارع حي المزّة، بقيت السيارة في مكانها مثل نصب تذكاري يؤكّد فضيلة مثقّف لم يساوم يوماً، في مواقفه الشجاعة. سيارة حملت على كتفيها معظم مُبدعي البلد، في نهاية سهرة صاخبة، أو في إثر أمسية أدبية، أو في زيارة إلى مدينة أخرى.
سلحفاة حمراء تعاند وعورة الطريق، وطول المسافة. بغيابه تراكم الغبار فوق سيارته، وباتت بعجلات مثقوبة، كأنها نسخة أخرى من صورة البلاد في ظل حرب لم يشهدها صاحب رواية "أعدائي".
رحل ممدوح عدوان ولم يتخلَّ عن سيارته الحمراء المتهالكة، تاركاً شوارع دمشق للسيّارات الفخمة التي يقودها بقوة دفع الكراسي الوثيرة للمناصب، أنصاف وأرباع مثقّفين، أفرزتهم الكارثة التي سبق وحذّر مبدعنا الراحل، من قرب قدوم غيومها الحالكة.




