نموذج للمتشرّد والفوضوي.. رؤوف مسعد يطوي شراع الذات ويرحل

نموذج للمتشرّد والفوضوي والرحّالة، ونصوصه أشبه بوليمة دسمة من الاعترافات وتعرية الذات والإيروتيكية الخشنة. من هو رؤوف مسعد؟

انطفأ أمس السبت في أمستردام، رؤوف مسعد (1937- 2025)، آخر روائي ينتسب إلى جيل الستينيات في مصر. في المقابل، كان يقف على حده في تأثيث نصوصه. إذ لطالما اقتحم التابوهات بجرأة من دون محسّنات بديعية مازجاً السيرة الذاتية بالفضاء العام، وتالياً يصعب تأطير تجربة صاحب "بيضة النعامة" في مربعٍ واحد، فهو متمرّد على الأقفاص بقوة دفع ذاتية في المقام الأول. 

هكذا تخلّى مسعد باكراً عن ماركسيته مستعيداً ريش الطائر الطليق ليحلّق في سماوات بعيدة بين المنافي. بدأت رحلته من سجن الواحات مروراً ببغداد، وبيروت، ووارسو، ليحط رحاله أخيراً في أمستردام. لم يصبح كاهناً كما كان يحلم والده، على العكس تماماً، فهو نموذج للمتشرّد والفوضوي والرحّالة الجوّال، الأمر الذي انعكس على طبيعة نصوصه المتشظية واللايقينية والقلقة، كما لو أنه في مولد تختلط فيه الأصوات وأشكال التعبير، فلا مسطرة لديه في تدوين سردياته. 

"بيضة النعامة" واحتدام الحواس

  • تخلّى رؤوف مسعد باكراً عن ماركسيته مستعيداً ريش الطائر الطليق ليحلّق في سماوات بعيدة بين المنافي
    تخلّى رؤوف مسعد باكراً عن ماركسيته مستعيداً ريش الطائر الطليق ليحلّق في سماوات بعيدة بين المنافي

هكذا جاءت روايته الأولى "بيضة النعامة" (1994) متأخرة، وبتشجيع من صديقه صنع الله إبراهيم، بعد أعمال مسرحية وتوثيقية، فأحدثت نوعاً من الصدمة للمتلقي: وليمة دسمة من الاعترافات وتعرية الذات والإيروتيكية الخشنة، وقراءة عميقة في مكابدات الجسد وسلطة الحواس. ذاكرة متدفقة بلا ضفاف عن هشاشة الكائن وشجاعته في هتك أسرار الصندوق الأسود واقتحام حقول الألغام الأكثر مناعةً. 

ولادته في السودان لأبوين مصريين رسمت دروبه المتعرجة من "بور سودان" صعوداً نحو مجرى النيل وصولاً إلى أمستردام. خرائط جغرافية وتضاريس ناتئة سنجد ظلالها في نصوصه التجريبية مثل" زجاج معشّق"، و"مزاج التماسيح"، و"غواية الوصال"، و"إيثاكا"، و"زهرة الصمت". 

نصوص ترسم خطاً عرضياً في السرد الروائي العربي منذ محاولاته الأولى في السجن، وإذا بالأوراق المبعثرة تخضع لمونتاج سردي ينطوي على فكرة العصيان واستنشاق هواء الحرية، وقلق الهوية، أولاً وأخيراً، فهذه العناصر تحضر بقوة في نصوصه كافة كترجيع لسيرة ذاتية تعتني بالسؤال أكثر من انهماكها في الجواب. 

ذلك أن الهويات المتعددة من "مكان البراءة الأول" في السودان، إلى مأزق الهوية الدينية، وصولاً إلى الحرية المطلقة في منفاه الأوروبي، أفرزت نصّاً هجيناً ومراوغاً وصادماً، وضعه في منطقة الشّك لا قفص اليقين. 

هكذا سيطارده طيف سعاد حسني في "إيثاكا"، كما لن يكتفي بالجزء العائم من الجليد في نصوصه الأخرى، إنما يحفر عميقاً في اضطرابات الجسد وأسباب الغواية وتقشير خلايا ما تحت الجلد، في نبذ صريح للأعراف والمحرّمات.

انتهاك البياض

  • ليخص رؤوف مسعد تجربته في الكتابة قائلاً:
    لخّص رؤوف مسعد تجربته في الكتابة قائلاً: "مش عاوز أمشي عالسطر"

كأن الكتابة بالنسبة إليه محاولة في انتهاك البياض وتلطيخه بالإثم الذاتي الذي يعافه الآخرون أو يخشون مقاربته، وهو بذلك يقف عند حافة الهاوية أو الكتابة بلا بنج (مخدر)، فما كان يجري في غرفة العمليات، هناك ما يوازيه في غرفة الكتابة، أو ما يسمى الكتابة باللحم الحي من دون أن يخشى الصدام مع قائمة طويلة من المحرمات من جهة، وخشية المخيال العربي من فتح الصندوق الأسود على الملأ كي لا يكون صاحبه ضحية فردية في ساحة الرجم.

بصحبة رؤوف مسعد يمكن استعادة مقولة النفّري "إذا رأيت النار فقع فيها ولا تهرب، فإنك إن وقعت فيها انطفت، وإن هربت منها طلبتك وأحرقتك". ففي هذا الطراز من الكتابة لا لجوء إلى حقنة مسكّنة، وإنما سرد مكشوف لا يكترث بحجم فواتير الخسارة تحت بند الطهارة الزائفة أو "الحلي المستعارة". 

هكذا عمل هذا الروائي المفرد على تأصيل نصوصٍ مضادة، كما لو أننا إزاء عملية رفع بصمات، في تحديد هوية هذا النصّ عن سواه، وقابليته للإقامة لا الزوال. 

يقول مسعد ملخّصاً تجربته في الكتابة "مش عاوز أمشي عالسطر"، وهو بهذا المعنى يشير إلى أن الكتابة لحظة حرية مطلقة بلا قيود أو البوح بحالته القصوى من دون اكتراث بالقواعد وهندسة السرد، وإذا باللغة تعمل في منطقة الافتراس من دون حياء، وتبعاً لمتطلبات دهاليز الذات في الخروج من نفق العيب.

"لمّا البحر ينعس" والكتابة في المثلث الممنوع

  • رؤوف مسعد الذي جاء متأخراً إلى الكتابة لم يعبأ يوماً بموقعه في خرائط الأجيال الأدبية
    رؤوف مسعد الذي جاء متأخراً إلى الكتابة لم يعبأ يوماً بموقعه في خرائط الأجيال الأدبية

في مذكراته "لمَّا البحر ينعس" يتجه رؤوف مسعد إلى كتابة صريحة من دون مواربة أو تخييل، أو لعله يقوم بغربلة ما سبق أن أورده في رواياته كشذرات من سيرته الذاتية ووضعها في سياقها الحياتي. 

هنا يستعيد صاحب "إيثاكا" مقاطع من حياته المتشظية بين المدن، مثل مركبٍ سكران تتقاذفه أمواج نهر النيل من السودان مسقط رأسه، إلى القاهرة، وبيروت، وحتى أمستردام مكان إقامته الحالي. 

على غرار ما كتبه في "بيضة النعامة" وما تلاها من نصوص هجينة وعصية على التجنيس، ينبش دهاليز الذاكرة مدوّناً بالعصب العاري طفولته المثلمة، وفترة السجن، وعذابات الحواس، كما سيقتحم مناطق محظورة في السيرة العربية لجهة المحرّمات والتعصّب الديني، وعلاقته بجسده وتجاربه ومغامراته السريّة، وآثام يوميات السجن، بالوضوح نفسه الذي تناول فيه علاقته بالمثقفين ومواقفهم المخادعة.

هكذا سيعيد رؤوف مسعد بعض شخصيات روايته إلى شجرة نسبها الأصلية، من دون زخرفة أو تزويق، متوغّلاً في تفاصيلها الحياتية التي ألهمته سردياً، ما يمنح المتلقي جرعة كثيفة عن كيفية استثمار الواقع في عمل المخيّلة. 

لا مناطق معتمةً في سرديات مسعد، إذ "تنجلي غمامة البصيرة تدريجاً، وأرى ما كنت لا أراه سابقاً، وهو موجود بمتناول اليد، لكني إما أحجمت عن رؤيته أو رفضت رؤيته بقصد ورعونة". 

ههنا تتناوب الوقائع الخشنة مع الرقة، سير النساء المهجورات ومن يمنحن الطمأنينة والألفة، التجوال في أماكن المتعة، وقسوة أيام المعتقل، الشيوعي المتمرّد، والقديس الذي يعيش عزلته الروحانية. 

إنها حمّى المكاشفة من دون ضوابط، كما لو أننا حيال دريئة مكشوفة لا تخشى سهام الآخرين. مع ذلك، يعترف مسعد بألا سيرة ذاتية عارية نهائياً، لكنه يعوّل على الصدق في المقام الأول، تبعاً لتدفقات الذاكرة وجسارتها في تقشير بيضة الذات من أسرارها المخبوءة والقصيّة. 

نعاس يستدعي عمراً طويلاً بعتبات وسلالم لا تقتفي زمناً خطيّاً بقدر العناية بالمنعطفات الحادة التي تركت ندوبها على حياة صاحب "زجاج معشّق"، من موقع الخبرة لا البلاغة الأدبية. هكذا يدلق حياته دفعةً واحدة، غير عابئ بالنوع أو هوية النصّ، أهو سيرة أم مذكرات أم اندفاعات ذاكرة؟ 

في "لمَّا البحر ينعس"، تتلاطم الأمواج حيناً، وتصفو المياه طوراً، ولكن بأقصى أحوال البراءة، فروائينا الذي جاء متأخراً إلى الكتابة لم يعبأ يوماً بموقعه في خرائط الأجيال الأدبية، ولم يحط نفسه بمريدين كصاحب طريقة. لذلك فهو لا يتردّد في إشعال النار في أكثر الغابات كثافةً، وكأن الكتابة في مجملها حريق لا ينطفئ.

في تقديمه لمذكرات رؤوف مسعد، يقول يوسف فاخوري: "هل كان على رؤوف مسعد أن يمتلك جمرة ناره كي يحكيها سرداً وهو الحكّاء البوّاح بما يمور داخله وحوله، كاشفاً بؤرته الجرثومية التي يخشى الناس من البوح بها تحت دعاوى العيب والحرام وهم يتحرقون شوقاً للتعبير عنها فتتبدى في حوارات الجلسات الخاصة، وفي أغاني الأفراح تفضح بمفردات صريحة أو مواربة عن مكنونات حبيسة؟".

 ويضيف بأن هذا الحكّاء الجريء "يضرب في أعماله السردية بقوة وجرأة نادرة في المثلث الممنوع الذي طالما خنق الإبداع الفني والأدبي.. محيّرة هي شخصيته لمن يملك أفكاراً جاهزة ومعلّبة لا تقبل إلا نفسها بأكثر مما يحتمله واقع وهب نفسه لتخلّف أصبح مقيماً".

اخترنا لك