منير الشعراني: ثورتان في الفن والسياسة

لا يتعامل الشعراني مع الحرف كمكوِّن تجريدي ضمن لوحاته، بل يصب اهتمامه بالخط وفلسفته وتثوير طاقته. ماذا عن معرضه في دمشق؟

  • من معرض منير الشعراني
    من معرض منير الشعراني

المتأمل في معرض "ملصقات الثورة"، للفنان السوري، منير الشعراني، الذي افتتح أمس الثلاثاء، في "مقر مدنية" في دمشق القديمة، سيلاحظ سعيه الحثيث للمواءمة بين ثورتين. الأولى متعلقة بالخط العربي بغية التحرُّر من سَلفيته التي حالت دون تطوّره ودخوله معترك الحداثة الفنية. أما الثورة الثانية فمرتبطة بمضمون العبارات التي يَمشُقُها بأسلوبه الخاص، وتُعلي من قيم الحرية والسلام والعدالة في كلّ من سوريا وفلسطين ولبنان والعراق والسودان.

ثورته الأولى جاءت من يقينه بأنّ الخط العربي يمتلك مقوّمات كثيرة تجعله قادراً على مواكبة الزمن. لذلك قام باستنطاقه وفق حيوية جديدة، والسير به من جُموده وتَزَمُّته إلى فضاءات أرحب، رغم أنه لم يتخلَّ كُلياً عن الالتزام بقواعده المتوارثة، بمعنى أنه استطاع أن يبني جسراً بين ماضي الخط وحاضره، عبر تشكيلات معاصرة، تجتهد في توضيب الكلمات ضمن مُربَّعات وأشكال هندسية أخرى، لكنها في الوقت ذاته تدفع المتلقّي إلى التأمّل مرتين، مرة في جماليات الشكل، وأخرى في المعنى الذي تُشكِّله الكلمات والجُمَل. 

لا يتعامل الشعراني مع الحرف كمكوِّن تجريدي ضمن لوحاته، بل يصبّ اهتمامه بالخط وفلسفته وتثوير طاقته، ولا سيما بعدما فرَّط كثيرون ممن يُعارضهم وينضوون تحت لواء "الحروفيين" بالخصوصية الجمالية التي تميّز الخطوط العربية، ولجأوا إلى تزيينات وتلوينات غير قادرة على التجذّر في الحاضر ولا التأسيس لأصالة جديدة تدفع باتجاه المستقبل. 

هكذا ترى في جميع اشتغالات الشعراني تفكيراً مُغايراً في بناء اللوحة وتكويناتها، مع دراسة وافية للفراغ وتموضع الأشكال ضمنه، إضافة إلى تطويع الحروف وآليات تركيبها إلى جانب بعضها، بحيث تُصبح الكلمات بُنى معمارية من حيث الامتداد والالتفاف وحسابات المساحة بدقة متناهية، خاصة عندما تكون مؤطرة بأشكال هندسية محدّدة تستوجب تحقيق توازن بين استقامة الحروف واستدارة النقاط الحمراء، في معظم لوحاته، وتحديد مراكز استنادها، وقواعد استقرارها، والتآلف الجمالي بين مكوّناتها وفضاءات الانسجام مع محيطها، ما أدّى في النهاية إلى امتلاك أعماله هوية بصرية خاصة ومميّزة. 

ورغم أنه في بعض اللوحات تتحوّل تلك العناصر الهندسية بتكراريتها المقصودة إلى ما يشبه الأعمال الزخرفية. لكن الغوص في فحوى الكلمات والعبارات التي يُشكِّلها الشعراني، يُعيدنا إلى ثورته الثانية مُعززةً بموقفه المناهض للظلم والطغيان والاستبداد على اختلاف رُعاته، والداعي لإحقاق الحقّ والعدالة والوقوف مع المظلومين أينما كانوا، فهو ينطلق من هَمّ وطني يناصر فيه الضعفاء والمعذّبين، سجناء رأي كانوا أم مُعتقلين أم مُغيَّبين أم مُهجَّرين، أو حتى مُتَّهَمين بانتمائهم لبلدهم أو طائفتهم أو مدينتهم. لذلك تراه ينادي بإنقاذ الساحل السوري، الذي تعرَّض لمجازر دموية وانتهاكات جسيمة بحقوق الإنسان، وقبلها طالب بملصقاته بأن أنقذوا الغوطة وسراقب وعفرين ودير الزور والسويداء من المظالم التي طالتها، وبأن "الجولان سوري وسيبقى" بعد التوغّل الإسرائيلي المستمر والذي يتمركز الآن في بلدات القنيطرة.

وفي سياقٍ متصل دعا إلى الوقوف مع فلسطين، وبأن العِزّة لغزّة، وأوصى بإنقاذ رفح وجب الجَرَّاح خلال العدوان الإسرائيلي المستمر على شعبنا الأعزل في المدن والقرى الفلسطينية المحتلة، مناشِداً بأن "المقاطعة مقاومة" أيضاً، وبأنه كذلك مع شعب لبنان في ظل الاعتداءات المتكررة عليه، داعياً أيضاً بالحرية للعراق والسودان. 

وإلى جانب ذلك فإنه يُثمِّن قيم العدالة الانتقالية، والديمقراطية، ويؤكد أن "الدين لله وسوريا للجميع"، بحيث تتحوّل لوحاته إلى صرخات يضمِّنها لاءاته الكثيرة مرة ضد القتلة والمُحرِّضين والطائفية، وأخرى ضد التجويع والترحيل والتشريد والتهجير والقصف والهاون، وفي ثالثة يرفع لاءاته في مواجهة الإرهاب، السجن، القتل، الحصار، النهب، المجازر، والترويع، وفي لوحة أخرى يُعلن رفضه للصمت، النفاق، التخاذل، الخضوع، الخنوع، اللامبالاة، التواطؤ، الهروب، والخوف. 

ويؤكّد في عمل يحمل الصيغة التشكيلية ذاتها لاءاته ضد الجهل، المرض، الفقر، الخوف، الهوان، التفرقة، التخلّف، التبعية، والتمييز.

  • عمل بعنوان
    عمل بعنوان "الجولان سوري وسيبقى" لمنير الشعراني

في المقابل، يعلن الشعراني تأييده للحرية دائماً، وفي لوحة مميّزة كتب "نعم للديمقراطية"، محاطةً بكلمة "سوريا" مكررة في الجهات الأربع، وداخل كلمة "سوريا" نقرأ أسماء مكوّناتها القومية والإثنية والطائفية المختلفة من السرياني العربي الكردي والآشوري، الإسماعيلي الشيعي الدرزي العلوي والمسيحي، الملحد والعلماني، بحيث أن الخط العربي يوحّد تلك المكوّنات بتكوينات آسرة.

أما على الصعيد اللوني، فإنّ الشعراني يختار ألواناً إعلانية جهورية، خاصةً الأحمر والأخضر والأبيض والأسود، ويُفاضل بينها، وأي منها سيملأ به كلماته، وأي منها سيكون في الخلفية، مُفسحاً المجال لدلالات تلك الألوان، التي تتماثل مع دلالاتها في أعلام بعض الدول العربية في أن تحدد خياراته. 

  • عمل بعنوان
    عمل بعنوان "أنقذوا الساحل" لمنير الشعراني

بهذه الطريقة ذاتها فإنه يوازن بين امتدادات الحروف والتفافاتها وتآلفاتها، قسوتها ولينها، حِدَّتها ومرونتها، كما فعل مع الـ"لا" التي جعلها مرة منحنية بانسيابية تُشبه السيف أو المنجل الشيوعي، وأخرى مستقيمة حادة لتدل على الحزم، وهذا الأمر يتعلق أيضاً بتراكيبه الهندسية وتشكيلاته للعبارات والجمل. إذ يُموضِعها ضمن تكوينات مربّعة أحياناً، أو مستطيلة أو على شكل مُعيَّنات، ويجعل منها في لوحات أخرى ضمن تكوين أشبه بالجوهرة، ليعلن في أعماله جميعاً فرادته في التعاطي مع الخط العربي واستمراره في تثويره، وجعله أداةً ثورية في خدمة الإنسان والوطن أينما كان.

يذكر أنّ المعرض تتواصل فعّالياته حتى 28 نيسان/أبريل الجاري. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك