منيرة جوّادي.. شرارة ثورة الملح في "تلك البلاد"
تقتحم "منيرة جوادي" بأسلوبها السردي الموارب قضايا الفساد والخيانة كمدخلات حقيقية وواقعية لأزمات البلاد مع واقعة الاستعمار قديماً وحديثاً.
-
"مخالب الملح" لمنيرة جوّادي
في روايتها "مخالب الملح"، الحائزة المرتبة الخامسة في الدور الثالثة من جائزة سليماني العالمية للأدب المقاوم، تقتحم الروائية التونسية منيرة جوّادي أحد الملفات الشائكة في بلادها.
وبدءاً من العتبة النصية، وصولاً إلى المتن الروائي، تتّبع الكاتبة أسلوب المواربة في القصّ، كأنها تتقصد التعمية عن ذكر المكان الذي تدور فيه الأحداث، فتستعيض منه بملفوظات حكائية عامَّة تصلح لكل مكان عرفته تلك الثورة، "الشعب في الجنوب يثور.. الشوارع من شمال البلاد إلى جنوبها تغصّ بالثائرين.. جبال الشمال الغربي حين اشتدّت المقاومة.. الريف الشمالي للبلاد.. معتقل الجبل الكبير.. والانتفاضة الكبرى في البلاد".
والبلاد هنا لا تقتصر على وطن بعينه، بل قد تحيل على كل البلاد التي شهدت ثورة الملح وغيرها من الثورات منذ بداية الاستعمار الغربي لكل الأقطار العربية وغير العربية، كأن الكاتبة تستحضر ثورة المهاتما غاندي في مسيرته اللاعنفية في إثر ثورته السلمية التي عُرِفَت بثورة الملح ضدّ الاستعمار البريطاني، وتلمح في الوقت عينه إلى المأساة التي عاشتها تونس على إثر الاستعمار الفرنسي وسرقة الملح، كنز تونس المخفي لعقود طالت، هكذا تبدو ثيمة الملح العنصر المهيمن على الإطار العام للرواية، والشاهد على التراجيدية التي تتحكم في مفاصلها.
ثمة نزوع نحو الماضي بأسلوب ميلودرامي، يستشفه القارئ منذ الصفحات الأولى للرواية، وحنين مستعر إلى زمن الأجداد الأوائل في صراعهم الدامي مع المستعمر القديم، كأنها تريد القول إن مقاومة المحتل إرث فطري شربناه منذ القدم، مستبطنةً رغبة جامحة لاستعادة ذاك الوعي الجمعي المغروس في الأجداد، في محاولة لإعادة إنتاجه وغرسه مجدداً في جيل الحاضر والمستقبل.
تبدأ عملية القصّ مع حسن صالح، الصحافي الثائر الذي يغرف من ماضي الأجداد الشوق والعزيمة والحكمة في مقارعة المستعمر، ووسيلته في المقاومة قلمه الحرّ، تضجّ في رأسه حكايات دامية عن جور المستعمر، ولاسيما بعد اندلاع الثورة الشعبية في عام 1952 في منطقة الشمال الشرقي للبلاد. يكتب مقالاً عن ذاك الزمن، عن الملح والدماء ونزف البلاد تحت ثقل الاستعمار، فيعارضه مدير المركز الإعلامي عزام في كل ما يكتب ويطالبه بكتابة مقالات حول الأزمة الغذائية في الصين، أو عن أحدث الموديلات العصرية للفتيات، بحجة خلو مقالاته من المعايير العالمية للكتابة، وفي ذلك تلميح صريح إلى ما تعانيه وسائل الإعلام من هيمنة تقلص دائرة حريتها المفترضة.
ثمّة حوارات اعتنت بها الكاتبة جيداً وضمّنتها إشارات دلالية تفتح أفق التأويل وتثير جملة تساؤلات قد لا يجد لها القارئ إجابات شافية. وبأسلوبها السردي الموارب ذاته اقتحمت قضايا الفساد والخيانة كمدخلات حقيقية وواقعية لأزمات البلاد مع واقعة الاستعمار قديماً وحديثاً.
هذه المواربة السردية تحرّرت منها الكاتبة تماماً، حين رسمت لنا مشهدية المعتقلات السرية في تلك البلاد التي استحوذ على كنوزها خونة الداخل والمستعمر الناهب لخيراتها، على حدٍّ سواء، فقدّمت ما يشبه الرواية التراجيدية المتناسقة في مساراتها السردية وحبكتها الدرامية الموغلة في التشاؤم.
وتطفح مشهدية المعتقلات بالوجع المخبوء في أقاصي الروح، لأنها صُمِّمَت وفق رؤية المستعمر ورغبته وأدارها خونة الداخل. وتختزل تلك المشهدية أقسى مظاهر الذل والخيبة، لعل أشدّها وجعاً ذاك النباح الصباحي المفروض على كل السجناء في الباحة الخارجية للمعتقل. تطغى المساحة السردية المخصصة للمعتقل على المتن الحكائي بمجمله، ربما لأنه بُنيَ على جوهر التراجيدية بكل أبعادها.
وتضمّنت الرواية عدداً لا بأس به من الشخصيات التي عملت الكاتبة على تأثيث بنيانها وفقاً للرؤية الدرامية للحكاية، لكنها صوّبت سهامها على شخصية حسن صالح والجدّة رقية بصفتهما شخصيتين ثابتتين في الموقف والرؤية ضمن السياق الروائي، وبَنَت شخصية الزوجة مريم وفق مسار التحول على نحو يتلاءم مع المشهدية المأسَوية للرواية، ثمّ عمدت إلى إصدار حكم الموت على طفل حسن ومريم، مُريد، حين أصابته عدوى الوباء القاتل المنتشر في تلك البلاد.
موت الطفل مُريد أفقد الوالدة مريم عقلها فدخلت متاهة الزهايمر، على الرغم من صغر سنها. الزوج في غياهب السجن والزوجة مسها الجنون والجدّة صابرة محتسبة والطفل في عالم الغيب، هل ثمة تشابه بين تلك المأساة في تلك البلاد، والمأساة التي تجري حالياً في غزة؟ وهل تجوز المقاربة؟ وحين أهدت الكاتبة روايتها "إلى مُريد"، هل كانت تقصد الأطفال الشهداء في غزة اليوم، أم الطفل الشهيد في تلك البلاد؟
وتعود الكاتبة إلى أسلوب المواربة مجدّداً في ختام الرواية، وتمزجه بقليل من الحبكة الملتوية، فتعمد إلى مفاجأة القارئ من خلال حادثة "نسف المعتقلات" المكتظة بالشباب والكهول من كل البلاد، حسن صالح هو الناجي الوحيد من تلك المأساة، بطريقة مفاجئة غريبة هي أقرب إلى الفانتازيا، وقد ترافقت نجاته من الموت أو من المعتقل مع إعلان شرارة الثورة الآتية من أصقاع البلاد لاستعادة "ملح الأرض"، ومع بناء أول قاعدة أميركية في البلاد بحجة محاربة الإرهاب. فأي سخرية تلك التي أبدلت المستعمر القديم بآخر من جلده، وما هو مصير تلك البلاد؟