من يملك حق تعريف "الضحية" اليوم؟

لم تعد الضحية تُعرّف وفقاً للحقائق، بل يتم تشكيلها من قبل أصحاب السردية الإعلامية الأقوى والمؤثرة. من غزة إلى سوريا.. من يملك حق تعريف "الضحية" اليوم؟

في قلب الأحداث المجنونة التي تعصف بالعالم، وتتسارع بصورةٍ غير مسبوقة، بحيث ينام الناس على حدث ويستيقظون على آخر أشد وطأة، تتغير طبيعة التعاطي مع المفاهيم والقيم والحقوق الفردية والجماعية التي راكمتها البشرية كمنجزٍ ثمين كلّف ملايين الضحايا، خصوصاً في القرن الأخير.

المفتاح في فهم هذا "العبث" بالمفاهيم وبالوعي الجمعي للبشر، هو صناعة السرديات الإعلامية والثقافية، وتأثيراتها على عوالم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وعلى العدالة بصورةٍ عامة كقيمةٍ وهدف بشري دائم. كأننا أمام طيف كلما اقتربنا منه يبتعد، ثم نعاود الاقتراب منه فتنتكس المحاولة، ثم ننتظر أملاً آخر.. وهكذا.

لقد هيمنت الصورة في هذا الزمن، وتحولت الكلمة إلى أداة عنفٍ، فصار مصدر تعريف "الضحية" من الواقع الميداني للمعاناة ومن الحقائق القانونية الراسخة، ليصبح مشروطاً بالسردية الإعلامية الغالبة، ومموّهاً بمنظومات القوة الناعمة التي تعيد تشكيل الوعي العالمي.

فمن هو الضحية اليوم؟ هل هو الإنسان الذي يفقد أرضه وأهله وبيته تحت القصف؟ أم ذاك الذي يخسر "شعوره بالأمان" بعد أن أباد عشرات الآلاف واحتل الأرض وانتهك كل شرعة دولية؟

لقد أصبح "الضحية" موقعاً يُمنح ويُنتزع، لا توصيفاً أخلاقياً أو قانونياً، بل بطاقة عبور إلى الشرعية السياسية والرمزية، تصوغها الماكينات الإعلامية، وتصادق عليها كارتيلات النفوذ وصنّاع القرار.

من السينما إلى الإعلام.. "الضحية" بين الواقع والتزييف  

  • وسائل الإعلام الكبرى لا تعكس الواقع بل تصنعه
    وسائل الإعلام الكبرى لا تعكس الواقع بل تصنعه

يكشف المشهد الدولي الراهن عن هندسة دقيقة لمفهوم "الضحية"، يقوم بها الإعلام الغربي بصورة ممنهجة. حيث تنقلب القاعدة، ويُقدَّم المعتدي بصورة منكسرة، مُجرَّد من قوته العسكرية والنووية، مُركَّزاً على "خوفه من الإبادة"، و"هشاشته الوجودية"، بينما يُغيّب صوت الضحية الحقيقي خلف ضوضاء الاتهامات بـ"الإرهاب" و"التحريض" و"اللاسامية".

وسائل الإعلام الكبرى لا تعكس الواقع، بل تصنعه. فهي تعمد إلى اقتطاع المشاهد، وتوظيف اللغة، وتركيز الكاميرا حيث يُخدم المسار السياسي. حين تُقصف غزة، يُفتتح التقرير بعنوان: "هجوم صاروخي على إسرائيل"، لا "مجزرة في مخيم النصيرات". وعندما تُقتل عائلة كاملة، يُذكر ذلك في السطر الثالث بعد "قلق المجتمع الدولي من تصعيد حماس".

عملت "هوليوود"، منذ عقود، على ترسيخ صورة نمطية تقوم على مركزية الضحية الإسرائيلية –واليهودية بشكل خاص – في التاريخ الحديث، ضمن سردية المحرقة والتهديد الدائم. هذا التصور سُحب على كل سياق سياسي معاصر، فصار أي تهديد لدولة الاحتلال هو امتداد لـ"خطر الإبادة".

من جهة أخرى، نادراً ما ظهرت في السينما الغربية صورة الفلسطيني كإنسان، أب، طفل، مبدع، مواطن تحت الاحتلال. حتى الأفلام "المتعاطفة" لا تخلو من تلميحات إلى الإرهاب أو التشكيك في النوايا، أو تقديم الضحية الحقيقية كفاعل غامض لا يمكن الوثوق به.

من يُعرّف "الضحية"؟

  • حتى الأفلام
    حتى الأفلام "المتعاطفة" مع فلسطين لا تخلو من تلميحات إلى الإرهاب أو التشكيك في النوايا

وفقاً لاتفاقيات جنيف، ونظام روما الأساسي، ومبادئ القانون الإنساني الدولي، فإن السكان المدنيين تحت الاحتلال يُعدّون ضحايا محميين. ويُعدّ الاستيطان، التهجير القسري، والاستهداف العشوائي جرائم حرب.

لكن هذه النصوص تُستخدم بانتقائية، ويُمنع تفعيلها متى تعارضت مع مصالح القوى الكبرى. فالعدالة الدولية تتحرك عندما يُقتل صحفي غربي، لكنها تصمت أمام مذبحة تُوثّقها عشرات الكاميرات في غزة. يتم إصدار مذكرات توقيف بحق قادة أفارقة، لكن يُحرّض علناً على إبادة الفلسطينيين من دون أي تبعات. هكذا تصبح القوة معياراً للشرعية.

أما المعضلة فليست في خرق القانون فحسب، بل في أن من يملك أدوات إنتاج السردية هو نفسه من يتحكم في معايير الشرعية. فالمحتل، إذا قدّم نفسه كضحية، يصبح عدوانه "دفاعاً عن النفس". أما المهجَّر، فإذا ردّ على القصف، يُوسَم بالإرهاب. هذه المفارقة تُفرغ القانون من مضمونه، وتحيل العدالة إلى امتياز لمن يحسن التحكم في أدوات الرواية.

الكارتيلات والمُؤثّرون: تحالف القوة الناعمة

  •  يلعب المؤثرون الجدد دوراً محورياً في إعادة تشكيل الوعي ولكن أيضاً في تضليله
    يلعب المؤثرون الجدد دوراً محورياً في إعادة تشكيل الوعي ولكن أيضاً في تضليله

خلف صناعة هذه الصورة المشوهة، تقف مؤسسات متشابكة من لوبيات، وشبكات علاقات عامة، وشركات أمن رقمي، وكارتيلات إعلامية، تسوّق سردية "الضحية المحتلة". 

"إسرائيل"، على سبيل المثال، تمتلك واحداً من أقوى لوبيات التأثير في العالم، وتنسق مع شبكات دولية لرصد الروايات، وضبط المصطلحات، وحذف أي محتوى يوحي بوجود ضحية حقيقية اسمها "فلسطين".

وبصورةٍ متصاعدة، لا بل محمومة اليوم، يلعب المؤثرون الجدد دوراً محورياً في إعادة تشكيل الوعي، ولكن أيضاً في تضليله. فالعديد من نجوم الفن والرياضة ينشرون رسائل "دعم للسلام"، لكن بلغة رمادية تُساوي بين القاتل والمقتول، وتخفي موقع الجريمة خلف شعارات فارغة. وفي المقابل، يتم قمع الأصوات الداعمة للعدالة، عبر الحملات المنظمة، والاتهامات الجاهزة بـ"دعم الإرهاب".

إعادة تعريف "الضحية" 

  • لا يمكن تعريف الضحية بناءً على تحالفات سياسية أو معايير اقتصادية
    لا يمكن تعريف الضحية بناءً على تحالفات سياسية أو معايير اقتصادية

الضحية الحقيقية ليست من يُظهره الإعلام باكياً، بل من حُرِم من حقوقه الأساسية، ومن سُلبت أرضه، ومن لا يملك أدوات الدفاع. فالفلسطيني الذي يعيش تحت الحصار في غزة أو يُطرد من القدس، هو الضحية. والسوري الذي سقط بين كماشة القوى المتصارعة، هو الضحية. واللاجئ الأفريقي الذي غرق في البحر المتوسط، هو أيضاً الضحية، والإيراني الذي يُمنع من حقه في الاستفادة من علومه وطاقاته لأغراضٍ سلمية، هو الضحية.

ولا يمكن تعريف الضحية بناءً على تحالفات سياسية، أو معايير اقتصادية. إذ لا يحق للمجتمع الدولي أن يصنف الضحايا وفقاً لولائهم أو قوميتهم أو ديانتهم. لأن العدالة بطبيعتها، وبالبداهة، يجب أن تكون شاملة أو لا تكون. وهذا ما يشير إلى فداحة أن تُمنح العدالة بقرار من محرري الصحف وشركات الإعلام، بدلاً من مواثيق الأمم المتحدة.

إن عصر "الضحية المُنتجة"، يجعل من غير الكافي أن تكون مظلوماً ليُعترف بك، بل عليك أن تنال ختم الموافقة من مراكز التأثير والنفوذ. في ظل هذا الواقع، تصبح مسؤولية المثقف، والمفكر، والباحث، ليس فقط توثيق الحقيقة، بل تفكيك السرديات، وكشف الآليات، والدفاع عن جوهر العدالة.

ويبقى السؤال الكبير "من هو الضحية؟" أحد ميادين الحرب الحديثة التي تجاوزت الأسلحة، لتشكل ميدان الكلمة والحق والتمسك بما راكمته الإنسانية في التاريخ وحقوق الإنسان والقانون.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك