من سيسيطر على الذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي التوليدي – القادر على إنتاج المحتوى النصي والصوري والموسيقي – أصبح الآن جزءاً لا يتجزأ من منظومات الأعمال في ما يقرب من 70% من المؤسسات، ما يُعيد تعريف الأدوار والوظائف والنماذج التشغيلية داخل بيئات العمل.
-
الشركات العالمية لم تعد تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كترف تقني بل أولوية استراتيجية قصوى
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد ابتكار تقني أو ثورة رقمية تُضاف إلى قائمة الإنجازات البشرية، بل أصبح قوة بنيوية تُعيد صياغة العالم كما نعرفه – اقتصاداً، وسياسة، ومجتمعاً. نحن لا نشهد مجرد تطور تكنولوجي، بل تحوّلاً حضارياً يماثل في أثره الانتقال من الزراعة إلى الصناعة، أو من الصناعة إلى الاقتصاد المعرفي. واليوم، ونحن على أعتاب منتصف العقد الثالث من الألفية، يتحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة مساعدة إلى "كيان اقتصادي" مستقل يُعيد رسم خريطة النفوذ العالمي.
في عام 2025، لم يعد السؤال: "هل نحتاج إلى الذكاء الاصطناعي؟"، بل أصبح: "هل نملك ما يكفي لنواكبه؟"، و"من سيقود ومن سيتبع؟". إننا نعيش زمناً تتنافس فيه الدول ليس فقط على امتلاك الموارد الطبيعية، بل على السيطرة على البيانات، والخوارزميات. زمنٌ تتحول فيه البيانات من مجرد رقم إلى رأسمال، وتصبح فيه القدرات الحوسبية معياراً جديداً للثروة والهيمنة.
في هذا المشهد المتسارع، يُقدّم تقرير الهيئة الدولية لمراكز البيانات (IDCA) لعام 2025 لمحة عميقة ومقلقة في آن معاً عن واقع يتغيّر بسرعة مذهلة. الخوارزميات لم تعد في خلفية المشهد، بل في مقدمته؛ توجه الاستثمارات، وتعيد تعريف الوظائف، وتضع قواعد اللعبة الاقتصادية القادمة. وبينما تتسابق الشركات الكبرى نحو تطوير "الذكاء الاصطناعي التوليدي" و"الذكاء الوكيلي"، تدخل البشرية مرحلة جديدة تُختصر فيها القيمة بالقدرة على معالجة البيانات واتخاذ القرار في أجزاء من الثانية.
إننا أمام منعطف حاسم في التاريخ الاقتصادي المعاصر، حيث لم تعد مفاهيم مثل الإنتاجية والنمو تعتمد على اليد العاملة أو رأس المال وحدهما، بل على نماذج التعلم العميق، والشبكات العصبية، وسُحب البيانات فائقة السرعة. الذكاء الاصطناعي، ببساطة، لم يعد تقنية... لقد أصبح "اقتصاداً".
لم تعد الثورة الصناعية الرابعة مجرد تعبير أكاديمي يُستعمل في المنتديات والمؤتمرات، بل واقعاً ملموساً تدفع به تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي نحو آفاق غير مسبوقة. في تقريرها العالمي لعام 2025، ترسم الهيئة صورة دقيقة لمستقبل يقوده الذكاء الاصطناعي بوصفه المحرك الأساسي للاقتصاد الرقمي العالمي، وسط سباق محموم بين الشركات والدول لإحكام السيطرة على مفاتيح هذه التقنية.
الشركات العالمية لم تعد تتعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه ترفاً تقنياً أو خياراً إضافياً، بل كأولوية استراتيجية قصوى. ما يزيد على 87% من الشركات حول العالم تعدّ الذكاء الاصطناعي حجر الأساس في بنيتها الرقمية، فيما تعتمد 76% منها عليه فعلياً في عملياتها اليومية. المفارقة الأكثر أهمية هي أن الذكاء الاصطناعي التوليدي – القادر على إنتاج المحتوى النصي والصوري والموسيقي – أصبح الآن جزءاً لا يتجزأ من منظومات الأعمال في ما يقرب من 70% من المؤسسات، ما يُعيد تعريف الأدوار والوظائف والنماذج التشغيلية داخل بيئات العمل.
هذا التحول ليس رمزياً فحسب، بل يحمل أرقاماً ضخمة. فالاقتصاد الرقمي العالمي يُقدَّر حجمه حالياً بـ 16 تريليون دولار، فيما يُتوقع أن يتجاوز سوق الذكاء الاصطناعي تريليون دولار بحلول 2030، وفقاً لتقديرات المؤسسات الدولية المتخصصة. هذه المؤشرات تعكس بوضوح أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد "أداة"، بل تحول إلى بنية تحتية ذكية تُعيد هيكلة الاقتصاد العالمي.
لكن الوصول إلى هذا المستقبل لا يتم من دون كلفة. فتقنيات الذكاء الاصطناعي – لا سيما النماذج التوليدية – تتطلب قدرات معالجة هائلة. تشغيل أنظمة مثل ChatGPT، على سبيل المثال، يحتاج إلى طاقة حوسبية تُقاس بالبيتا-فلوب، أما تدريب النماذج فيتطلب طاقة من مستوى الإكسا-فلوب، وهي قدرات تتطلب مراكز بيانات ضخمة تتراوح تكاليف إنشائها بين 7 و12 مليون دولار لكل ميغاوات، عدا عن تكاليف التشغيل السنوية التي قد تصل إلى مليونين لكل ميغاوات. وبذلك، فإن من لا يمتلك البنية التحتية الرقمية، لن يمتلك الغد.
من جهة أخرى، ترسّخ شركة "إنفيديا" مكانتها كقوة شبه احتكارية في مجال تسريع الذكاء الاصطناعي، بعد أن استحوذت على أكثر من 90% من سوق معالجات الرسوميات (GPUs) المستخدمة في هذا المجال، تاركة خلفها منافسين مثل AMD وإنتل بهوامش صغيرة لا تتجاوز 6% و2% على التوالي.
ومع تقدم أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، يبرز اتجاه جديد يتمثل في "الذكاء الاصطناعي الوكيلي" (Agentic AI)، وهي نظم قادرة على اتخاذ قرارات وإنجاز مهمات بشكل استباقي، من دون تدخل بشري مباشر.
وفقاً للتقرير، فإن نحو نصف الشركات الكبرى بدأت بتطبيق هذا النوع من الحلول في وظائف محددة، ما ينبئ بعصر تكنولوجي جديد تتراجع فيه الحاجة إلى الإشراف البشري الروتيني.
أما التجسيد المادي للذكاء الاصطناعي فيأتي من خلال الروبوتات البشرية، التي لم تعد محض خيال علمي. السوق الخاص بهذه الروبوتات يُقدَّر بـ3.9 مليار دولار اليوم، وقد يتجاوز 17 ملياراً بحلول عام 2030. كل روبوت بشري يولّد ما بين 5 إلى 8 تيرابايت من البيانات شهرياً، ما يفتح أبواباً جديدة في علم تحليل السلوك البشري والتفاعل الذكي.
وفي أفق أبعد، يلوح تحالف جديد بين الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية. ورغم أن هذه البيئة لا تزال نظرية في كثير من تفاصيلها، فإن الخبراء يرجّحون توفر أنظمة كمية فعالة بحلول عام 2035، ما قد يفتح آفاقاً غير مسبوقة لتسريع عمليات تدريب النماذج، أو تطوير محاكاة معقدة تُستخدم في مجالات مثل الطب، والطاقة، والمناخ.
لكن وسط كل هذه الطفرات، تبرز الحاجة إلى مفهوم "السيادة الرقمية" بوصفه صمام أمان للدول والمجتمعات. فامتلاك دولة ما لقدرتها على تطوير وتشغيل وإدارة بياناتها ونماذجها ومراكزها الخاصة يُعد اليوم شرطاً أساسياً لحماية استقلالها التكنولوجي، تماماً كما تحمي حدودها الجغرافية. وهنا، لا يمكن إغفال البعد الأخلاقي، إذ يزداد الضغط على الشركات والدول لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بصورة عادلة، شفافة، وغير منحازة.
في المحصلة، لا يعرض تقرير IDCA مجرد أرقام، بل يُعلن عن ولادة عصر جديد تُعيد فيه الخوارزميات تشكيل الاقتصاد، وتُبدّل علاقات العمل، وتُعيد رسم حدود النفوذ. السؤال لم يعد: هل سنستخدم الذكاء الاصطناعي؟ بل: من سيسيطر عليه، وكيف؟