من سيزيف إلى "تيك توك"... لماذا نحتاج إلى تعلّم الصبر والانتظار؟
على العكس من حياتنا السريعة اليوم حيث نتوقّع الإشباع الفوري بلا تأجيل، مثّل الانتظار عبر التاريخ إحدى التجارب الإنسانية الأكثر عمقاً وتعقيداً. كيف؟ وما أهمية الانتظار؟
يمثّل الانتظار إحدى التجارب الإنسانية الأكثر عمقاً وتعقيداً - وبالتأكيد الأكثر إزعاجاً. إذا كنت قد وقفت يوماً في طابور، أو انتظرت تحميل صفحة على الإنترنت، أو راقبت هاتفك بعد إرسال رسالة مهمة، أو انتظرت عودة صديق أو حبيب من سفر بعيد، فأنت تعرف تماماً ما نتحدث عنه.
الانتظار ليس مجرد فاصل زمني بين لحظتين (كما نودّ أن نعتقد ونحن ننظر إلى ساعاتنا بغضب في عيادة الطبيب)، بل هو حالة وجودية كاملة تكشف عن علاقة الإنسان بالزمن، والمعنى، والآخر، وذاته - وقدرته المحدودة على التحمّل. في الانتظار، يتعلق الوعي بين الحاضر والمستقبل، بين الفعل والسكون، بين الأمل واليأس، وأحياناً بين الجنون والمزيد من الجنون.
ولأجل هذا، جذب الانتظار اهتمام الفلاسفة والأدباء عبر العصور، فتناولوه من زوايا متعددة - وجودية، اجتماعية، ونفسية، في محاولة لفهم هذه الحالة المعلّقة بين الآن والغد.
جذور فلسفية.. الانتظار كحالة وجودية
-
رأى توماس هوبز في الانتظار قوة تحرّك العواطف الإنسانية كلها
قبل أن يتحوّل الانتظار في القرن العشرين إلى موضوع وجودي بامتياز، كان الفلاسفة القدماء قد تأملوا منذ وقت مبكر في طبيعته المقلقة. هكذا رأى سينيكا (4 ق.م – 65 م)، الفيلسوف الرواقي، أن أخطر ما في مواجهة الحياة هو ذاك الاعتماد المفرط على الغد: "ما يمنعنا أكثر من العيش هو الانتظار الذي يعتمد على الغد". الإنسان، في سعيه الدائم نحو مستقبل أفضل، يفقد القدرة على الاستمتاع بالحاضر، ويطارد زمناً غير مؤكد يجعله يخسر لحظته الآنية.
أما الفيلسوف اللاهوتي أوغسطين (354 – 430)، فقد ذهب أبعد في تفكيك طبيعة الزمن والانتظار، ليصل إلى خلاصة صارمة: الماضي والمستقبل غير موجودين. الأول انقضى، والثاني لم يولد بعد، وكل ما نملكه هو الحاضر.
هكذا يصبح الانتظار مجرد "حاضر للأشياء المستقبلية"، ووجوده متجذر في النفس وحدها. فكرة كهذه ستشكّل لاحقاً جزءاً أساسياً من التفكير الوجودي في مفهوم الزمانية.
أما توماس هوبز (1588 – 1679) فيرى في الانتظار قوة تحرّك العواطف الإنسانية كلها: منه تولد الفرحة بوصفها "توقع نتيجة ما قبل حصولها"، ومنه ينبثق الحزن بصفته "توقع العواقب". الانتظار، في رأيه، ليس حالة سلبية، بل محرّكاً لمشاعرنا وتوتراتنا وحياتنا العاطفية.
أما في القرن العشرين، فقد قدّم فلاديمير جانكيليفيتش (1903 – 1985) تمييزاً لافتاً: ما دام الانتظار يحمل أملاً، فهو نقيض الملل. حتى حين ننتظر أن يمر الألم، أو يذوب السكر، أو تفرغ الساعة الرملية، فإننا نعيش تجربة المدّة من أجل غاية، لا هرباً من الزمن ذاته.
لكن جانكيليفيتش يذكّر أيضاً بأن أخطر أنواع الانتظار هو ذاك المعلّق على وعود كبرى وخلاص مؤجل… وهو انتظار قد يبتلع العمر كله.
الفيلسوف الفرنسي نيكولا غريمالدي ( 1933) يرى بدوره أننا "نعيش لننتظر". إذ لا نشبع من الحاضر ونظل أسرى نقص جوهري في اكتمالنا. هكذا "تمضي حياتنا في انتظار فيض من الكثافة ينقصها دائماً"، وحتى "موتنا ليس إلا انتظار أن ينتهي العمر". الانتظار، في نظره، هو التجربة الإنسانية بامتياز.
الزمانية والقلق الوجودي
-
يقترح كامو أن "نتخيل سيزيف سعيداً" إذ تكمن السعادة في الفعل نفسه لا في نتائجه
يرتبط مفهوم الانتظار ارتباطاً وثيقاً بالزمانية كما طرحها الفيلسوف الألماني، مارتن هايدغر، في "الكينونة والزمان" (1927). هايدغر طوّر ما بدأه أوغسطين، لكنه أضاف إليه البعد الوجودي: الوجود الإنساني هو وجود زماني بالضرورة، والانتظار يجسّد هذه الزمانية بشكل حاد.
تعيش الذات المنتظرة في "انفتاح على المستقبل"، حيث يصبح المستقبل المنتظر - كما قال أوغسطين، الكامن فقط في الروح - جزءاً من بنية الوعي الحاضر. هذا الانفتاح محمّل بالقلق الوجودي. إذ يكشف الانتظار عن "الإمكانية" كبعد أساسي من أبعاد الوجود.
هنا يظهر جوهر ما حذّر منه سينيكا: في الانتظار، نواجه عدم اليقين، وهذا العدم المحتمل يثير قلقاً، ليس خوفاً من شيء محدد، بل شعوراً بالضياع أمام إمكانيات الوجود نفسه.
أما من منظور جان بول سارتر في "الوجود والعدم" (1943)، فيكتسب الانتظار بعداً يتعلق بالحرية والاختيار. الإنسان "محكوم عليه بالحرية"، وكل لحظة هي فرصة للاختيار. الانتظار، من هذا المنظور، قد يكون شكلاً من "سوء النية"، حيث يتهرب الفرد من مسؤولية الاختيار بتعليق قراره على حدث خارجي.
هنا تظهر مفارقة: بينما يرى هوبز أن الانتظار يحركنا عاطفياً، يرى سارتر أنه قد يشلنا وجودياً. المُنتظِر يتخلى عن حريته لصالح "الآخر" أو "الظرف"، ويصبح الانتظار نوعاً من الهروب من الأصالة الوجودية - أو بعبارة أخرى، عذراً فلسفياً راقياً للإنسان لعدم فعل أي شيء.
إنه يخسر "الحاضر" الذي حذّر منه سينيكا، ويعيش في "حاضر الأشياء المستقبلية" الذي وصفه أوغسطين - لكن من دون أن يحقق أي فعل حقيقي.
من جهة أخرى، قدّم ألبير كامو في كتابه "أسطورة سيزيف" (1942) رؤية مرتبطة بمفهوم العبث، حيث قد يكون الانتظار انتظاراً لما لن يأتي أو لمعنى لن يتحقق.
لكن هذا الوعي بالعبث لا يعني اليأس، بل يمكن أن يتحوّل إلى نقطة انطلاق للتمرد والإبداع. سيزيف، الذي يجبر على دفع صخرة إلى قمة جبل تتدحرج عند كل محاولة، يجسّد حالة الانتظار الأبدي بلا وصول.
ومع ذلك، يقترح كامو أن "نتخيل سيزيف سعيداً"، إذ تكمن السعادة في الفعل نفسه لا في نتائجه. هنا يلتقي كامو مع جانكيليفيتش: فالانتظار الحقيقي، المشحون بالأمل أو حتى بالتمرّد، هو عكس الملل والاستسلام. إنه تجربة زمنية من أجل غاية، حتى لو كانت تلك الغاية مجرد دفع الصخرة مرة أخرى. والأهم أن نتجنب الوقوع في فخ "الوعود الكبرى" التي حذّر منها جانكيليفيتش، كالانتظار للخلاص الأبدي أو "الغد المشرق" الذي قد لا يأتي أبداً.
الانتظار في الأدب
-
تجسّد مسرحية "في انتظار غودو" الرؤية العبثية للوجود: ننتظر من دون أن نعرف ماذا ننتظر
تعتبر مسرحية "في انتظار غودو" (1953) للكاتب الايرلندي، صامويل بيكيت، واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي تناولت فلسفة الانتظار. البطلان فلاديمير وإستراغون ينتظران شخصاً يدعى غودو، لكنه لا يأتي أبداً.
الانتظار هنا ليس له هدف واضح، ولا معنى محدّد، ولا نهاية متوقعة. تجسّد المسرحية الرؤية العبثية للوجود: ننتظر من دون أن نعرف ماذا ننتظر، ونستمر في الانتظار حتى لو كان ما ننتظره لن يأتي. بيكيت لا يقدم حلاً، بل يضع الجمهور أمام السؤال: هل الانتظار نفسه هو كل ما لدينا؟
الانتظار والزمن السحري
-
في "مئة عام من العزلة" يتخذ الانتظار بعداً أسطورياً وسحرياً
في رواية "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز ، يتخذ الانتظار بعداً أسطورياً وسحرياً. عائلة بوينديا بأكملها تنتظر أشياء عدة: الحب، الخلاص، النبوءة، ونهاية اللعنة.
الزمن هنا دائري ومطوي على نفسه، والانتظار يفقد معناه الخطي ويصبح حالة دائمة من الترقب الأبدي. الشخصيات تنتظر ما انتظره أجدادهم، وما سينتظره أحفادهم - في دوامة من الانتظار الموروث.
هذا البعد الأسطوري يرتبط بالثقافة اللاتينية الأميركية، حيث يصبح الانتظار جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي.
استنزاف الانتظار
-
ها جين
في رواية "الانتظار" (1999)، يقدّم الكاتب الصيني، ها جين (Ha Jin)، صورة قاسية لانتظار امتد 18 عاماً. الطبيب لين كونغ ينتظر الطلاق من زوجته ليرتبط بالممرضة التي يحبها، لكن القانون الصيني والبيروقراطية يفرضان عليه الانتظار.
هذا الانتظار الطويل لا يقتل الوقت فحسب، بل يستنزف الحب ذاته، ويحوّله إلى عادة، ثم إلى واجب، ثم إلى فراغ مؤلم. حين يتحقق ما كانا ينتظرانه، يكتشفان أن الانتظار نفسه قد سرق منهما القدرة على الفرح والشغف.
تطرح الرواية سؤالاً حاسماً: ماذا يحدث حين يطول الانتظار؟ الإجابة قاسية: الانتظار يأكل الرغبة، يجفف العاطفة، ويحوّل الأمل إلى ندم. ها جين لا يكتفي بتحليل الانتظار كحالة نفسية، بل يضعه في سياقه الاجتماعي والسياسي، حيث كان الانتظار في الصين الماوية أداة قمع اجتماعي.
نماذج عربية: الانتظار بين الحنين والثورة
-
إميل حبيبي
في الأدب العربي، يرتبط الانتظار غالباً بالركود الاجتماعي والإحباط السياسي والتوق إلى تغيير لا يأتي.
يتابع الروائي المصري، نجيب محفوظ، في "الثلاثية" عائلة عبر 3 أجيال، كل منها ينتظر شيئاً مختلفاً: الخلاص الديني، والاستقلال الوطني، والثورة الاجتماعية.
كمال عبد الجواد، المثقف الحائر، يمثل نموذجاً للانتظار السلبي حيث ينتظر الحب والمعنى واليقين الفلسفي، وفي النهاية لا يحصل إلا على الشك والوحدة.
في روايات محفوظ الأخرى، نرى الانتظار كظاهرة مجتمعية: في "زقاق المدق" ينتظر سكان الزقاق فرصة للهروب من فقرهم، وفي "ميرامار" ينتظر المثقفون ثورة لم تحقق وعودها.
أما الكاتب الفلسطيني، إميل حبيبي، فيقدم في "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) مفهوم الانتظار الساخر. ينتظر سعيد أبو النحس أن تتحسن الأمور، لكنه يعرف أنها لن تتحسن. ينتظر الخلاص، لكنه لا يؤمن بالخلاص. الانتظار عند حبيبي موقف وجودي وسياسي: الفلسطيني ينتظر الاعتراف والحقوق، لكن هذا الانتظار لا نهاية له. لذا يلجأ إلى السخرية كآلية دفاع: إذا كان لا بد من الانتظار، فلنضحك على عبثيته.
ثم الروائية اللبنانية، حنان الشيخ، في روايتها "حكاية زهرة" (1980) حيث تقدّم الانتظار من منظور أنثوي. زهرة تنتظر الحب والحرية والحياة الخاصة بعيداً عن قيود المجتمع.
الانتظار الأنثوي في الأدب العربي مزدوج: المرأة لا تنتظر فقط الشيء الذي تريده، بل تنتظر أيضاً الإذن بأن تريده، الإذن بأن تسعى إليه، الإذن بأن تعيش.
لا ننسى طبعاً الشعر العربي المليء بالانتظار. من معلقة امرئ القيس الذي ينتظر تحقيق الثأر، إلى نزار قباني الذي ينتظر امرأة تكسر القواعد، إلى محمود درويش الذي ينتظر العودة إلى وطنه.
ففي قصيدة "سجل أنا عربي"، الانتظار عند درويش ليس سلبياً، بل هو صمود وتحد: "سجّل أنا عربي/ورقم بطاقتي خمسون ألف/وأطفالي ثمانية/وتاسعهم سيأتي بعد صيف/فهل تغضب؟". هنا الانتظار (تاسعهم سيأتي) مشحون بالأمل والإصرار، لا بالاستسلام.
الانتظار بين الشرق والغرب
-
يعتبر الصبر في البوذية جزءاً من الكمالات الست ويساعد على التحرّر من التعلق
هناك فرق جوهري بين الثقافات في فهم الزمن والانتظار. في الغرب، يُنظَر إلى الوقت كأنه نهر مستمر لا يتوقف، يسعى دوماً نحو الأمام، حيث تقدّر السرعة والإنتاجية، ويعتبر الانتظار ترفاً غير محتمل.
تتجلى هذه الرؤية في الطعام السريع والمواعدة السريعة، إلى درجة أن أي لحظة تأخير، مهما كانت بسيطة، قد تتحوّل إلى كارثة صغرى تصيب المرء بما يعرف بـ"متلازمة نفاد الصبر".
أما في الثقافات الشرقية، فينظر إلى الزمن غالباً كدائري أو أقل أهمية، فيصبح الانتظار فرصة للتأمل والنمو الروحي. في الإسلام، الصبر فضيلة روحية، وفي القرآن: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب". الصبر ليس مجرد تحمّل إذاً، بل هو موقف إيجابي من الابتلاء.
وفي البوذية، يعتبر الصبر جزءاً من الكمالات الست ويساعد على التحرّر من التعلق.
ثم في الطاوية، "الوو-وي" أو (اللا- الفعل)، فيعني التدفق مع الزمن بدلاً من الاستعجال ضده. لكن هذا الصبر الشرقي قد يستغل أحياناً لقبول الظلم أو الانتظار الطويل للعدالة، ما يحوّله من فضيلة إلى أداة سيطرة اجتماعية.
الانتظار في العصر الرقمي: الأزمة المعاصرة
-
بيونغ تشول هان
في العصر الرقمي، أصبح الانتظار تجربة نادرة ومتوترة. لم تعد ثوان قليلة لتحميل فيديو تمر بصمت، بل تتحول إلى لحظات إحباط، ومصدر قلق مستمر. التسوق بنقرة، والحصول على المعلومات فوراً، والردود السريعة، كلها جعلت أدمغتنا تتوقع الإشباع الفوري بلا تأجيل، كما يوضح روبرت لوستيغ في كتابه "The Hacking of the American Mind".
نحن نعيش في حاضر ممتد بلا عمق، حيث كل شيء متاح فوراً، لكن لا شيء يدوم، ولا شيء يترك أثراً، ونصبح أسرى السرعة والتشتت، متأثرين بمتلازمة "فومو" (أي الخوف من أن يفوتك شيء)، قلقين من التخلف عن الركب، ومهددين بالقلق والاكتئاب.
يرى الفيلسوف الكوري، بيونغ تشول هان، أن هذه الثقافة تحرمنا من "البطء المقدس"، اللحظات الفارغة التي تمنحنا فرصة للتأمل واستعادة إنسانيتنا.
لكن هناك سبيل للخلاص من هذا الإشباع الفوري المستمر: إعادة تعلم الانتظار. تحويل لحظات الانتظار إلى وعي كامل، ممارسة الصوم الرقمي من خلال الانقطاع لفترات عن الهواتف والشاشات، اختيار البطء المتعمد في الحياة اليومية، والمشي بدل السيارة، أو القراءة الورقية، أو الطبخ المنزلي، كلها أدوات لاستعادة التوازن.
والأهم من ذلك، تقدير الترقب، تلك المتعة التي كانت في الانتظار منذ زمن، سواء كان انتظار رسالة من محبوب، أو موسم جديد من مسلسل، أو رحلة مخططة. حين نتعلم أن ننتظر بوعي، يتحول الانتظار من مصدر إحباط إلى تجربة غنية تمنح حياتنا معنى وعمقاً، لنعيش اللحظة حقاً قبل أن تمرّ بلا أثر.
المراجع الرئيسية
Heidegger, M. (1927). Sein und Zeit [Being and Time]. Max Niemeyer Verlag.
Sartre, J.-P. (1943). L'Être et le Néant. Gallimard.
Camus, A. (1942). Le Mythe de Sisyphe [The Myth of Sisyphus]. Gallimard.
Beckett, S. (1953). En attendant Godot [Waiting for Godot]. Les Éditions de Minuit.
Gustave, O. (2021, July 8). Attente . Philosophie Magazine. Retrieved from https://www.philomag.com
