نهاية اليهودية

اليهودية التي لم تمت في معسكرات أوشفيتز ربما تلقى نهايتها اليوم.

  • بإنكارها الجوهري للمنفى والشتات تخون الصهيونية الجوهر العميق لليهودية
    بإنكارها الجوهري للمنفى والشتات تخون الصهيونية الجوهر العميق لليهودية

يفنّد الفيلسوف الإيطالي، جورجيو أجامبين (Giorgio Agamben)، أحد أهمّ مفكّري ما بعد الحداثة، الأسس التي تقوم عليها الدولة القومية اليهودية. يرى أجامبين (1942) أنّ القومية اليهودية تتنكّر لأصول اللاهوت اليهودي، الذي يربط بقاء اليهودية بالمنفى والشتات.

ويسعى أجامبين إلى التمييز بين مكوّنات الدولة القومية المسيحية الغربية، التي استوردتها "إسرائيل" من التقاليد الغربية، وبين الأصول اللاهوتية لليهودية. وتتجلّى هذه الأصول في مبدأين رئيسيين هما: الجالوت والتيقون.

ويمثّل "الجالوت" مفهوم المنفى، وهو مصطلح يهودي يعبّر عن اعتقاد اليهود بأنهم أمة اقتُلعت من أرضها وخضعت لحكم أجنبي. أما "التيقون"، فيشير إلى مفهوم إصلاح العالم، حيث أنّ الرب، وفق الاعتقاد اليهودي، في انفصاله عن ذاته بغية منح البشر مكاناً للعيش، أصبح العالم يتسم بالنقصان. من هنا، فإن "التيقون"، أو التقويم، هو استعادة للنظام وبداية لإصلاح العالم.

بناءً على نفي هذه الركائز الأساسية لليهودية، يرى أجامبين أنّ الدولة القومية اليهودية، متجسّدة في "دولة" الاحتلال الإسرائيلي، تجسّد خلاصة نظريته النقدية للعقلانية الغربية، وتراكم آليات السلطة والرقابة التي أدت إلى نشأة هذه "الدولة" الفاشية والشمولية، وهنا الترجمة العربية لنصّ بعنوان "نهاية اليهودية" كتبه أجامبين:

  • الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين
    الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين

لن يستطيع المرء فهم معنى ما يحدث في "إسرائيل" هذه الأيام، إذا لم يفهم أنّ الصهيونية تشكّل نفياً مزدوجاً للحقيقة التاريخية لليهودية. 

في الواقع، لا يقتصر الأمر على نقل الدولة القومية المسيحية لليهود فقط، وإنما تمثّل الصهيونية ذروة عملية التذويب، والتي شرعت منذ أواخر القرن الــ 18 في إلغاء الهوية اليهودية. 

وعلى نحو حاسم، كما أوضح أمنون راز-كراكوتسكين Amnon Raz-Krakotzkin في دراسته النموذجية، يقع في تأسيس الوعي الصهيوني نفي آخر، ألا وهو نفي "جالوت" Galut، الذي يمثّل المنفى، وهو المبدأ المشترك لكلّ الأشكال التاريخية لليهودية التي نعرفها. 

تسبق مقدّمات هذا المفهوم للنفي تدمير الهيكل الثاني، وهي موجودة بالفعل في الأدبيات التوراتية. ويمثّل المنفى الشكل الحقيقي للوجود اليهودي على الأرض والتقليد اليهودي بأكمله - بداية من المشناه Mishnah إلى التلمود، ومن هيكل الكنيس إلى ذكرى أحداث الكتاب المقدّس - والتي تمّ تصوّرها وعيشها من منظور المنفى. 

وفقاً لليهود الأرثوذكس، فإنّ اليهود الذين يعيشون في "إسرائيل" هم أيضاً في المنفى، وإنّ الدولة وفقاً للتوراة، التي ينتظر فيها اليهود مجيء المسيح، لا علاقة لها بالدولة القومية الحديثة، إلى درجة أنّ جوهرها يكمن على وجه التحديد في إعادة بناء الهيكل وإعادة تقديم الأضحيات، وهو الأمر الذي لا تريد "إسرائيل" حتى مجرّد أن تسمع عنه.

ولا ينبغي نسيان أنّ المنفى، وفقاً للديانة لليهودية، ليس وضعاً خاصاً باليهود فحسب، بل يتعلّق الأمر بالحالة الناقصة للعالم ككلّ. بحسب بعض الكباليين ومنهم لوريا، يعرف المنفى الحالة الألوهية تماماً، والتي خلقت العالم عبر نفي نفسها عن نفسها، وسوف يستمر هذا المنفى حتى ظهور تيقون Tiqqun أي التقويم، والذي يمثّل استعادة النظام الأصلي. 

هذا بالضبط هو القبول غير المشروط للمنفى، مع الرفض الذي ينطوي عليه لكلّ الأشكال الموجودة للدولة، والذي يؤسس تفوّق اليهود على سائر الأديان والبشر الذين خضعوا للدولة. إنّ اليهود، إلى جانب الغجر، هما الشعبان الوحيدان اللذان رفضا شكل الدولة، ولم يخوضا أيّ حروب، ولم يلطّخا أنفسهما بدماء الشعوب الأخرى.

بإنكارها الجوهري للمنفى والشتات من أجل الدولة القومية، تخون الصهيونية الجوهر العميق لليهودية. فلا عجب إذن من أن يؤدّي ذلك الاستئصال إلى إنتاج نفي الآخر، وهو نفي الفلسطينين، وقيادة "الدولة" الإسرائيلية للتعريف عن نفسها بأقصى أشكال الوحشية والتطرّف لـ "الدولة" القومية الحديثة. إنّ الادّعاء التاريخي العنيد الذى يرى أنّ الشتات وفقاً للصهيونية قد استثنى اليهود منه، يشير في الوقت نفسه إلى الاتجاه ذاته. لكن ربما يعني ذلك أنّ اليهودية التي لم تمت في معسكرات أوشفيتز، ربما تلقى نهايتها اليوم.

ترجمة: محمد السادات - مصر 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك